"قراءة سوسيولوجية في الفكر الديموقراطي للحركات الإسلامية"

 

 

[السلفية: المفهوم والنشأة
يعتبر كثيرون من الباحثين في الحركات الإسلامية أن المصطلح (السلفية) لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض والالتباس. ولعل مرد ذلك الى أن السلفية باعتبارها مفهوماً يرادف في الفكر الإسلامي المعاصر مفهوم "النزعة الأصولية، ونزعة التجديد الديني، ونزعة الإصلاح الديني"، وغير ذلك من التسميات التي يمكن العثور عليها في أدبيات الفكر العربي المعاصر. قد يكون تعدد التسميات سبباً جوهرياً وأساسياً للدلالة على قلق المفهوم في الكتابة المعاصرة، ولذلك يُعتبر أن هذا المفهوم لا يزال "ملتبساً عند الكثيرين" ممن حاولوا الولوج الى السلفية كمفهوم وفكر ومنهج، أو الولوج في الفكر السلفي بُغية العمل على تصنيف السلفية الى تيارات من خلال الاعتماد على أبرز المُنظرين في الحركة السلفية المعاصرة التي لا تشير الى اختلافات كثيرة في الفكر بقدر ما تشير الى اختلافات في بعض القضايا، خصوصاً تلك المتعلقة بالعمل السياسي، أو في بعض الآراء المتعلقة بمسائل مرتبطة بالجهاد مثلاً وكيفيته، والعمليات الاستشهادية وغيرها.
لعل من الأسباب التي تجعل من المفهوم ملتبساً مسألة أن كل زمن هو سلف وخلف في الوقت ذاته. من هنا فإن كلمة السلف تحمل معنى نسبياً. لكن هذا الالتباس لا يعني بالضرورة أنه لا يمكن حصر الدلالات المرتبطة به وتُعبّر عن محتواه. ذلك أن الثابت هو أن المفهوم ينتمي الى دائرة الألفاظ القديمة في التراث الإسلامي وفق ما أشرنا إليه، وإن تضمن معنى النسبية، لأن المعنى الإصطلاحي إنما يُستخدم للدلالة على أفضل العصور الإسلامية التي يمكن اختصارها بالقرون الأولى وفق الحديث الذي جاء على لسان عبدالله بن مسعود، والذي رواه الشيخان: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته".
تُشكّل القرون الأولى هذه النموذج الأفضل الذي يوجب الاقتداء به واتباعه. وبناء على ذلك تظهر الفكرة الأولى والأساسية التي تدعو السلفية إليها، وهي فكرة الاتباع وليس الابتداع(...).
إن انتشار التيار السلفي على شكل فكر شامل ربط بشكل مباشر، أو غير مباشر أحياناً، بين الداعين الى اتباع السلف الصالح وبعض التيارات السلفية، بحيث تحوّل هذا التيار الى ما يُشبه الفرقة الدينية أو المذهب الديني. وهذا السبب هو الذي دعا العلامة محمد سعيد رمضان البوطي، القائل إن المراد من الدعوة السلفية "أن تربط عقولنا وسلوكنا برابطة الولاء للسلف والاقتداء بهم، والانضباط بقواعد فهمهم للنصوص، والتقيّد بكل ما اتفق عليه جميعهم، أو جلّهم، من المبادئ الاعتقادية والأحكام السلوكية، ونبذ كل ما يخالف ذلك مما ابتدعه المضللون أو الجاهلون"، الى كتابة مؤلفه السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، وذلك للتمييز بين المعنى المقصود بالسلفية والسلفية باعتبارها مذهباً قائماً بذاته، وهو الحال الذي يتراءى الآن لكثير من من الناس العامة والخاصة.

[ الجذور التاريخية للمصطلح
يُعتبر الإمام أحمد بن حنبل أول من استخدم مصطلح السلف عندما احتج على القائلين بمسألة خلق القرآن، قائلاً: "لقد روي عن غير واحد من سلفنا أنهم كانوا يقولون القرآن... كلام الله غير مخلوق، وهو الذي أذهب إليه". ثم جاء بعده ابن تيمية، ومعه يمكن التقاط البذور الأولى للدعوة السلفية باعتبار السلف الصالح هم أصحاب الوصاية في تأويل النص وتفسيره. من هنا يعتبر البعض أن الصبغة الإصلاحية ألحقت المفهوم في ما كان يُعرف في التاريخ الإسلامي بأصحاب الحديث الذين وجدوا في القرنين الثاني والثالث للهجرة. والذين كانوا يدافعون عن ضرورة اتباع السلف الصالح في أسلوب العقيدة والحياة. وهذه إشارة الى الحركة الفكرية المؤسسة من الإمام أحمد بن حنبل أولاً، وابن تيمية لاحقاً، ثم لتتسع الدائرة مع اتساع دلالة المفهوم من خلال إطلاقه على الحركة الإصلاحية الحديثة الممثلة بمحمد بن عبدالوهاب والشوكاني والمهدية والسنوسية، وكلها حركات ظهرت في العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر، اختلط فيها المنزع الديني السنّي بالمنزع الصوفي، وشكلت قنوات شعبية للتعبير عن صور من الوعي الديني المنظم.
لا تؤسس الإشارات المذكورة، وإن ارتبطت بالمفهوم في مجال التسمية، لهذا المفهوم في مستوى دلالته الفكرية، لأن هذا المفهوم اتخذ صورته الشائعة وتشبّع بشحنته الدلالية شبه الثابتة في الفكر الإسلامي المعاصر عندما أطلق على الدعوة والحركة الإصلاحية التي ساهم في صياغة أطروحتها وأسسها ومفاهيمها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. ومع ذلك فنحن نجد أن القاسم المشترك بين ابن تيمية ومفكري عصر النهضة في الاستخدام للمصطلح والدعوة الى التشبّه بالسلف الصالح، هو الواقع المتخلّف والتأخر الحاصل في العالم الإسلامي. ففي حين حمّل ابن تيمية أهل البدع، من جهمية وقدرية وباطنية وصوفية وفلاسفة، مسؤولية الكارثة المتمثلة بانهيار الدولة العباسية وسقوط بغداد على أيدي التتار في عام 656هـ، انطلقت مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده محاولة تفسير الواقع، واتفقا كلٌ بطريقته الخاصة على أن سبب التأخر إنما يعود الى ترك "حكمة الدين"، أي ترك العقيدة الإسلامية وسيادة التقليد والجمود والتخلّي عن الاجتهاد.
هنا يمكننا أن نلاحظ أن واقع الحال المأزوم في الأمة الإسلامية المتمثل بانهيار الخلافة العباسية والتأخّر والتخلّف في عصر المصلحين (الأفغاني ومحمد عبده)، هو القاسم المشترك. وهو ما يحمل في مضمونه سببين أساسيين لهذا الواقع المأزوم، أحدهما داخلي والآخر خارجي. هذان العاملان التاريخيان الأساسيان اللذان ساهما في تشكل الخطاب السلفي. العامل الذاتي الداخلي المتعلّق بمحاولة إيجاد سبب الانحطاط من خلال التفكير فيه، أما العامل الخارجي فمتعلّق بالتدخّل الأجنبي والهيمنة الاستعمارية بكل ما تحمله من عناصر الهجوم والغزو وتمزيق أوصال المجتمع وبنيانه.
يُصنّف عبدالغني عماد الحركة السلفية من حيث النشأة الى صنفين أساسيين، يطلق على الأول اسم "السلفية التاريخية" التي ينتسب إليها علماء كثر، والتي تشكّلت في سياق الاختلاف بينها وبين اتجاه "أهل الرأي" و"أهل العقل"، حيث اعتبر علماء هذه الفترة أن تيار العقل والرأي المتأثر بالفلسفة الإغريقية يمكن أن يضرب الأسس والأصول التي يقوم عليها الإسلام نفسه. كما اعتبر أن ما جاء به "أهل الكلام" ما هو إلا مُحدثات أمور وبدع تستوجب الوقوف في وجهها. من هنا، فإن القاعدة الأساسية التي وسمت فكر هذه المرحلة هي قاعدة "الاتباع لا الابتداع"، لأن عندهم ووفق رأيهم "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلق أعلم وأحكم"، معتمدين على الحديث الذي رواه عبدالله بن مسعود المذكور سابقاً، وقول ابن تيمية "جماع الدين أصلان، ألاّ نعبد إلا الله وألاّ تعبده إلا بما شرّع. لا تعبده بالبدع"، معتمدين قاعدة لذلك الحديث الشريف: "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".
أما مسألة التجديد أو الإصلاح التي أسس لها الأفغاني وعبده فتؤكد أن مسألة التجديد أمر ممكن، وأن السلفية بما تعنيه من اقتداء بالسلف الصالح لا يعني عدم القابلية في التجدد، كما إن السلفية باعتبارها مصطلحاً لا ينفي عنها عدم تقبّلها للحداثة وفق منطلقها. ذلك أن السلفية تحاول تأسيس مجتمع مثالي أُنجز تاريخياً في مجتمع حديث، أي تحاول المواءمة بين الماضي والحاضر، من هنا يرى البعض في الحركات السلفية أنها حركات حديثة لأنها تعمل في مجتمع حديث، وتعمل على أساسيات وأصول نظام مثالي في المجتمع الحديث وفقاً لمواقف سياسية وإيديولوجية ناجمة عن علاقة قضايا وخطابات معاصرة. أما مأزق الفكر السلفي فيتجلّى في محاولة الاحتفاظ بالثبات والحركة سوياً في التعامل مع الظواهر.
دعا الأفغاني ومحمد عبده الى تجديد وإعادة بعث الإسلام، هذه الدعوة هي محاولة في الانبعاث الذاتي بالاعتماد على الثابت الروحي في حياة الأمة الإسلامية. في هذا الإطار يبدو أن البحث عن الذات وتأكيد الهوية مسألتان مهمتان في محاولة فهم الفكر السلفي، خصوصاً أن هذه النزعة عاصرت انهيار الدولة العباسية في الفترة السابقة، كما أنها عاصرت لحظة مهمة في التاريخ المعاصر والمتمثلة بلحظة انتقال الغرب الرأسمالي الى عتبة المرحلة الإمبريالية. ولهذا نجد في الأدبيات السلفية ما يُعبّر عن نوع من الدفاع عن الذات أمام جبروت الآخر المستعمر والغازي.
تضعنا فكرة المواءمة بين القديم والحديث أمام تصنيف آخر، حيث يُمكننا القول إننا أمام سلفيات عدة. ذلك أن الحركات الإسلامية كلها هي سلفية بمعنى من المعاني. هي سلفيات بدرجات مختلفة، وسواء أكانت الحركات الإسلامية وسطية إصلاحية معتدلة أم راديكالية فإن وصفها بالسلفية أمر ممكن، لكن الأمر يقتضي التمييز بين سلفية تاريخية وسلفية مدرسية أو نهضوية مع الأفغاني وعبده، أو سلفية حركية جاءت في إطار مواجهة النفوذ الاستعماري، أو سلفية وطنية قاومت أيضاً المستعمر وانتشرت في المغرب العربي، كما أنها ارتبطت بشكل كبير بالإصلاحي النهضوي محمد عبده، ولذلك وصفت بالسلفية المرنة والمفتوحة. وأطلق على هذه السلفية صفة "السلفية العقلانية" أو السلفية "العقلية"، تمييزاً لها عن مفهوم العقلانية الغربية وما يعنيه أو يحمله في إطار الفكر التنويري الغربي.
ركّزت السلفية المرنة أو العقلية في عصر النهضة كثيراً على مسألة التوفيق والمواءمة بين قيم الإسلام وقيم العصر، حيث رأت أنه لا تناقض بين الإسلام والعلم والإسلام والفلسفة، إلا أنه نظر في الوقت نفسه الى مكتسبات كثيرة إيجابية بصورة تجعلها قريبة من الإسلام. ومع محمد عبده كان الأمر أكثر وضوحاً، حيث حاول التفكير في السبل التي تجعل "المنجزات الحضارية الغربية؟ في نهاية التحليل، امتداداً لمفعول تطور الحضارة الإسلامية". من هنا، وفي اطار العملية التوفيقية هذه، فان السلفية صاغت جملة من المفاهيم، من ابرزها مفاهيم البعث والأصالة، والدهرية والجامعة الاسلامية، بنفحة اصلاحية طوبارية.
[ السلفيتان
يمكن القول هنا إننا اصبحنا أمام نوعين من السلفية وفقاً لمعيار البيئة الجغرافية. السلفية المرنة التي نشأت وتنامت في البيئة الحضرية في المناطق الإسلامية، والسلفية الأخرى التي نشأت على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب(...).
(...) يوجد قاسم مشترك بين السلفيين المؤسسين والسلفيين المتأخرين أمثال رشيد رضا والمودودي وحسن البنا وسيد قطب وغيرهم الذين يعتبرون أوروبا المعاصرة بكل منجزاتها وانجازاتها مجرد "جاهلية جديدة". ومع ان معظم حركات التحرر العربي الوطني والاسلامي ربطت جزءاً من برامجها في التحرير والاستقلال والاصلاح بالأطروحة السلفية، إلا ان كل هذه الاختلافات بين السلفيات النهضوية والسلفيات المتأسسة لاحقاً، أو السلفيات التي ما زالت في طور التأسس، كلها لا تستبعد قاعدة وحدت، ولا تزال توحد، مختلف فصائل هذه الحركة. وهذا هو القاسم المشترك بين هذه السلفيات، المتمثل بالتفكير والعمل لمقومات العقيدة الإسلامية.
إن التمسك بالاسس التي تبنتها السلفية لم يحل دون إطلاق حركة الإصلاح عند الأفغاني ومحمد عبده، وإن كانت دعوتها تضمنت العودة إلى النصوص المؤسسة (القرآن والحديث، والعودة أيضاً الى التجارب السياسية الأولى لنمط الحكم في الإسلام، إلا أن ذلك لم يمنع محمد عبده من إصدار جملة من الفتاوى الفقهية لتبرير بعض مظاهر ومتطلبات الحياة الجديدة بغية البرهنة على قدرة الاسلام على التكيف مع مقتضيات العصر. ومع ذلك، فان اختلافاً ما موجوداً بين السلفية الحضرية والسلفية البدوية أو النجدية أو الصحراوية. وأكثر ما يتجلى هذا الاختلاف في السياسة ومسألة الخروج عن طاعة ولي الأمر، مع الأخذ بالاعتبار أن هذا الخلاف ليس الوحيد، ولا يعني هذا الخلاف أو الاختلاف، بالضرورة، عدم وجود قواسم مشتركة بين هذين النوعين من السلفية. إلا أنه، وبما ان موضوعنا يتناول الديموقراطية من منظار السلفية، أي إنه يتعلق بالشأن السياسي، فأثرنا هذه النقطة الخلافية التي نراها اليوم ماثلة للعيان(...).
(...) قمنا حتى الآن بتصنيف الحركة السلفية في إطار المفهوم والنشأة الى سلفية تاريخية وسلفية مدرسية، ووفق المعيار الجغرافي صنفنا هذه الحركة إلى صنفين ايضاً، هما السلفية البدوية الصحراوية والسلفية الحضرية المدنية. وفي هذا الإطار أيضاً يمكننا تصنيف السلفية وفق بعد الحداثة إلى سلفية تقليدية، وسلفية حداثوية. لكن هذه التصنيفات قد لا تعطي صورة واضحة عن الحركة السلفية الا من حيث سياق المفهوم والنشأة، إذ ان هذه الحركة ونتيجة، أو كمحصلة عامة، امتدادها في الأوساط الإسلامية، وكنتيجة لهذا الامتداد، أخذت أبعاداً وتصنيفات أخرى مرتبطة بشكل أو بآخر ببعض العلماء المنظرين. وبناء على ذلك يصنف عبد الغني عماد، أو يقسم التيارات السلفية، أو ما يسميها بالسلفيات المعاصرة، إلى خمسة تيارات رئيسة، اختارها، كما يقول، تسهيلاً للتحليل، مع اعترافه بأن هذا التقسيم هو تقسيم أولي يبقى خاضعاً للتعديل، تبعاً لتطور الموقف للأطراف العامة في كل تيار هذه التيارات هي: التيار الجامي أو المدخلي: نسبة الى محمد أمان جامي وربيع المدخلي اللذين يعتبران من أهم رموز هذا التيار والمنظرين له. ينتشر هذا التيار في الخليج والاردن. ويقرّ منظروه للأنظمة الحاكمة بوجوب الشرعية ووجوب الطاعة لها لأنه يشترط التصريح بالكفر من أجل اعادة النظر بشرعية هذه الأنظمة. ومن ابرز علمائه أيضاً علي الحلبي وعبيد الجابري وعبد الله السيف ومحمود الحداد ومقبل الوادعي. تنظر اليه بقية الفرق السلفية على أنه طائفة من المرجئة.
ـ التيار المشيخي: يتمتع علماؤه ومنظروه بشهرة واسعة. ومن ابرزهم ناصرالدين الالباني وعبد العزيز بن باز وابن عثيمين. يقر هذا التيار الكثير من الأنظمة الحاكمة بالشرعية، لكنه يطرح وجهة نظر أكثر مثالية من الناحية النظرية، وأكثر تفصيلاً، مع الأخذ بالاعتبار ان طروحاته غير محرجة للأنظمة. وعندما نقول انه يقر لكثير من الأنظمة بالشرعية فهذا يعني انه لا يقر لأنظمة بشرعيتها، والمقصود هنا بالطبع الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله، وتجعل من البشر مصدراً للتشريع، وبمعنى آخر فهو لا يجيز الانتخابات التشريعية، ولا يقبل بها لا ترشيحاً ولا انتخاباً. وبالتالي، فان رؤيته ونظرته الى الديموقراطية هي نظرة سلبية، إلا من باب المصلحة. ومع ان هذا التيار لا يعترف بشرعية الأنظمة الا ان رموزه لا يصرحون باطلاق عدم الشرعية على هذه الأنظمة من غير معرفة السبب، أهو مبدأ التقية أم غيره؟
ـ التيار الثالث: يطلق عبد الغني عماد عليه اسم "سلفي جماعة الاخوان المسلمين"، مثل الشيخ الزنداني في اليمن وعمر الاشقر في الاردن وعصام البشير في السودان. ولهذه المجموعة ومن يتبنى آراءها وجود مؤثر ضمن الاخوان، تتجه هذه المجموعات الى المشاركة السياسية في البرلمانات، بل وفي الحكومات، على الرغم من ان لهم تحفظاً على مسألة الديموقراطية. وهو تحفظ مبدئي لاعتبار ان الديموقراطية باعتبارها مشروعاً سياسياً كاملاً ذات صفة شمولية تخالف الدين، لكنهم يرون ان الدخول فيها هو لدرء المفاسد وجلب المصالح، وموقفهم الرسمي ليس بعيداً في هذا المجال من موقف الاخوان المسلمين في اطار ما يسمى بفقة الواقع، أو فقه الضرورة، أو فقه الممكن، أو غير ذلك.
ـ التيار الرابع: يعرف هذا التيار بالدوائر السلفية بالتيار السروري نسبة الى الشيخ محمد سرور زين العابدين، يتميز هذا التيار بغزارة إنتاجه وكتاباته ومشاركته، وبخاصة في مسألة الديموقراطية التي نحن بصددها، إذ ان الشيخ محمد سرور يتحفظ بشدة على المشاركة في البرلمانات على اعتبار ان الأنظمة الحاكمة هي التي تتحكم بالعملية الديموقراطية تحكماً فاعلاً وكاملاً، وتعطي شرعية لنفسها من خلال مشاركة التيارات الاسلامية في هذه العملية. كما يعتبر منظر هذا التيار ان دخول الاسلاميين في العملية الانتخابية القائمة على مسالة الديموقراطية هو اقرار بالنتائج المزورة الي تصوغها الدولة من خلال الفرز المتمثل بنتائج التصويت والتلاعب بالعملية الانتخابية بكاملها. وهو يقر هنا بأن هذه المفاسد لا توازيها المصالح المزعومة المستقاة من دخول عدد معين ومحدد الى المجالس التشريعية البرلمانية. وربما من هنا جاء تحفظه على شرعية الأنظمة من غير الدعوة الى تكفيرها أو رفع السلاح او الثورة ضدها. وهو بذلك لا يقر للتيارات السلفية الأخرى التي تبيح المشاركة السياسية من باب المصلحة، انطلاقا من ان الفائدة المتحصلة ليست بمستوى الضرر، وهو ما يجعل من المشاركة شكلية ليس إلا (...).
ـ التيار الخامس: السلفية الجهادية ـ التيار الجهادي الذي يتحكم به اتجاهان اساسيان: اتجاه الجهاد النظري، واتجاه الجهاد العملي.
* اتجاه الجهاد النظري، يقوم بدور المنظر لمشروع الجهاد بأطر عامة من غير الدخول في تفاصيل الأعمال الجهادية، ومن غير تحديد الأنظمة التي يتحدث عنها. ومن ابرز شخصياته محمد قطب والشيخ الغزاوي والشيخ غازي التوبة وعبد المجيد الشاذلي (...)
* اتجاه الجهاد العملي، من ابرز ممثليه الشيخ عمر عبد الرحمن ومحمد المقرئ وطلعت فؤاد (ابو طلال القاسمي) وعبد الآخر حماد، ومعهم الجماعة الاسلامية في مصر، وايمن الظواهري وعبد القادر عبد العزيز، ومعهما جماعة الجهاد المصرية وتنظيم القاعدة والشيخ ابو محمد عاصم المقدسي وعمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري)، وجميعهم يعتبرون اليوم من ابرز المنظرين للتيار السلفي الجهادي العملي في كثير من انحاء العالم.
برز هذا التيار الى الوجود وفرض نفسه عملياً من حيث العدد والفكر بعد التجربة الأفغانية، وبعد المواجهات التي حصلت مع النظامين المصري والسوري في الثمانينات، ومع الجزائري في التسعينات. وهو لا يخفي رفضه للأنظمة الحاكمة المحددة بالاسم، بل يقول بعدم شرعيتها، ويدعو الى مقاومتها حتى تزول ولو بالقوة.
يعتبر هذا التيار بفرعيه العملي والنظري، ان اي نوع من انواع المشاركة في العملية الديموقراطية هو إقرار بشرعية الديموقراطية والأنظمة الحاكمة، وهذا ما يعني عندهم إقراراً بفكر الكفر وحكم الكفر. ولذلك فهم لا يجدون مببراً لأولئك الذين يبررون مشاركتهم وفق مبدأ جلب المصالح ودرء المفاسد، لأن المفاسد اكثر من المصالح، وأكبرها تضليل الأمة بأن الديموقراطية أمر مشروع. ونحن سنلاحظ ذلك عند مناقشتنا كتاب الشيخ أبو محمد عاصم المقدسي "الديموقراطية دين".
يمكن القول بصراحة ان هذا التيار هو الذي يقلق العالم، وهو الذي يوسم بسمة الإرهاب، كما ان هذا التيار هو الذي يملك جناحاً عسكرياً يكاد يكون منتشراً في معظم الدول الاسلامية.
يُستدل من التحليل السابق ان التباين بين السلفيات أو التيارات السلفية موجود سواء أكان في الماهية أم الدرجة أم المقصد أم الوسائل. ولذلك، فان هذا التباين يخرج هذا المفهوم من دائرة اليقين ويضعه في حالة من اللبس والشك، إذ لا تعريف قاطعاً لهذه السلفيات يستفاد منه اعتبار هذه السلفية أو تلك هي السلفية الحقيقية. مع العلم أدت القراءات المتباينة للأطراف المكونة للاتجاه السلفي الى تفاوت بين في درجة ارتباط هذه السلفيات بالواقع وبقربها، أو بعدها، من الهواجس الحقيقية الموضوعية المضطربة في الواقع الاسلامي(...).

هوامش
[عبد الغني عماد. الحركات الاسلامية في لبنان. اشكالية الدين والسياسة في مجتمع متنوع (بيروت دار الطبيعة، 2006 ص 263
المصدر نفسه، ص 263
[غسان وهبة، "الحركات الاسلامية في الوطن العربي"، (أطروحة دكتوراه غير منشورة، الجامعة اللبنانية، 2008): ص 81
[ عماد، المصدر نفسه، ص 264
المصدر نفسه، ص 264.
[محمد سعيد رمضان البوطي، السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب اسلامي (بيروت: دار الفكر المعاصر، 2004)، ص 11.
[ كمال عبد اللطيف، مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر (بيروت: دار الطليعة، 1992)، ص 28
المصدر نفسه، ص 28
[من العلماء الذين ينتسبون الى السلفية التاريخية نذكر ابو جعفر الطحاوي (ت 321هـ) هـ وابو بكر بن الحسين البيهقي (ت 5458)، وابن القيم الجوزية (ت 751 هـ) وابن رجب الحنبلي (ت 95 هـ) وصدر الدين بن ابي العز الحنفي (ت 792م) صاحب شرح العقيدة الطحاوية الذي اصبح عمدة السلفية التاريخية. حول ذلك، انظر: عماد: الحركات الاسلامية في لبنان: اشكالية الدين والسياسة في مجتمع متنوع، ص 266.
[الفقيه، المصدر نفسه، ص 71.

* الفصل الأول من كتاب للدكتور غسان خالد "الإسلاموقراطية في الفكر الديموقراطي للحركات الإسلامية" الصادر عن المنتدى المعارف ـ بيروت

 

 

معد الدراسة: 
د. غسان خالد