سيناء: وادي الصمت لمـوت «سـرٍّ» مُعلـن!

بقلم: 

 

لا يُخفى أن مصر الناصرية سادتها ظروف أدّت الى ضرب التعددية فيها، وهو سياق رافق هجرة اليهود وآخرين منها، لكن لم يكن «التهجير» هو أساسها، بحسب ما ظنّه الدكتور عصام العريان في تصريحاته الشهيرة عن عودة اليهود الى الدول العربية.

وفي لقاء شخصي مع الصحافي الفرنسي آلان غريش، وهو يهودي من أصول مصرية عبر أبوه هنري كوريل، أعرب غريش عن قناعته الراسخة، بحكم ما عايشه مباشرة في أوساط الجالية اليهودية المصرية في فرنسا، أن معظم هجرة يهود مصر منها في العهد الجمهوري الناصري، جاء بسبب التوجّهات الإشتراكية لناصر، خصوصاً الإجراءات الإشتراكية في مطلع الستينات من القرن الماضي، التي أربكت مصالح اليهود وأمّمت بعضها، وجعلت بعضاً آخر منها (مثل البنوك) غير مجدية. ووردت تفسيرات مماثلة لهجرة يهود مصر في زمن ناصر، في كتابات كثيرة، كتلك التي وضعها المؤلّف اليساري المصري أحمد السيّد أحمد.

لم ينتبه العريان الى أن تلك الفترة شهدت هجرة المصريين اليونانيين (خصوصاً من الإسكندرية)، بصورة أساسية بأثر من الإجراءات الاقتصادية والسياسية، إضافة الى الجو الثقافي العام. ولم يستجب ناصر لمطالبة باستثناء اليونانيين من الإجراءات الاشتراكية، استناداً إلى موقفهم الوطني الهائل أثناء العدوان الثلاثي، لكنه لم يستجب. وهاجر كثير من الأقباط في تلك الفترة عينها، للأسباب ذاتها. هاجر كثيرون الى الغرب وأميركيا. والتجأ بعض أقباط مصر إلى لبنان، الذي نما اقتصاده في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لأسباب تشمل تحوّله ملاذاً آمناً لأموال عربية هربت من الاشتراكية العربية في بلدانها، ومنهم أقباط مصر. ومن المؤسف أن تجربة التعددية في لبنان لم يكتب لها أن تصل الى اكتمالها، والأكثر أسى ان الفلسطينيين، وهم أول من يفترض بهم النضال من أجل عروبة تعددية، كانوا من أسباب خسارة لبنان تعدديته فعلياً، وضرب تجربته فيها.

 

سيناء مجدداً ومجدداً

 

في عهد ناصر، جرت محادثات متطاولة مع الأميركيين حول المسألة الفلسطينية، خصوصاً مع مجيء بعثة «جونستون» إلى المنطقة العربية في مطلع الستينات من القرن العشرين. والمفارقة أن ناصر رفض مشروعاً من بعثة «جونستون» عن تعمير شمال سيناء وتوطين الفلسطينيين فيه، وهو أمر أعاد «الإخوان المسلمون» بعث أشباحه بشدّة، في ظل تحكّم «حماس» بغزّة، في سياق ما أعقب العملية الإرهابية الدامية التي غدرت بأرواح 18 جندياً من حرس حدود مصر، في لحظة إفطارهم في رمضان السنة الفائتة، ما جعل الحديث عن شيء تنموي ومُجد، وهو إنشاء منطقة صناعية مصرية - فلسطينية في شمال سيناء الملاصق للقطاع، أمراً مثيراً للريبة في نفوس كثير من المصريين.

وناقش الأميركيون مع ناصر، بحسب مصادر متنوّعة، مسائل تتصّل بحل القضية الفلسطينية، تشمل بناء جسر يربط مصر مع المملكة العربية السعودية ويمر «فوق» ميناء «إيلات»، إضافة الى موضوع هجرة اليهود وممتلكاتهم في مصر. ولأن الشفافية لم تكن أفضل خصال النظام الناصري، لا تتوافر معلومات كثيرة عن مسار هذه المفاوضات ومآلاتها، ولعل كثيرا من هذه المعلومات مازال دفين الذاكرة المباشرة لكثير من المصريين، سواء ممن كانوا مقربين من النظام الناصري (أو ربما بعض يهود مصر أيضاً)، إضافة الى سجلاّت وزارة الخارجية الأميركية و«مجلس الأمن القومي» أو غيرها من المؤسسات الأميركية التي كانت معنية بالشأن المصري والعربي.

لعب ناصر دوراً بارزاً في دعم فكرة الدولة العلمانية في فلسطين، أثناء تأسيس «منظمة التحرير الفلسطينية» تحت قيادة أحمد الشقيري. واستمر الأمر عينه عندما نسج ناصر علاقاته مع «فتح» في مرحلة ما بعد هزيمة 5 حزيران/يونيو 1967، خصوصاً في نقاشات جرت بين بعض أبرز قادتها (أبو عمار وأبو أياد وفاروق القدّومي) مع محمد حسنين هيكل، المُقرّب من ناصر. وفي كثير من أدبياتها الأولى، حملت «فتح» فكرة الدولة العلمانية في فلسطين. وعندما آلت قيادة «منظمة التحرير الفلسطينية» إلى «فتح»، استمر تبني المنظمة لفكرة الدولة العلمانية. وشُرحتْ هذه الفكرة بتوسّع في أدبيات حركة «فتح» والمنظمة، خصوصاً بفضل بعض مناضلين يهود في صفوف الثورة الفلسطينية، على غرار المناضل المغربي إبراهيم الصرفاتي. وبصورة شبه دائمة، طرحت «منظمة التحرير الفلسطينية» مسألة عودة اليهود العرب الى أوطانهم، في اجتماعات «الجامعة العربية». واعتبرت الثورة الفلسطينية أن فكرة الدولة العلمانية في فلسطين، ومسألة عودة يهود البلدان العربية إليها (بالأحرى استردادهم من إسرائيل)، تمثّل رداً على أساس الفكرة الصهيونية التي أسّست إسرائيل تحت زعم يقول بأنها دولة لليهود. واستطراداً يشكّل عيش اليهود في البلدان العربية بصورة طبيعية، بمعنى انضوائهم في مواطنة لدول لا تنحاز لديانة ضد اخرى، نقضاً مباشراً وهدماً أساسياً للفكرة الصهيونية. غني عن القول، بأن كثيراً من اليسار العربي، وضمنه المصري والفلسطيني واللبناني، تحمّس كثيراً لفكرة العلمانية كمكوّن في وعي الثورة التي تقاتل الصهيونية.

لم يتعمّق هذا الوعي في المسار السياسي الفلسطيني والعربي، ولعل هذا جزء من إشكالاته العميقة. ومنذ النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، تخلّت «منظمة التحرير» عن طرح فكرة عودة اليهود العرب، تحت ضغوط عربية، خصوصاً من بلدان خليجية رأت أن فكرة كهذه ربما امتدت لتناقش أملاك اليهود في المدينة وخيبر. ولعلها مفارقة مؤلمة أن ينحدر وعي بعض الحركات الإسلامية للمسألة اليهودية وتشابكاتها الى درجة تكرار هتاف مثل «خيبر خيبر يا يهود»، من دون تفكير بأن تاريخاً كبيراً وضخماً، يفصل لحظة ماضية، عن أوضاع العالم حاضراً.

يصعب عدم الالتفات الى عودة «مواربة» لمسألة يهود الدول العربية، أثناء مفاوضات السلام، التي انطلقت بعيد حرب تشرين أول/ أكتوبر 1973. وتبلور ميل الى اعتبار هذه المسألة جزءاً، بصورة أو بأخرى، من مسار «المفاوضات النهائية» التي يفترض أن تشمل مفاوضات حول قضية اللاجئين الفلسطينيين وأوضاع الموارد الأساسية كالمياه وغيرها.

وفي سياق أكثر عملانية، بدت تصريحات العريان كأنها «قفز» عن هذا الاعتبار في سياقات «السلام» التائه شرق أوسطياً. إذ يُفترض أن تأتي مسائل «الحل النهائي» بعد مسار سياسي يتوّجه نشوء دولة فلسطينية ذات سيادة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967، وعاصمتها القدس. وأثبتت التجربة أن هذا المسار السياسي أعقد كثيراً مما توحي به الكلمات، لكنه أقل تعقيداً من إشكالية عودة اليهود العرب. وفي هذا السياق، ليس مجازفة كبيرة الاشارة الى أن تصريحات العريان وقعت في ما يشبه المجانية السياسية أيضاً.

ثمة مسألة اخرى تحتاج الى نقاش أكثر استفاضة. ما هو رأي اليهود العرب، في هذه المسألة؟ كيف يمكن وصف الرواية الدينية التوراتية عن علاقة اليهود بمصر، وتشابكاتها مع المسارات السياسية في إسرائيل، من جهة، ومسألة عودة يهود مصر إلى بلاد النيل من جهة اخرى؟ ما هي الاستنتاجات التي ستستخلصها النخبة السياسية والثقافية اليهودية في إسرائيل وخارجها، من معطيات مثل وثائق كهف أفغانستان؟ مجرد نموذج عن سيل الأسئلة المقلقة والمعقّدة عن هذه المسألة الشائكة.

المصدر: 
السفير