الحركة الطالبية الفلسطينية والريادة

بقلم: 

كان الطلبة الفلسطينيون الفئة الأكثر فاعلية في مواجهة سياسات تبديد الهوية الفلسطينية، وطمس الكيانية الفلسطينية بعد نكبة 1948، حيث كانت روابط طلبة فلسطين في بعض الجامعات العربية رافعة مهمة لاستعادة الكيانية والهوية الفلسطينيتين منذ بدايات خمسينيات القرن الماضي. وكان تأليف الاتحاد العام لطلبة فلسطين في العام 1959 تطوراً مفصلياً في مواجهة تبديد الهوية الفلسطينية. كما أدت روابط الطلبة الفلسطينيين في القاهرة والاسكندرية وأسيوط وبيروت دوراً أساسياً في تأليف الاتحاد الذي جسّد آلية إعادة بناء الكيانية الفلسطينية من أسفل، ليس من حيث تشكيله جسماً ممأسساً يحمل اسم فلسطين فحسب، بل من خلال المبادئ والقيم التي حملتها تجربة الحركة الطالبية الفلسطينية، وبناء اتحادها العام. وشخص الاتحاد مهمته الأساسية في خلق الإنسان الثوري القادر على المشاركة في معركة التحرير والإعداد للمعركة وتوعية الشباب الفلسطيني.

الطالب ياسر عرفات يسلم الرئيس محمد نجيب رسالة ممهورة بالدم: لا تنسوا فلسطين (١٩٥٢).

من جانب آخر، شكلت روابط الطلبة والاتحاد العام لطلبة فلسطين مدرسة تخرّج فيها معظم قادة العمل الوطني الفلسطيني طوال العقود اللاحقة. كما شكل الاتحاد قاعدة تنظيمية وشعبية مهمة لمنظمة التحرير، أكان ذلك من خلال توفير العنصر البشري للمهام المختلفة، أو من خلال تشكيله ذراعاً فعالاً لتنفيذ سياسات المنظمة.
وبهذا المعنى كان، الطابع العام للحركة الطالبية الفلسطينية، واتحاد طلبة فلسطين، سياسياً كفاحياً. بمعنى أولوية الوطني في بناء وعمل الحركة الطالبية الفلسطينية مقابل النقابي/ المطلبي. وهذا أمر مبرر وينسجم مع طبيعة المهمات التي تتصدى لها الحركة الطالبية الفلسطينية، والمتمثلة في معركة التحرير من الاستعمار الصهيوني، ومواجهة المخاطر الناجمة عن تشتيت الشعب الفلسطيني، والاستهداف الدائم لهويته وكيانيته. هذا لا يعني الترويج لتهميش النقابي والمطلبي، وإنما الإقرار بأولوية المهام الوطنية، وارتكاز العمل النقابي الطالبي إلى مبادئ النضال الوطني الفلسطيني. وبكل تأكيد، فإن الجانب المطلبي مهم بحد ذاته، والمتمثل في الدفاع عن مصالح الطلبة، والنضال من أجل حق الجميع في التعليم، والحصول على تعليم نوعي، وتفاصيل العمل اليومي في مجال مساعدة الطلبة على الاندماج في الحياة الجامعية، ومواجهة متطلبات الحياة الجامعية المعيشية والأكاديمية. لكن لا قيمة له إذا لم يرتبط بالمهمات الوطنية العامة؛ مهام التحرر الوطني. وهذا من أهم خصائص الحركة الطالبية الفلسطينية. وارتباطا بالخاصية السابقة، تتميز الحركة الطالبية الفلسطينية بدرجة تسييس عالية، والمقصود بها الحزبية، أي ارتباطها الوثيق بالتنظيمات والأحزاب الفلسطينية. وما زال الاستقطاب والتصويت في الانتخابات الطالبية المختلفة مبنياً على الكتل الطالبية الحزبية (الأذرع الطالبية للمنظمات والأحزاب السياسية). وهذا يحمل توجهين مختلفين في أثرهما على الحركة الطالبية:
الأول: الانشداد للقضايا الوطنية العامة، فالتنظيمات والأحزاب السياسية أدوات للنضال الوطني، وهذا أمر ايجابي. والثاني، سلبي، ويتمثل في فرض وصاية على الحركة الطالبية، ما يحد من فرص التجديد والإبداع في أشكال تنظيم وعمل الحركة الطالبية، والحركة الوطنية بشكل عام. وقد انعكس ذلك بوضوح كبير على الاتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي فقد دوره الريادي الذي تجلى في مراحله الأولى لمصلحة غلبة طابع الأداة التي من خلالها يجري تنفيذ سياسات قيادات المنظمة، أو المنظمات المختلفة، وصولاً إلى هيمنة كوادر تنظيمية، وأحياناً من غير الطلبة، على هيئاته القيادية، والتوافق بين قيادات التنظيمات على «كوتا» توزيع مقاعد الهيئات القيادية فيه. وتوج ذلك في تشرذم الحركة الطالبية، وشلل الاتحاد العام انعكاساً لحالة الحقل السياسي الفلسطيني بعد أوسلو، والذي شهد تحولات مهمة، منها: تهميش المنظمة، وبالتالي تهميش متزايد لقواعدها، وأدواتها المختلفة من قبل قيادة السلطة الفلسطينية، وتعاظم قوة القوى السياسية التي نمت خارج المنظمة (تحديداً حماس والجهاد الاسلامي)، وحالة الاستقطاب السياسي الحاد بين «فتح» و«حماس»، والتي توجت بانقسام سياسي عمودي، يتمحور حول سلطتين منفصلتين جغرافياً (الضفة الغربية وقطاع غزة)، بالاضافة إلى زيادة في دور الانتماءات المحلية والجهوية (الانتماءات ما دون وطنية) في الحقل السياسي الفلسطيني.
يشخّص كثيرون واقع الحركة الطالبية بأنها مأزومة، تعيش أزمة تتمثل أبرز مظاهرها في: تراجع دور الحركة الطالبية الوطني والنقابي في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، وشلل الاتحاد العام لطلبة فلسطين، وانعكاس ذلك سلباً على فروعه المختلفة، وضعف آليات العمل المشترك بين الجامعات المختلفة، أو التجمّعات الطالبية المختلفة، وضعف فاعلية مجالس الطلبة. مع ذلك، فإن واقع الحركة الطالبية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني وفي الشتات يعطي صورة غنية بتنوعاتها. فما زالت هناك فروع مهمة للاتحاد في الخارج تمارس حياتها الديموقراطية (انتخابات وتجديد هيئاتها القيادية)، وتقوم بدور فاعل على مستوى العمل مع قاعدتها الطالبية، وتساهم بفاعلية في الحملة الدولية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها. واستمرت عملية انتخابات مجالس الطلبة في مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، حيث تسجل نسب مشاركة مرتفعة، وخاضت نضالات نقابية عديدة. 
أما على المستوى الموضوعي، فالحركة الطالبية الفلسطينية (طلبة التعليم العالي) يشكلون فئة كبيرة من حيث وزنها النسبي في المجتمع، فطلبة التعليم العالي في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 يشكلون نحو 5% من مجموع السكان (بلغ عددهم 214 ألفاً العام 2011 حسب إحصاءات وزارة التعليم العالي الفلسطينية)، وتوجد أعداد كبيرة من الطلبة الجامعيين في دول مختلفة، وموزعين على 49 فرعاً للاتحاد العام لطلبة فلسطين، والمهم أن الغالبية من هؤلاء يعيشون ضمن أطر منظمة، ونشطة. ورغم أن هذا التشتت الجغرافي قد يشكل أرضية للتشرذم التنظيمي، وينذر ببروز خصوصية كل تجمع على حساب العام الوطني، لكنه يحمل في طياته احتمالات أخرى تتمثل في تنوع التجارب والخبرات، والذي يوفر فرصاً مهمة لإبداع حلول للتحديات التي تواجهها الحركة الطالبية، والحركة الوطنية بشكل عام، وبخاصة أننا نتحدث عن فئة عمرية تتسم بالديناميكية والحماس.

ويتسم هذا القطاع بمرونة كبيرة، فهو دائم التجدّد (طلبة جدد)، ومن أماكن مختلفة، ما يخلق فرصاً للتفاعل المباشر بين طلبة من تجمّعات مختلفة، ويسمح بتلاقح خبرات ومهارات متعددة، وبخاصة في الجامعات والمعاهد التي يدرس فيها الطلبة الفلسطينيون خارج الوطن.

إن واقع الحركة الطالبية الفلسطينية يطرح تحدياً من جهة، وفرصاً من جهة أخرى، وتعتمد مواجهة التحديات وتحقق الفرص على الجهود الذاتية للحركة الوطنية بشكل عام، وعلى القوى الطالبية الفاعلة، وتحديداً على توفر أشكال تنظيمية وقواعد عمل تسمح باضطلاع الحركة الطالبية بدور فاعل على صعيد تعزيز بناء الهوية والكيانية الفلسطينيتين، وتعزيز دور الحركة الطالبية في مواجهة الاستعمار الصهيوني.
لقد شكلت الحركة الطالبية حتى الثمانينيات بيئة فعالة لبلورة قيادات العمل الوطني، وبيئة ملائمة لتفاعل الطلبة والكوادر الطالبية من بيئات مختلفة، وساهمت في صهر هذا التنوع، وخلق خصائص مشتركة وتواصل ما بين القيادات على المستويات المختلفة. باختصار، كانت آلية فعالة لإعادة انتاج الهوية والكيانية الفلسطينيتين.
هل تعدّ الأدوات التنظيمية والسياسية المتاحة حالياً ملائمة لاستنهاض وتفعيل الحركة الطالبية الفلسطينية؟ ربما كانت أشكال التنظيم وآليات العمل الحالية جزءاً من أزمة الاتحاد العام لطلبة فلسطين، وأزمة الحركة الطالبية الفلسطينية بشكل عام. ما يوجب التفكير في آليات عمل تقوم على:
ـ مرونة عالية تراعي التنوع في واقع التجمعات الطالبية المختلفة، وربما التفكير جدياً في خيار أن يشكل الاتحاد العام لطلبة فلسطين مظلة عامة يتواجد ضمنها كونفدراليات عديدة للطلبة، تعكس التنوع الكبير في الحركة الطالبية: جغرافياً، وسياسياً، وأيديولوجياً. ففي الحالة الفلسطينية من المهم أن تبقى التنظيمات القطاعية متسامية على حالة التشرذم ذات الأبعاد المختلفة، كآلية لمواجهتها، وتجاوز ما تحمله من احتمالات تأثيراتها السلبية على الهوية الوطنية والنضال الوطني الفلسطيني.
ـ وهذا يتطلب الابتعاد عن النظر للاتحاد وفروعه كجهاز بيروقراطي تمارس من خلاله سطوة قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية على هذا القطاع، والانتقال إلى التعامل معه كحقل للتنافس/ الصراع السياسي والأيديولوجي بين مكونات الحركة الطالبية، والذي تجري قنونته في إطار معركة التحرر الوطني الفلسطيني.
ـ وهذا يفترض الابتعاد عن النهج الإقصائي، فعندما يجري بناء نظام يقوم بإقصاء مجموعة ما، لا يستطيع هذا النظام مطالبة هذه المجموعة بالولاء له؛ إنه يقصيها، وبالتالي يدفعها للعمل خارجه، وفي الغالب ضده. وعليه، فإن بنية الاتحاد المرنة يفترض فيها أن تعكس ميزان القوى داخل الحركة الطالبية، وأن تكون مؤهلة للاستجابة للحراك داخل الحركة الطالبية (التغير في موازين القوى بين الأطراف المكونة للحركة الطالبية، ولادة تعابير جديدة: سياسية أو نقابية،...). فالبنية البيروقراطية الصارمة تحدّ من فرص الإبداع، فهي تضع رضا المرجعيات الأعلى معياراً لشرعية وكفاءة عمل الهيئة المعنية، وهذا بدوره يحد من فرص ابتكار حلول جديدة أو آليات عمل غير مجربة في الاستجابة للتحديات التي تواجهها الحركة الطالبية أو الوطنية بشكل عام.
لا يمكن توقع حركة طالبية مبتورة الصلة بمجتمعها، فهي تحمل خصائص البنية الاجتماعية العامة، وتنعكس فيها خصائص وتناقضات وتوترات الحقل السياسي العام، وفي الوقت ذاته تشكل جزءاً من هذا الحقل السياسي. ومن البديهيات في نضال الحركة الوطنية الفلسطينية أنها تواجه تحدياً يومياً يتمثل في تهديد الهوية والكيانية، وضرورة الاستنفار الدائم في إعادة إنتاجهما وتعزيزهما. لذلك، فإن أشكال بناء أوعية العمل الوطني يجب أن تكون حساسة لهذا التحدي، وفي الوقت نفسه قادرة على التعاطي مع ديناميكيات الواقع الاجتماعي والسياسي. وهذا يضع الحركة الطالبية الفلسطينية أمام استحقاق تجاوز أزمتها، وربما أزمة الحركة الوطنية بشكل عام، وتجاوز مرحلة تشخيص أزمتها، وذكر سماتها، والعوامل المولدة لها.
ربما يتطلّب الخروج من الأزمة تضافر آليات عمل متداخلة: مبادرات على مستويات مختلفة لتفعيل الاتحاد أو بعض فروعه أو تجمعات طالبية وصولاً إلى الجهد الوطني العام للتوافق على أسس عامة لتفعيل الحركة الطالبية، وبخاصة إعادة تنشيط، وربما إعادة بناء، الاتحاد العام لطلبة فلسطين. إن انتظار إنجاز توافق وطني عام لينعكس على الحركة الطالبية هو قبول بتذيّل الحركة الطالبية للحركة الوطنية العامة، وقبول بوصاية قيادة التنظيم/الحزب على الحركة الطالبية. وربما أدى تراكم المبادرات الجزئية إلى توليد تغيير جذري في واقع الحركة الطالبية، أو توليد قوة دافعة نحو بناء توافق وطني يساهم في إعادة الحركة الطالبية الفلسطينية إلى دورها الطليعي: في حماية الهوية والكيانية الفلسطينية، وحماية المشروع الوطني الفلسطيني، وتجديد المستويات القيادية الوطنية وتجديد آليات العمل الوطني.

المصدر: 
السفير