عن فيزياء القدس

بقلم: 

المسجد الأقصى لا يمثلّ بالضرورة للعلماني المعادي للكيان الصهيوني، رمزاً نضالياً مهماً. قد يكون يؤمن بأن الصراع مع الدولة العبرية هو صراع جوهري مرتبط بالأخلاقية الإنسانية، أو أممي يمثّل امتداد الصراع مع القوى الامبريالية ورأس المال العالمي، أو حتى بأنه قومي عربي لا يجسّد فيه المسجد سوى معلم من جملة معالم عمرانية وروحية أنتجتها الأمة. 
 

أما بالنسبة للإسلاميين، أي الذين يبنون هويتهم الثقافية والإنسانية الشاملة على مفهوم الإسلام، فلا بدّ أنهم يستشيطون غضباً لدى رؤية مشاهد الانتهاك والتدنيس لحرمة "بيت المقدس"، مقام قبلتهم الأولى ومسرى رسولهم، لا شكّ في أنهم سيمطرون الكيان اليهودي من "قردة وخنازير" بوابل من الحمية الدينية والفزعة الإسلامية، ويعدّون لحملة جديدة اسمها "إلا المسجد الأقصى" استتباعاً لحملة "إلا رسول الله"، والتي حققت نجاحاً باهراً في حينها.
 

هي في الواقع صورةٌ مختلفة، بعض الشيء..
 

إسلاميو "حماس" مثلاً، يستقبلون "أخاهم" يوسف القرضاوي في غزة، وهم على عتبة مشاريع التسوية الأميركية لا يبالون كثيراً باسرائيل، بقدر ما هم يصبّون جامّ مقاومتهم الجديدة على قصّات شعر الشباب وسراويلهم واحتشام النساء و"تواضعهن". ربما غزّة، وبعد انتصاراتها الإلهية على العدوان الصهيوني، انتقلت الآن إلى مرحلة بناء المدينة الفاضلة واليوتوبيا الفلسفية.
 

الإسلاميون اليوم، على تعدّد مذاهبهم منشغلون بأمور أخرى، كالخلافة الإسلامية ومقام "السيدة زينب" والالعاب الصينية التي تسبّ "السيدة عائشة"!
 

حال الآخرين ليست أفضل بكثير، بين بلطجية الأنظمة المجرمة ومثقفي "الواقعية" الاستسلامية، وهما في الحالتين من الذين ينطبق عليهم هذا الوصف الوارد في جريدة لبنانية ثورية في العام 1970: "يريدون أن يمثلوا دور الملائكة التي تغني في الجحيم، بحجة أنها لا تملك أن تطفئ النار أو تطرد ابليس. بمعنى آخر يريدون أن يحافظوا على مصالحهم، حتى في جهنم".
 

للإسلاميين ول"الآخرين" معاً، وجّه العالم الفيزيائي الشهير ستيفان هوكينغ صفعةً كانت لتضيء وجه المتلقي لو لم يكن رماداً، عندما قرّر مقاطعة المؤتمر السنوي الذي يعقده الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز صديق الرئيس المصري "الإخواني" محمد مرسي، دعماً لحملة المقاطعة العالمية، واحتجاجاً على ممارسات الاحتلال. 
 

حاولت جامعة "كامبريدج" تبرئة نفسها أمام الاسرائيليين وهي حاضنة هوكينغ الاكاديمية، عبر قولها إن السبب وراء الغائه المشاركة هو مرضه. لكن كذب "الصرح الأكاديمي العالمي"، انقشع سريعاً مع نص الرسالة التي وجهها هوكينغ إلى المنظمين مؤكداً أنه يقاطع إرادياً، وأنه أصلا لو حضر لكان أكد على أن سياسات اسرائيل "ستؤدي إلى كارثة".
 

قد يكون العقل العربي مثقلاً بالرمزيات وتشويشها على المنطق، لكن بعض الرمزيات تخدم المنطق وتكشف الكثير مما تحمله الوقائع: هذا الرجل الذي لا يملك جسده وهو مصاب بمرض عضال يمنعه من تحريك أعضائه، والذي يجسّد مع بعض أقرانه الفيزياء الحديثة، اتخذ قراراً مبنياً على موقف مبدئي من ممارسات اسرائيل، فيما سارعت الأكاديميا إلى التبرير والتنصّل لمعرفتها بالتبعات التي قد تأتي على هوكينغ نفسه.
 

هكذا، كلما كان الإسلاميون أبعد عن فلسطين، ارتفعت أصواتهم لنصرتها، وكذلك "الآخرون" ولكن لأسباب مختلفة. فالأولون لا يشكلون خطراً على اسرائيل، أما بالنسبة ل"العلمانيين" العرب، فهم بما يظهر منهم على الأقل، لم يأخذوا عن "العلم" سوى ما يغذي وسواسهم القهري من كلّ ما هو ديني، وبدل أن يوسع العلم أفقهم حتى حدود الثقوب السوداء التي كشف أسرارها هوكينغ، تقوقعوا إلى دواخل صالوناتهم الضيقة وأبراجهم الفكرية الانتقائية.
 

الدولة العبرية اليوم في ذروة من ذروات عنجهيتها واستقوائها إقليمياً، وذلك ليس لأنها تحسّ بالأمان، بل لأنها تخاف على نفسها من أي متغيّر إقليمي أو دولي فتسعى جاهدة لفرض نفسها عنصراً أساسياً في الواقع الجديد . وطالما بقي واقعنا يعيد انتاج هذه الثنائية الوهمية بين الدين والعلم، الأصالة والحداثة، ستبقى اسرائيل ومن ورائها أميركا المستفيد الأكبر من كل متغيّر في واقعنا.

المصدر: 
موقع المدن