استشكالات الدين والسياسة في فلسطين*

مقدمة

أينما يممت النظر في ربوع الشرق الأوسط وخصوصا في العالم العربي إلا واصطدمت بحروب أهلية وصراعات مذهبية وطائفية تهدد وحدة الأمة ووحدة الدولة الوطنية.فمنذ ظهور جماعات الإسلام السياسي لم تعد الأمة هي الأمة ولا الوطن هو الوطن ولا المواطن هو المواطن . انقلبت مفاهيم العداوة والصداقة ، أصبح المسلم عدو المسلم والعربي عدو العربي والجار عدو جاره بل الأخ بات يناصب أخاه العداء،وأصبح (العدو القريب أولى بالجهاد من العدو البعيد)، وأصبح الأمريكان والغرب أهل كتاب يجوز التحالف معهم لمحاربة (المسلمين المرتدين) من قوميين ويساريين وعلمانيين . بتنا نعيش زمن صعود جماعات إسلام سياسي استطاعت توظيف نفوذها المالي ودقة وسرية تنظيمها وسياستها البراغماتية التي تؤسس لتحالفات غير مبدئية من اجل الوصول للسلطة على حساب الدولة الوطنية والثقافة الوطنية والوحدة الوطنية، وأصبحنا نعيش زمن تجري فيه عملية أدلجة وتسييس فظ للدين الإسلامي بما يُخرجه عن روحانيته وجوهرة المتسامح والمنفتح.

ما كان كل ذلك يحدث لولا تراجع الأيديولوجيات القومية والماركسية والثورية ،وأزمة الدولة الوطنية ،وفشل النخب الحاكمة وغير الحاكمة في عملية الانتقال الديمقراطي، ولولا الجهل والفقر، التربة الخصبة لترعرع التطرف والتعصب الدين. وحيث إن السياسة لا تعرف الفراغ فقد فرضت الجماعات الإسلامية نفسها على المشهد السياسي من خلال العمل الاجتماعي والإغاثي حينا ، وبالعنف أحيانا، وبتواطؤ مع الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة حينا آخر، وبتوظيف آليات الديمقراطية أخيرا كما جرى في تونس وفي مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 ، مع تعاون وتنسيق خفي حينا وظاهر حينا آخر مع الغرب وعلى رأسه واشنطن وهو ما تجلى فيما يسمى بالربيع العربي.

يحدث كل ذلك على حساب القضايا الاقتصادية والتنموية المستعصية من فقر وجوع وتخلف معمم في قطاعات الصحة والتعليم والسكن الخ. خلال ثلاثة عقود تقريبا من حالة الفوضى والخراب التي تشهدها غالبية الدول العربية واستنزاف مقدرات وثروات الأمة في حروب ومؤامرات لم يستفد منها سوى أعداء الأمة من غربيين وإسرائيليين، تعيش الولايات المتحدة عصرها الذهبي وتنتشي إسرائيل فرحة لأنها لم تعرف هدوءا على جبهاتها مع العرب كما تعرفه اليوم، كيف لا وقد انشغل دعاة الجهاد والمقاومة بالصراع من أجل السلطة ومواجهة أنظمة وحكومات عربية لإسقاطها والحلول محلها. المشكلة بطبيعة الحال ليست في الإسلام كدين بل في جماعات صادرت الدين الذي هو ملكية مشتركة لكل المسلمين لتحوله لملكية خاصة بها بعد أدلجته وتسييسه بما يتناسب مع مصالحها وتطلعاتها السلطوية أو مصالح حلفائها الغربيين.

وسط كل ذلك صُيرت القضية الفلسطينية أرضا وشعبا كبش فداء المرحلة ،حيث تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية رسميا وشعبيا ولم يقتصر الأمر على ذلك بل عدنا لزمن كنا نعتقد انه ولى، زمن توظيف القضية الفلسطينية لخدمة أجندة ومشاريع خارجية، وتغلغل الانقسام الذي تشهده الدول العربية والإسلامية ما بين مشروع إسلامي ومشروع وطني أو قومي إلى الساحة الفلسطينية في تجاهل لخصوصية أن الشعب الفلسطيني يخضع للاحتلال وظروفه لا تسمح بالدخول في جدل الإسلامي والوطني بل يحتاج لجبهة وطنية يتم فيها توطين كل الأيديولوجيات، ففي فلسطين ليس مطلوبا إقصاء الدين من الصراع مع إسرائيل ولا إقصاء جماعات الإسلام السياسي الفلسطينية – حماس، الجهاد الإسلامي،حزب التحرير والسلفيين - بل المطلوب توظيف الدين في إطار إستراتيجية وطنية بعيدا عن حسابات السعي للسلطة أو الارتباط بأجندة خارجية،والمطلوب أن توَطِن جماعات الإسلام السياسي أيديولوجيتها لتصبح جزءا من المشروع الوطني التحرري لا أن نلحق هذا المشروع بمشاريع وأجندة خارجية حتى وإن كانت تزعم أنها إسلامية.

سنقارب استشكالات الدين والسياسة في فلسطين من خلال المحاور التالية:

المحور الأول: استشكالات الدين والسياسة في العالم العربي

المحور الثاني: استشكالات الدين والسياسة في فلسطين –معادلة مختلفة-

المحور الثالث: حركة حماس وإشكالية الوطني والإسلامي

 

 

 

المحور الأول

استشكالات الدين والسياسة في العالم العربي

 

أولا : الدين بين العقلنة والأدلجة

عندما يتداخل الدين مع السياسة وتتنطع جماعات (إسلامية) لممارسة السياسة حينئذ فنحن لا نتحدث عن المقدس الديني بل عن ممارسات وسلوكيات سياسية عليها أن تخضع لقواعد وقوانين العمل السياسي لا أن تحتمي بقدسية موهومة ومصطنعة. كل فعل سياسي على مستوى القرارات المصيرية للأمة يجب أن يؤَسَس على العقلانية والواقعية وليس على الايدولوجيا والأساطير والتاريخ غير التاريخي.عندما تؤسَس السياسة على الأيديولوجيات والدين المؤدلج المنسلخ عن أصوله ومعانيه الأولى تفقد السياسة معناها وتتصير سياسة بلا قوانين وبلا مرجعيات مضبوطة ويصبح مصيرها مرتبط بمصير الأيديولوجيا ومن يَنظُم مقولاتها من أحزاب وزعامات ورجال دين جهلهم بالدين لا يقل عن جهلهم بالسياسة.

أسوء السياسيين والأحزاب السياسية هم الذين يُغلبون الايديولوجيا على العقل - عندما يتحول الدين لأحزاب دينية يصبح أيديولوجيا وتسقط القدسية عن هذه الجماعات بشخوصها وفكرها- ، ذلك أن المصالح الوطنية العليا والفعل السياسي المؤسِس لها والمحافظ عليها، لا تقوم إلا على العقلانية السياسية، ولو عدنا لتاريخ الشعوب لوجدنا أن الشعوب التي احتكمت للعقل والعقلانية هي التي أسست الحضارات وكُتب لها الدوام،أما الشعوب التي انساقت وراء الأيديولوجيا أو حولت الدين لأيديولوجيا يتلاعب بها القادة والسلاطين وفقهاؤهم فقد تراجعت مكانتها وبعضها تعرض للانهيار والزوال .

لا يعني هذا رفض مطلق لكل الأيديولوجيات، فقد لعبت أيديولوجيات دورا مهما في مراحل تاريخية من حياة الشعوب وخصوصا عندما عبرت عن ثقافة وهوية شمولية لأمم تستنهض قواها في مواجهة تحديات خارجية. الخلل يكمن في الأيديولوجيا عندما تتحول  لوعي كاذب للواقع وتحريف صارخ للدين.السياسة الواقعية يمكن أن توظف الايديولوجيا بكل تلاوينها الدينية والدنيوية لاستنهاض المشاعر وكل الرموز المستبطنة لتحويلها لمحفزات لبناء القوة الذاتية وكأداة في لعبة موازين القوى،دون أن تصبح أسيرة لها .

التبس مفهوم الواقعية العقلانية بمفهوم الاستسلام للأمر الواقع ،كما تصور البعض أن العقلانية وخصوصا السياسية منها تتعارض بالضرورة مع الدين كمكون مجتمعي وثقافي ،وهذا تقويل وتلبيس لا أساس له من الصحة،فالعقلانية ببساطة نمط تفكير ونهج عقلاني في الممارسة السياسة تقوم على فهم الواقع وموازين القوى التي تحكمه والبيئة الداخلية والخارجية المؤثرة فيه، وتعني التحرر من التفكير الميتافيزيقي والأسطوري وما أقام من منظومات ونظم ثقافية و سياسية،وبالتالي ارتبطت الواقعية العقلانية في مسار التطور التاريخي للأمم بوجود قيادة سياسية قومية تتمتع ببصيرة وتعرف ما تريد، وبمشروع سياسي قومي(وطني) يشكل الحاضنة لهذه السياسة والقيادة. لو عدنا لتاريخ الواقعية والعقلانية السياسية في الغرب مع عصر النهضة ثم الأنوار والذي جاء على أنقاض فكر وأوضاع القرون الوسطى، سنلاحظ تساوق التفكير العقلاني والواقعي المتحرر من الميتافيزيقا والايديولوجيا والتاريخ مع ظهور النزعة القومية[1] بما هي تَطلّع كل شعب ليعبر عن هويته وشخصيته في إطار دولة خاصة به ،أي مواكبا لوجود مشروع قومي (وطني) محل توافق غالبية طبقات وفئات الشعب.

إن علاقة جدلية تقوم ما بين ظهور الدولة الوطنية والعقلانية السياسية ، فما كانت أوروبا ستخرج من عصر الظلمات، وما كانت العلمانية كمظهر من مظاهر العقلانية إن لم تكن هي العقلانية السياسية ، وما كانت الثورة الصناعية لتكون، لو لم تظهر النزعة القومية ثم الدولة القومية المتحررة من أممية الكنيسة، بل حتى الديمقراطية ما كانت ستأخذ السيرورة التي صيرتها ما هي عليه اليوم لولا التحالف ما بين الدولة القومية كحيز جغرافي والعقلانية كمنظومة ثقافية وفكرية .

هذا لا ينفي أن شعوبا غربية أخرى سارت في سياق مختلف كالولايات المتحدة الأمريكية ،فهذه الدول لم تمر بنفس سيرورة تطور الدولة والأمة في أوربا فحتى اليوم ما زالت في مرحلة بناء الدولة القومية،وكذلك دول أسيوية كالهند وباكستان،ولكن الديمقراطية و دولة المؤسسات والقانون  التي قامت على العقلانية السياسية واحتضنتها عوضتها عن الدولة القومية الخالصة.

في التجربة السياسية العربية الإسلامية ستتشيأ الدولة والسياسة و يتشكل العقل السياسي بشكل مغاير، حيث العلاقة بين العقل والدولة والدين أخذت سياقا مغايرا من حيث الشكل والمضمون والسياق التاريخي. ففي الوقت الذي أخذت فيه الواقعية والعقلانية السياسية شكل تمرد الشعوب الأوروبية على التاريخ السياسي للقرون الوسطى باعتباره متعارضا مع العقلانية وتمرد على العقل الفقهي السياسي المسيحي الذي شكل حالة خارجة عن النص المقدس والمسيحية الحقيقية [2]، وفي الوقت الذي وجدت أوروبا في الدولة القومية العلمانية الإطار الذي يجمع ويوفق ما بين السياسة التي تقوم على الواقعية والعقلانية ،والفكر الوضعي ، والمسيحية الحقيقية (النص المقدس) التي تقبل بلعب دور الخادم للدولة القومية المُجسدة لإرادة الأمة،في هذا الوقت كان المسلمون يؤسسون لمفهوم للأمة وللدولة لا يستمد من نصوص مؤكدة من القرآن والسنة ، ولا من إرادة الأمة والعقد الاجتماعي ولا من العقلانية،فهذه أمور لم تكن معروفة في الفقه السياسي ولا في التاريخ السياسي. حتى من حاول من علماء المسلمين– كابن رشد - استحضارها من الثقافة السياسية اليونانية ومن فهم عقلاني للقرآن،حيث للعقل حضور أكبر مما هو في التاريخ السياسي والفقهي كما يذهب كثير من المفكرين المسلمين ،فقد ووجه بعنت شديد [3].

طوال أكثر من ألف عام والمسلمون والعرب يعيشون أزمة دولة وسلطة وعلاقتهما بالدين [4]، وغموض في علاقة العقل بالنقل أو الإيمان والعقل، هذا ناهيك عن غموض في المفهوم الإسلامي للأمة وعلاقته بالوطنية والقومية. أكثر من ألف عام والعقل السياسي العربي والمسلم تائه وغارق في تجريبية لا توصِل لليقين بقدر ما تعمق من الإشكالات المطروحة، حتى محاولات مصلحي عصر النهضة العربية لاستعادة العقل والعقلانية وإيجاد حالة مصالحة بين مقتضيات العصر والإسلام ومشروع الدولة القومية العربية باءت بالفشل لأسباب داخلية وأخرى خارجية [5]، وليس الحاضر بالأفضل حيث تأخذ محاولات استنهاض الحالة العربية والإسلامية شكل الرجوع للتاريخ الإسلامي ولفقه إسلام سياسي لا يعبر عن الإسلام الحقيقي إن لم يكن معاديا له.ومن اللافت للانتباه أن ما تسمى اليوم بالصحوة الإسلامية، وخصوصا ما يندرج  منها  تحت مسمى الإسلام السياسي، تعيش حالة انقسام وفرقة حتى أن ما يفرقها أحيانا من تصورات وتفسيرات واجتهادات دينية لها تمظهرات سياسية، أو خلافات سياسية بأبعاد دينية،أكثر مما يوحدها ويجعل منها كتلة واحدة في مواجهة عدو مشترك،وهي الاختلافات التي تتمظهر اليوم في تباين مواقفها من الدولة والسلطة والديمقراطية والقوانين الوضعية الخ.

صيرورة الواقعية العقلانية ممارسة سياسية على مستوى الأمة تحتاج أربعة مرتكزات:    

1-    العقل والعلم كمرجعية فكرية متجاوزة أو سابقة في الأهمية للأيديولوجيا والأسطورة وللتاريخ السياسي .

2-   توافق وطني أو قومي على ثوابت أو مرجعيات وطنية أو قومية .

3-   قيادة حكيمة عقلانية في فكرها وثقافتها السياسية .

4-  توافق وطني على دور وموقع ووظيفة الدين في المجتمع والدولة.

لا يعني ذلك أنه في حالة وجود هذه العناصر المُشَكِلة للعقلانية الواقعية في أكثر من بلد سنكون أمام أنظمة ومجتمعات متشابه ،ذلك أن لكل أمة عقلانيتها،وعقلانية الأمة لا تنفصل عن ثقافتها ومصالحها القومية ، فللولايات المتحدة الأمريكية عقلانيتها كما لليابان عقلانيتها ،ولإسرائيل عقلانيتها كما لتركيا والصين والهند عقلانيتها،وفي حالة الشعوب الخاضعة للاحتلال كالحالة الفلسطينية فالعقلانية تعني وجود إستراتيجية واحدة وقيادة واحدة في إطار مشروع تحرر وطني ،فالمقاومة تحتاج لممارسة واقعية عقلانية والتسوية والسلام أيضا فعل عقلاني واقعي .

ثانيا : مشكلة الإسلام في (المسلمين) – ضرورة تحرير الإسلام من جماعات الإسلام السياسي -

لم يكن استحضار الرب أو المقدس غائبا في يوم من الأيام عن الحياة الاجتماعية لدى شعوب الشرق عامة، فالشرق هو عالم الروحانيات كما يقول الغربيون، انطلاقا من كونه منبع الديانات السماوية، إلا أن الاستحضار المكثف للرب (المُتَخَيل وليس الحقيقي) وجعله مرجعية لبعضهم، للتحريم والتحليل، ولإضفاء المشروعية على الوضع القائم أو تجريده منها، أخذ اليوم شكلا أكثر حدة، وخلق حالة من الترعس الديني الجماعي جعلت كل الأوضاع القائمة، سياسية واقتصادية واجتماعية، أنظمة وإيديولوجيات وعلاقات، يعاد النظر فيها وتخضع لعملية تقييم جديدة، ليس على أساس شرعيتها القانونية أو الشعبية، بل على أساس مدى ما يربطها بالشريعة الإسلامية وتعاليم الرب، كما يحدد معالمهما أصحاب التيار الديني، من أنظمة ثيوقراطية Theocracyوحركات سياسية دينية.

فأينما يممت وجهك اليوم تصطدم بالدين: فإذا تحدثت عن السياسة والديمقراطية، عليك أن تجد صلة بينهما وبين الإسلام ، وإذا تحدثت عن الاقتصاد والتنمية فيجب استحضار موقف الدين من هذه الأنشطة وتحديد المحرم والمحلل منها، وإذا تحدثت عن الأسرة والزواج فإنهما أكثر الموضوعات إثارة للجدل، وكأن الرب لا هم له ولا شغل له إلا المرأة وما تلبس وكيف تلبس وطبيعة علاقتها بالرجل وبالمجتمع، وعمم على ذلك مختلف أنشطة الحياة، فالمسلمون من أكثر المجتمعات احتفالية بدينهم.ولكن هناك فرق بين الدين والتدين وخصوصا إن أخذ طابع التطرف ،وبين الإسلام والمسلمين.[6]

التطرف الديني تصرف لا عقلاني، بينما الإسلام في مغزاه العميق الروحي والأخلاقي تصرف عقلاني [7]، وكلما تمت عقلنه الواقع بجعله قائما على العدل والإنصاف واحترام إنسانية الإنسان وحقوقه، نُزِعت من المتطرفين دينيا صواعق تفجيرهم التي تحولهم إلى ممارسي سلوك متطرف غير عقلاني. كلما جعلنا الحاضر أفضل من الماضي الذي تتقمصه بعض الحركات الأصولية وتجعله نموذجا لما يجب أن يكون، وكلما أصبحت المجتمعات المسلمة أكثر قدرة على التحكم في واقعها وعلى التحرر من عوامل الهيمنة والاستلاب التي تحكم علاقتها بالمجتمعات الأخرى كلما قلت الحاجة إلى الاستنجاد بالماضي وبالسلف الصالح، وانتفى مبرر انتشار النزعة الدينية المتطرفة.

الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تفجر ظاهرة التطرف واحتدام الصراع بين "الأصوليين" ومعارضيهم، هي أسباب دنيوية لها علاقة بالصراع على السلطة و بمشاكل ترتبط بالجهل والفقر والبطالة والهيمنة الأجنبية، والإحباط واليأس المسيطر على الشباب، أي أنها غير مرتبطة مباشرة بالأيمان بالله أو عدم الأيمان به، أو بأن نكون مسلمين أو غير مسلمين. المشكلة تكمن في المسلمين أنفسهم وبالثقافة السائدة التي أحيانا تتفوق في تأثيرها على الدين أو توظفه لمقتضياتها. تركيز بعض الحركات الإسلامية وخصوصا العربية الجانب السلوكي والطقوسي من الدين لا يعبر عن حقيقة المشكلة ولن يساعد على حلها، لأنه ببساطة لا يتعامل مع جوهر المشكلة [8].

حتى في الجانب الديني الإيماني فحيث إننا لسنا في زمن الأنبياء والرسل والقديسين، وهذه الحركات لا يمكنها أن تدعي أنها على اتصال برب العالمين أو أنها تحتكر السر الإلهي، ولا تدعي أنها جاءت بآية قرآنية جديدة أو بحديث نبوي جديد، إذا فهي تسعى لتوظيف واستحضار الدين والمقدس الذي هو للجميع من أجل أهداف سياسية واجتماعية أو اقتصادية، أي دنيوية بشكل عام،أو بصيغة أخرى إنها تصادر أو تستولي على ما هو عام – الدين الإسلامي – وتوظفه لمصالحها الشخصية.

لا غرو أن توظيف الدين لصلاح الدنيا ليس بالأمر الخطأ بل هو أساس وهدف الدين ولكن يجب عقلنته من خلال إعادة النظر، ليس في الدين بحد ذاته، ولكن فيالموضع الذي يحتله في المجتمع. كان للدين كعنصر استقطاب وتميز عن الآخر وكقيم أخلاقية وروحية دور مفصلي عبر التاريخ في معارك الشعوب ضد أعدائها وفي استنهاض الهمم وشحنها، إلا أن هذا الدور للدين ما كان يمكن أن يكون لولا وجود قيادة عاقلة تُحْسِن توظيف الدين في هذا المجال، ولولا وجود مجتمع نشط ومبدع وفاعل، ووجود مثقفين وعلماء ليسوا أدوات في يد السلطة السياسية، أي لولا توافر شروط موضوعية -سياسية اقتصادية اجتماعية- تهيئ المناخ المناسب للدين ليلعب هذا الدور.

الفرق بين مسيحية أوروبا في عصر الظلمات ومسيحيتها في عصر الأنوار، ليس اكتشاف كتاب مقدس جديد أو نص ديني غاب عن الأولين، وليس في تخلي أوروبا في عصر الأنوار وما بعد عن الكتاب المقدس، ولكن الفرق يكمن في تغيير العقليات و ظهور طبقات ونخب جديدة تمردت على تجهيل المجتمع باسم الدين وعلى احتكار الدين من قلة تحتكره وتنصب نفسها وسيطا بين البشر والسماء ،وأضفت هذه النخب الجديدة معنى وقيمة ودورا مختلفا من خلال إعادة موضعة الدين ودوره في المجتمع. والأمر نفسه بالنسبة إلى الحضارة العربية الإسلامية. ففي ظل الإسلام -قرآن وسنة- شيد المسلمون حضارة من أعرق الحضارات، وفي ظل الإسلام نفسه -قرءان وسنة- وصل العرب والمسلمون إلى الحضيض، فالخلل إذا ليس في القرآن والسنة، ولكن في البشر المتعاملين معهما، الخلل في نظم وقيادات ومؤسساتومثقفين، الخلل أن أشخاصا محددين احتكروا (السر الإلهي) ووظفوا الدين ليس في خدمة الرب ولا في خدمة البشرية ولا في خدمة شعوبهم أو غالبيتها، لكن في خدمة مصالح شخصية وفئوية ضيقة.

إذا، في ظل المأزق الذي تمر به الأمة العربية اليوم، وفي ظل الهجمة الاستعمارية والصهيونية الشرسة لإفقاد العرب ما تبقى لديهم من منعة وعزة وكرامة، يمكن توظيف الدين ليكون عنصر قوة ومنعة، عنصر توحيد واستنهاض للهمم، ليقوم بما عجزت عن القيام به الأنظمة والأيديولوجيات المنهارة، ولكن ليس من خلال التعامل مع الحركات الإسلامية باعتبارها حركات (إحيائية) بل التعامل معها كحركة مستقبلية، حركة تعانق الحاضر وعينها على المستقبل وليس على الماضي -إلا باعتبار الماضي عبرا ودروسا تستلهم- وحصر مظاهر التقديس على أساسيات الإسلام التي لا خلاف عليها، على أن تبقى العلاقة بين الإنسان وربه، وعدم قبول تنصيب أي كان نفسه نائبا عن الله في التحريم والتحليل، وفي منح صكوك الغفران أو الوعيد بنار جهنم، وما عدا ذلك من أمور يتم التعامل معها كمؤسسات وأفكار اجتماعية تستمد مصداقيتها وأحقيتها في الإظهار على غيرها، ليس بزعم انتسابها إلى الإسلام، ولكن بقدرتها على إثبات الذات في معركة الحياة وفي مواجهة المؤسسات والفلسفات والأيديولوجيات الأخرى.

أيضا فإن قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أمر مثير للجدل، فلا الإسلام يقره، ولا مبادئ الدولة المدنية والديمقراطية تقره ، وعلى المجتمع والدولة رفض قيام أحزاب تدعي احتكارها للمجال الديني،ومن يوجد من أحزاب إسلام سياسي هي أحزاب دينية وليست مرجعية دينية،فالمرجعية الدينية يجب أن تكون لجهة وطنية غير حزبية ومحل توافق وطني.

من غير المعقول مواجهة واقع فاسد وحضارة الغرب المادية المتفوقة، بالروحانيات وبالنصوص وبالتاريخ، بل يجب أن نواجهها بواقع قوي متماسك، وإلا كيف يعقل أن ندعي عظمة الإسلام وعظمة حضارة العرب والمسلمين، ونحن ضعفاء متفرقين متخلفين؟ ذلك أن مجرد امتلاكنا القرآن والسنة النبوية وحفظنا إياهما، وامتلاكنا تاريخا مجيدا مليئا بالإنجازات الحضارية، لن تغير هذه الأمور في الواقع شيئا، فليس تردي واقعنا وتخلفنا من إرادة الله  فقط ، بل هو بإرادة البشر وتقاعسهم، والخروج من هذه الحالة لن يكون بانتظار إرادة الله بأن يقول للشيء (كن فيكون)، بل يكون بإرادة البشر وعملهم. والتغيير الاجتماعي ومسيرة التاريخ يسيران حسب إرادة الأقوياء الفاعلين ، وكل عظمة الحضارة العربية الإسلامية التليدة الماضية، لا تستطيع اليوم أن تطعم طفلا جائعا رغيفا من الخبز.

معد الدراسة: 
د.إبراهيم أبراش