هل هي انتفاضة ثالثة؟
لثلاثة أسابيع حتى الآن، مازالت المواجهات بين الشباب الفلسطيني وقوات الاحتلال مستمرة بلا انقطاع، وتثير قلق الإسرائيليين والسلطة الفلسطينية على حد سواء. لم تأخذ طابعاً شاملاً بعد، لا من حيث حجم المشاركة الشعبية ولا اتساع رقعتها الجغرافية، فما زالت منحصرة في المناطق المتاخمة للحواجز الإسرائيلية على مداخل المدن في الضفة الغربية.
هي ليست الأحداث الأولى من نوعها خلال السنوات القليلة الماضية، فقد سبقتها مواجهات عدة في مناسبات مختلفة، كان آخرها قبل أشهر قليلة، أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة نهاية عام 2012. هذه المواجهات، وإن كانت على شكل نبضات تتخللها فواصل من السكون؛ إلا أنها تسير في منحى تصاعدي واضح. يمكن بسهولة ملاحظة الفرق بين حجم التضامن مع غزة خلال العدوان الإسرائيلي عليها نهاية عام 2008، وحركة التضامن الواسعة التي عمت الضفة الغربية أثناء العدوان الأخير، والتي ظهر من خلال تقارير وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة؛ أنها كانت مصدر قلق بالغ لحكومة نتنياهو، وربما كانت من العوامل التي ساعدت على اختصار مدة العدوان. وبعد فترة هدوء نسبي قصيرة عادت واشتعلت من جديد، هذه المرة تضامناً مع إضراب الأسرى، مع أن الحركة الأسيرة قامت بإضرابات عدة خلال السنوات المنصرمة، لم تترافق مع موجة تضامن كالتي نراها اليوم.
لقد فرضت أحداث الضفة نفسها على المشهد العام للمنطقة، رغم كل البؤر المتفجرة التي تزخر بها، فجأة عاد الحدث الفلسطيني إلى الواجهة، وسؤاله المركزي اليوم: هل نحن أمام انتفاضة فلسطينية ثالثة؟. رغم انشغال كل الأطراف والقوى الإقليمية والدولية بما يحدث في بلدان الثورات العربية، وهو أكثر سخونة بالطبع؛ إلا أن ذلك لا يمنعها من أن ترقب بحذر، تطور الأمور في الضفة. فهل تحتمل المنطقة حريقاً جديداً؟ وإن حدث، ما تداعياته على الحرائق الأخرى؟.
ليس من السهل أبداً الإجابة على هذا السؤال، هناك كثير من المؤشرات التي تدل على أن الظروف مواتية لانتفاضة جديدة، في ظل الفشل البيّن لمشروع التسوية، الذي لم يعد بالإمكان إخفاؤه بالمناورات السياسية. من كان يعد بالذهاب إلى الأمم المتحدة، قد ذهب، وجاء بدولته غير كاملة العضوية، ثم ماذا؟. الاحتلال مازال جاثماً على صدر الشعب الفلسطيني في الضفة، حواجزه وجداره حولا الضفة إلى معازل، مستوطناته تكبر وتنموا كل يوم، لقد أصبح أسمى أماني محمود عباس وفريقه المفاوض هو تجميد الاستيطان، لم يعودوا حتى يطالبون بتفكيكه، حتى هذا الفتات لم يلق لهم. ناهيك، عن السبب المباشر للأحداث الأخيرة، إضراب الأسرى عن الطعام، وقضية الأسرى قضية حساسة بالنسبة للشعب الفلسطيني بالداخل. كل ذلك يجعل الظروف مهيأة لانتفاضة ثالثة.
لكن، من جهة أخرى، متى لم تكن الظروف الموضوعية مواتية للانتفاضات والثورات في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟! السؤال الأهم هو: هل الظرف الفلسطيني الداخلي موات لانتفاضة ثالثة؟. هل يمكن أن تقوم انتفاضة فلسطينية في ظل الانقسام السياسي العميق، الذي يخيم بسواده على المشهد الفلسطيني الداخلي؟ والمقصود بالانقسام ليس ذلك الذي حدث بعد سيطرة حماس على غزة فقط، بل الذي نتج عن ولوج قيادة المنظمة في عملية التسوية قبل عقدين من الزمن، ومازالت مفاعيله قائمة حتى اليوم. كيف يمكن للشعب الفلسطيني في الضفة أن ينخرط بعملية كفاحية شعبية شاملة ومكوناته السياسية منقسمة على الثوابت والأهداف العليا لقضيته؟. والاستشهاد بالانتفاضة الثانية التي جاءت بعد أوسلو لا يسعف هنا، فهي لم تكن تماماً عفوية كما يعلم الكثيرون، كما أن مظهرها الرئيس كان عسكرياً، لا شعبياً كالانتفاضة الأولى وهذه التي نتمنى انطلاقتها. علاوة على ذلك، كيف سيكون تعاطي قوى الأمن الفلسطيني، التي يعلن رئيسها صباح مساء أنه لن يسمح بانتفاضة جديدة؟ على الرغم من أنه هدد قبل ذلك بالمقاومة "السلمية"، اليوم تتحدث سلطته عن تفويت الذرائع على إسرائيل التي من مصلحتها أن تعم الفوضى.
إن متابعة الأحداث تدل على أن قوى الأمن الفلسطينية قد بدأت بالفعل بالتصدي للمتظاهرين. كيف سيكون سلوكها إن اتسعت رقعة الاشتباك وطال أمده؟ وكيف سيكون سلوك الشبان المنتفضين إن تمادت في قمعها؟ في الوقت الذي ينتمي فيه الكثير منهم لحركة فتح. سيكون الشباب الفلسطيني أمام اختبار حقيقي على قدرته على تجاوز مرجعياته السياسية وأخذ زمام المبادرة بعيداً عنها، وستكون هذه سابقة، فالشعب الفلسطيني كما يعلم الجميع شعب مسيّس، والفصائل الفلسطينية لديها حضور قوي وفاعل داخل نسيجه، هل سيقدم الشباب على تجاوز الخطوط الحمر لقياداتهم السياسية والمضي قدماً في انتفاضتهم؟. والمشكلة ليست فقط في فتح، هل قيادة حماس، ستدعم فعلاً انطلاق فعل نضالي جماهيري طويل الأمد في الضفة، وهي التي تعاطت بحذر مع تحركات مشابهة في الماضي القريب حدثت هناك، فقد أصبح لديها بعد السيطرة على غزة حسابات أخرى. إن نموذج الجماهير المنتفضة التي تأخذ زمام المبادرة بات مقلقاً بالنسبة لها الآن، بقدر ما هو بالنسبة لفتح وقيادة السلطة، فمن يخرج منتفضاً في وجه الاحتلال اليوم قد يخرج في وجه الاستبداد غداً. أما اليسار، وإن كان شبابه يشاركون بقوة في الأحداث اليوم، فإن قدرته محدودة بحجمه وتأثيره وضعف موارده... وتردد قيادته.
قد لا تفضي المواجهات التي اندلعت بالضفة مؤخراً إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة الآن، لكنها، على الأقل، تشكل درجة إلى أعلى في سلم التصعيد، ومؤشر على أن جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل بدأ صبرها ينفذ، لا من ممارسات الاحتلال فحسب، بل من ضعف وقلة حيلة وتخبط قيادتها.