نحو "هندسة" الانتخابات الفلسطينية

بقلم: 

<p>اتفقت القيادات الفلسطينية في القاهرة مؤخرا على تشكيل حكومة وحدة وطنية واجراء انتخابات، وبحيث تبدأ إجراءات التنفيذ كما أعلن بإصدار مراسيم رئاسية تحدد الآليات والمواعيد، وهو اتفاق يُرحب به بطبيعة الحال ويُرجى له مصير افضل من الاتفاقات التي سبقته. السطور التالية تُناقش مسألة الانتخابات الفلسطينية وضرورة التأمل في &quot;كيفية وآلية&quot; القيام بها، وتدعو الى &quot;هندستها&quot; مسبقا حتى لا تأتي بنتيجة تعيد الامور الى المربع الأول. وجزء من هذه الافكار اوردتها في مقال نشر منذ عام تقريبا وعقب اتفاق آخر بين فتح وحماس على اجراء الانتخابات، واعيد اقتباسها هنا. ابتداء يتوجب التوكيد على فكرة اساسية وهي ان المحافظة على الانتخابات الدورية في اي نظام سياسي هي احدى علامات سلامة وصحة ذلك النظام، بل واساس ديموقراطيته.</p>
<p>والديموقراطية هي افضل &quot;آلية&quot; توصلت اليها المجتمعات الحديثة كي تتخلى عن منطق الاحتكام الى القوة لفض الصراعات والتنافسات الداخلية. وهي مرة اخرى مجرد &quot;آلية&quot; وليست أداة سحرية لحل المشكلات والمعضلات التي تواجه المجتمعات. وهذه نقطة اساسية في فهم الديموقراطية (والانتخابات ايضا)، ذلك ان كثيرا من الفهم السائد للديموقراطية وخاصة في مجتمعات الانتقال الديموقراطي، او مجتمعات الاستبداد، يخلع على الديموقراطية إمكانيات لا تدعيها. فتحقق الديموقراطية ووفقا التصور التخيلي عند البعض سوف يجلب حلولا سريعة وقاطعة لكل المعضلات ودفعة واحدة: الفقر، البطالة، الفساد، العدالة الاجتماعية، مواجهة التدخلات الخارجية، الخ. وهي بهذا تتحول الى &quot;برنامج سياسي&quot; او ايديولوجية مطلوب منها تحقيق قائمة طويلة من المطالب التي تراكمت في عهود وعقود الاستبداد المنقضية.</p>
<p><br />
وواقع الامر ان وظيفة الديموقراطية هي غير ذلك ولا تتجاوز توفير الاجواء الصحية والسلمية للبرامج السياسية والايديولوجيات المختلفة كي تتنافس في ما بينها وتصل الى السلطة. ووقتئذ، اي حال تسلم الظافر منها السلطة، يصبح مطلوبا منه تطبيق البرنامج السياسي الذي يريد من خلاله معالجة المعضلات التي تواجه المجتمع. وفي هذه المرحلة، اي مرحلة ما بعد الانتخابات، فإن دور الديموقراطية يتحول الى تعزيز المحاسبة وترسيخ مجتمع الشفافية واسناد القضاء المستقل والاعلام الحر بهدف محاصرة السلطة بالرقابة الدائمة وقطع الطريق على اي سوء استغلال للسلطة. يحدث ذلك في سياق سيادي دستوري ومستقل وضمن سيرورات سياسية طبيعية، وذلك كله مختلف عن الوضع الفلسطيني.<br />
فلسطينيا، تتم الانتخابات تحت سقف الاحتلال الاسرائيلي وفي غياب سيادة تامة، وفي ظرف تاريخي ما زال الشعب الفلسطيني يناضل فيه من اجل التحرير والحرية والاستقلال. وبهذا فإن &quot;المشروع الديموقراطي&quot; في فلسطين يواجه معضلات بنيوية هائلة لا يواجهها ذات المشروع في البلدان الاخرى التي تمر بعمليات انتقال ديموقراطي اعتيادية.</p>
<p>لا يعني ذلك وبأي حال من الاحوال التسويغ لإدارة للديموقراطية والعملية الانتخابية في فلسطين، إذ رغم كل المعوقات الناشئة عن الوضع غير الطبيعي تبقى ممارسة &quot;نصف ديموقراطية&quot; افضل الف مرة من غيابها كاملة. لكن الوضع غير العادي يستلزم مقاربة مختلفة وغير عادية للديموقراطية وللانتخابات التي هي مكونها الاساسي.</p>
<p><br />
لا يتحرك الفلسطينيون في فضاء حر يستطيعون فيه ممارسة حرية الانتخابات وتخويل صندوق الانتخابات للقيام بحسم الصراع والتنافس السياسي الداخلي بطريقة طبيعية كما يحدث في اي وضع عادي آخر يتسم بالسيادة والاستقلال. العالم كله يقف على اطراف اصابعه اذا نظمت انتخابات فلسطينية، وكل طرف يستعد للانقضاض على النتيجة: إسرائيل، الدول الاقليمية، الولايات المتحدة، اوروبا، الامم المتحدة، وهكذا. يصبح &quot;صندوق الانتخابات الفلسطيني&quot; كأنه صندوق عجائب، يخضع للمراقبة الدولية ونتيجته تؤثر في معادلات وسياسات وقد تقلب امورا كثيرة رأسا على عقب. ما افرزه هذا الصندوق العام 2006، بفوز حماس في الانتخابات، قاد إلى حصار إسرائيلي قاتل لقطاع غزة لمدة سبع سنوات، ثم شن حربين عليها، وداخليا تسبب في انقسام فلسطيني مدمر. السبب الجوهري في ذلك ان العملية الديموقراطية وانتخاباتها تمت تحت الاحتلال وفي ظل غياب السيادة والتحرر.</p>
<p><br />
ما زالت الشروط البنيوية المسيطرة على الوضع الفلسطيني ذاتها: احتلال اسرائيل والتغول الدائم لغطرستها، تهديدات الولايات المتحدة، انحياز الغرب، الضعف العربي، اضافة إلى غياب السيادة الفلسطينية والارادة الحرة التي توفر للفائز بالانتخابات المناخ الصحي والحر لتطبيق برنامجه السياسي. في نفس الوقت هناك حاجة فلسطينية ماسة للانتخابات لأن الشرعية السياسية للوضع القائم سواء في الضفة الغربية او قطاع غزة قد تهاوت إن لم نقل انتهت. فترة رئاسة ابو مازن انتهت منذ امد، وفترة حكم حماس القائمة على شرعية الفوز بانتخابات 2006 انتهت هي الاخرى، وبالتالي هناك ضرورة ملحة لشرعية جديدة. لكن الخطورة هنا ان &quot;صندوق الانتخابات الفلسطيني&quot; قد يأتي بنتيجة تعيد تأزيم الامور (نظرا للمعضلات البنيوية التي ذكرت) في نفس الوقت الذي يؤسس فيه لشرعية جديدة. بمعنى آخر، ماذا لو فازت حماس مرة اخرى في الانتخابات، وبقيت مسيطرة على قطاع غزة، فما الذي سيختلف؟ وماذا لو فازت فتح في قطاع غزة، هل ستتخلى حماس عن بنيتها الامنية وسيطرتها هناك؟ وماذا لو فازت حماس في الضفة الغربية؟ هل تستطيع في هذه الحالة إدارة الامور والضفة كلها بشكل او بآخر هي في قلب الحوت الاسرائيلي؟<br />
كيف نعمل إذن على التمسك بالممارسة الانتخابية التي وحدها تمنح شرعية للسلطة القائمة، وتجذر الخيار الديموقراطي ولكن في نفس الوقت نمنع الانتخابات من توريطنا في مأزق جديد؟ بعض الافكار المطروحة فلسطينيا تقول إن السبيل الى ذلك يتمثل في الاتفاق المُسبق بين القوى المتنافسة، وتحديدا فتح وحماس، على مبدأ المشاركة وليس المغالبة بعد الانتخابات، أي ان يكون في جوهر اتفاق المصالحة توافق على ان سلطة وحكومة ما بعد الانتخابات سوف تكون سلطة وحكومة ائتلافية تضم كل الاطراف ولا ينفرد فيها فصيل وحده حتى لو فاز بالأغلبية. وهذه فكرة معقولة تحاول تدجين النتيجة الانتخابية مُسبقا. جانب الضعف الواضح في هذه الفكرة يتمثل في إمكانية عدم الالتزام بها بعد الانتخابات في حال اكتسح احد الاطراف الانتخابات واسكرته نشوة النصر، او فشلت مفاوضات تشكيل حكومة ائتلافية، او تطورت ظروف وضغوط خارجية تعيق تشكيل الائتلاف الحكومي المتفق عليه.</p>
<p><br />
الخيار الآخر الذي تطرحه هذه السطور للنقاش يبني على فكرة التحالف الائتلافي السابقة ويتمثل في &quot;هندسة&quot; العملية الانتخابية والسيطرة على نتيجتها مسبقاً حتى لا تنفلت بأي اتجاه غير ائتلافي. ويتم ذلك عن طريق خوض الانتخابات بقائمة وطنية موحدة عمودها الفقري فتح وحماس يتم الاتفاق عليها عبر الحوار والنقاش المُسبق، وتوزيع الاحجام والنسب. اذا اتفقت الحركتان على قائمة موحدة وبرنامج سياسي مرحلي يقوم على توافقات الحد الادنى فإن نتيجة الانتخابات لن تحمل اية مفاجأة إذ ستفوز بها &quot;قائمة الوحدة الوطنية&quot;. الاتفاق المسبق على مثل هذه القائمة (وحتى على الحكومة الائتلافية اللاحقة) سوف يوفر الوقت الكافي لدراسة كل عناصر المعادلة السياسية الداخلية والاقليمية وردود الفعل المحتملة من كل الاطراف، والاستعداد لها والالتفاف عليها، وبحيث تتفادى اي مطب مستقبلي سواء من المقاطعة الدولية، او عدم الاعتراف، او سوى ذلك.</p>
<p>جانب الضعف الاهم في مثل هذه الفكرة انه يفرغ العملية الانتخابية والديموقراطية من جوهرها التنافسي وربما يعود بالسياسة الفلسطينية الى ممارسة &quot;المحاصصة&quot;، وهو جانب يجب الاقرار به. لكن وفي نفس الوقت توفر علينا هذه الفكرة التورط في مخرجات انتخابية قد تعيد تأزيم الوضع بدل ان تقدم حلولا له. الانتخابات الديموقراطية الحرة التنافسية هي النموذج الاساسي والصحيح، لكن اشتراطاتها في الحالة الفلسطينية غائبة. وغياب الاشتراطات لا يعني تفادي الانتخابات والتحول الديموقراطي لأن ذلك معناه الاستبداد والسلطوية. ثمة &quot;منزلة بين المنزلتين&quot; هي &quot;هندسة الانتخابات&quot; للاستفادة من شرعيتها، ولكن من دون المغامرة بفلتان نتيجتها في اي اتجاه تأزيمي. إنه حل &quot;نصف ديموقراطي&quot; لكنه يتناسب مع الوضع &quot;نصف السيادي&quot; الذي نحيا فيه.</p>
<p><br />
Email: khaled.hroub@yahoo.com</p>

المصدر: 
الأيام