الانتخابات وفرص التغيير.. هل تتوفر الجرأة على المبادرة؟
تزداد الأجواء الفلسطينية سخونة مع وبعد الاجتماعات التي عقدتها اللجنة المركزية والمجلس الثوري لحركة فتح، وتم فيها التأكيد على المضي قدمًا في إجراء الانتخابات والانفتاح على كل الاحتمالات لخوضها بقائمة منفصلة، أو بقائمة مشتركة، أو بقائمة وطنية ائتلافية تضم الجميع، والأهم اتخاذ قرار بمنع القيادات من الصفين الأول والثاني من حركة فتح والوزراء وأعضاء المجلس التشريعي السابقين من الترشح للانتخابات القادمة (وهذا حق باسم التجديد وإتاحة فرصة للشباب وعدم ترشيح وجوه كالحة، ولكن قد يراد به باطل، أي التحكم بتشكيل القائمة)، وتهديد كل من يفكر من الفتحاويين بخوض الانتخابات بقوائم أخرى بمنعه بالقوة ومهما تطلّب الأمر.
يدلّ ما سبق على أنّ معظم قيادات وكوادر "فتح"، باستثناء أعضاء القائمة المركزية، ممنوعون فعليًا من ممارسة حقهم في الترشح للانتخابات. مفهوم لو كان الرد على من يرغب بالترشح في قائمة أخرى بإحالته إلى محكمة حركية قد تقرر فصله، أما التهديد بمنعه بالقوة فهذا أمر خطير يمس بحرية الانتخابات ونزاهتها، ويدل على التوتر والارتباك وعدم الثقة بنتائج الانتخابات، ويمنع أو يقيد أعضاء "فتح" الذين يزيد عددهم على 100 ألف من ممارسة هذا الحق، كما لا يعني بالضرورة تجديدًا، بل يمكن أن يضع أشخاصًا في القائمة يهبطون بالبراشوت، ويكونون من أهل الولاء والثقة أسوة بأغلبية التعيينات التي تمت في المدة السابقة، خصوصًا عشية إصدار المراسيم.
من حق "فتح" أو أي فصيل أو حزب أن يلتزم أعضاؤه بالقائمة المركزية، لكن بشرط أن تلتزم قيادته بما هو وارد في أنظمته الداخلية لجهة أن تنفذ "فتح" ما هو موجود في لوائحها الداخلية بأن تشكّل وتقر اللجنة المركزية والمجلس الثوري قائمة المرشحين على المركزية؛ أو من خلال طريقة ديمقراطية أفضل ومعتمدة على امتداد العالم، عبر إجراء انتخابات داخلية تمهيدية لاختيار القائمة على أساس الترشيح، وفق معايير وشروط وطنية ومهنية وموضوعية متعارف عليها، تسمح لكل من ينطبق عليه الترشح، سواء كان من الهيئات القيادية أم لا، بحيث تجمع ذوي الخبرة والكفاءة من كبار السن من القيادات وذوي المؤهلات والطاقة والحيوية والإبداع والخبرة من الشباب والنساء وغيرهم.
إن الاستمرار في قرار منع الهيئات القيادية من الترشّح شأنه مثل من يطلق النار على قدميه، وقد يكون مجرد ترهيب وتهديد تكتيكي، فلا يمكن، ولا أعرف كيف يمكن، أن تقوم الهيئات القيادية بحملة انتخابية لدعم قائمة انتخابية لا يوجد لها حق المشاركة فيها، ولا أعرف كيف تكون الانتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها إذا بدأت العملية باتخاذ قرارات بقانون قبل أربعة أيام من صدور مراسيم الانتخابات تجعل السلطة القضائية ملحقًا أكثر بالسلطة التنفيذية، إضافة إلى ما يتردد حول تفاهمات ثنائية على خوضها بقائمة مشتركة مع حركة حماس، أو وطنية تضم مختلف الفصائل، ما يحوّلها إلى قائمة تزكية، ويجعل الانتخابات ليست أكثر من محاولة لاستنساخ الوضع الراهن، والتأهل استعدادًا للعودة إلى مفاوضات سقفها منخفض أكثر من سابقاتها.
ومع ذلك، يمكن أن تكون الانتخابات خطوة ملموسة إلى الأمام وشق الطريق نحو التغيير المنشود الذي طال انتظاره، إذا وضعت في سياق التأسيس لبلورة تيار وطني عريض قادر على النهوض بالوضع الفلسطيني والكفاح التحرري، بهدف توفير متطلبات مواجهة التحديات والمخاطر وتوظيف الفرص، وإذا شهدت الانتخابات قوائم عدة تتنافس في إطار الوحدة، سواء إذا اتفقت حركتا فتح وحماس وبقية الفصائل على خوضها بقوائم منفصلة أو مشتركة.
فإذا تمكّن اليسار من تشكيل قائمة واحدة تضم شخصيات وطنية يمكن أن يحافظ على هويته ودوره المستقل والمتميز ويوحد صفوفه ويضاعف المقاعد التي سيحصل عليها، فبدلًا من أن تكون سبعة مقاعد موزعة على قوائم عدة مثلما حصل في الانتخابات السابقة، يمكن أن يحصل على ضعف هذا العدد، وبالتالي يمكن أن يتحول إلى لاعب قوي، وليس ثانويًا، أو شاهد زور كما كان منذ وقوع الانقسام وحتى الآن.
وحسب الأنباء المتداولة، يمكن أن تتشكل قائمة بجهود مشتركة من مروان البرغوثي وناصر القدوة وغيرهما من الشخصيات الفاعلة من "فتح" وخارجها، وإذا صحت هذه الأنباء فالأفضل أن تكون قائمة وطنية تستهدف الإنقاذ الوطني والإصلاح الديمقراطي الشامل وليست مجرد قائمة انتخابية. وفي هذه الحالة، فإن قائمة كهذه تمتلك فرصة لكي تمثل نواة تغيير يلتف حولها تيار وطني عريض يضم ممثلين من مختلف المناطق والشباب والمرأة وذوي الكفاءة والخبرة والانتماء الوطني؛ تيار دائم لا تنتهي مهمته بالانتخابات التشريعية، ولا بمحطاتها الثلاث، بل تيار عليه أن يستعد لكل الاحتمالات، بما فيها عدم إجراء الانتخابات لأسباب داخلية أ وخارجية أو كليهما، ويبني على مخرجات العمل خلال فترة التحضير للانتخابات كبروفة لبناء القوة القادرة على شق مسار جديد نحو التغيير المنشود.
لا يعقل أن يكون جوهر التنافس جريًا وراء مصالح شخصية ومقاعد برلمانية وعلى الحصص والمكاسب، ولا يعقل أن يكون هذا هو السبب لتشكيل القائمة، بل لا بد أن يكون هدفها النهوض الفلسطيني من خلال إعادة بناء منظمة التحرير الموحدة، ويكون رافعتها الأساسية برنامج سياسي وطني قادر على التحليق فلسطينيًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا، وقادر على المضي في نهج قادر على إنهاء سلطة الحكم الذاتي والمرحلة الانتقالية والتزامات اتفاق أوسلو على طريق إنجاز العودة والحرية وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، والسيادة والاستقلال لدولة فلسطين؛ برنامج يجسد المصلحة الوطنية والقواسم المشتركة، ويجسد الأمل بإمكانية تحقيق الشراكة الحقيقية الكاملة، من خلال تجسيد الديمقراطية التوافقية، ووضع خطة لإنجاز الوحدة الوطنية الحقيقية على أساس إنهاء هيمنة وتفرد أي شخص أو فصيل على المؤسسات الفلسطينية في السلطة والمنظمة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
إذا كانت الانتخابات في الظرف الحالي، ورغم كونها تحت الاحتلال وفي ظل الانقسام، ستجري، فيجب خوضها، خصوصًا في ظل عدم وجود بديل عنها، مثل جبهة وطنية عريضة وفاعلة، أو انتفاضة عارمة، ما يعني أن المقاطع لها رغم حقه في المقاطعة يمكن أن يعزل نفسه ويقلل من قدرته على التأثير فيما يجري، فأقل ما يمكن الرهان عليه تحويلها إلى معركة ضد الاحتلال ومن أجل إنهاء الانقسام، عبر تشكيل قائمة وطنية وحدوية تعددية ومفتوحة لكل من يوافق على برنامجها، شرط ألا يكون فاسدًا، وتعيد ألق الحركة الوطنية وحيوية القضية الفلسطينية بأبعادها العربية والإسلامية والإنسانية والأممية، كما تعيد بريق المقاومة المثمرة، ليكون العمل السياسي لحصاد ما تزرعه، أي بما يضمن أن تكون المفاوضات مثمرة، وذلك بعد إحداث تغيير جوهري في ميزان القوى، قادر على تحقيق تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المقرة في الشرعية الدولية، بعيدًا عن معادلات الاستقطاب بين المحاور الإقليمية والعربية والدولية، على أساس أن فلسطين هي المحور، وأن الموقف من أي بلد أو فصيل أو محور يتحدد بمدى دعمه وقربه من القضية الفلسطينية.
إن أخطر ما يمكن أن نشهده في الانتخابات القادمة التنافس بين قوائم وطنية وأخرى تمثل السلام الاقتصادي، أو تمثل العشائر والعائلات، أو مصالح جهوية أو قطاعية، أو بين قوائم تتلقى الدعم من هذا المحور أو ذاك، أي يجب ألا يكون التنافس على من يمثل ومن يحكم ومن يقود، وإنما على البرنامج الأفضل، والأكثر جدية وفعالية وانتماء وخبرة وقدرة على تحقيق الأماني والأهداف الفلسطينية.
ما قد يشجع على الإقدام على هذه الخطوة الجريئة المتمثلة في تشكيل قائمة الإنقاذ الوطني، مع فرص ائتلافها مع قوائم أخرى، مثل قائمة اليسار قبل أو بعد الانتخابات، ما جاء في آخر استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في الثلث الأول من شهر كانون الأول الماضي، من أن قائمة يرأسها مروان البرغوثي ستحصل على 25% من الأصوات، بينما ستحصل قائمة "فتح" الرسمية على 19%، وهذا قبل إصدار مراسيم الانتخابات وقبل إمكانية أن تضم القائمة أسماء وازنة، مثل ناصر القدوة، وغيره من الفتحاويين والوطنيين المستقلين.
لن تكون الانتخابات تعددية وتنافسية وتعكس إرادة الشعب الفلسطيني ومصلحته من دون قائمة "فتح"، وقائمة اليسار، وقائمة وطنية فارقة، وقوائم أخرى ذات بعد إسلامي وغيره تضم "حماس" والجهاد إذا قررت المشاركة في الانتخابات التشريعية، بحيث تعكس مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، فهي إن جرت - ويجب أن نسعى لكي تجري - يجب أن تكون خطوة إلى الأمام، أما من دون ما سبق فستكون خطوة إلى الوراء، أو في أحسن الأحوال مراوحة في نفس المكان، وستشرعن الانقسام، وتجدد شرعية السلطة، وتؤهلها للمشاركة في عملية سياسية سقفها الأعلى اتفاق أوسلو، وتضعها في أحسن الأحوال أمام واقع لا يتيح سوى حل تصفوي، وتكون بذلك و"كأنك يا أبو زيد ما غزيت".
طبعًا، ممكن أن يؤدي تشكيل قوائم منافسة، سواء إذا شكلت قائمة مشتركة أم لا إلى زيادة العوامل والأسباب التي تدفع إلى عدم إجرائها، فأحد محركات إجراء الانتخابات القادمة تصوّر إمكانية أن تكون مضمونة النتائج، وهذا لا يليق بالشعب الفلسطيني وتجربته النضالية والتعددية التي ساهمت بقوة في بقاء القضية حية. ومع ذلك، فإن الانخراط في هذه العملية، حتى وإن لم تستكمل، سيشكل بروفة يمكن البناء عليها لبناء تيار التغيير المنشود.
يجب الاستعداد لإجراء انتخابات تعددية تنافسية حتى الرمق الأخير، مهما كانت احتمالية عقدها ضعيفة أو قوية، فهي يمكن أن تكون فرصة للإنقاذ الوطني، وهذا يتوقف على توفر الوعي والإرادة لعناصر ومجموعات منتشرة بكثرة في صفوف الشعب الفلسطيني وقواه المختلفة تريد توظيف الانتخابات للتغيير، فالانتخابات وسيلة، ووحدها لا تحدث التغيير، وإن تقاعست عن الإقدام عليها ستتحمل المسؤولية أمام الشعب والتاريخ، وقد تكون الفرصة الأخيرة إلى إشعار آخر.
فهل تتوفر الجرأة على المبادرة؟