بين حقائق الانتفاضة وما بعدها!

بقلم: 

بحلول منتصف نوفمبر، كانت قد مرت خمس وعشرون سنة على "إعلان قيام دولة فلسطين" من قبل المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة عشرة المنعقدة في الجزائر. وهو الإعلان الذي حسم تردُّداً فلسطينيا مديداً بين فكرة "حكومة في المنفى" وفكرة "دولة مستقلة"، لصالح الثانية، وإن كان قد عبَّر في كل حال عن الحاجة الى تحقيق "البرنامج الوطني المرحلي" الذي أقرته منظمة التحرير قبل ذلك بعقد ونصف (1974)، لتحسم به هو أيضا جدلاً فلسطنياً مديداً ومعقداً حول الموقف من الاستراتيجية والتكتيك، الحل الكامل والمرحلية، الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل تراب فلسطين والدولة الوطنية المستقلة على الأجزاء المحتلة من الأرض في حرب العام 1967 الخ.

في كل حال، أتى الإعلان إياه يضع حدّاً لحال الضياع التي عاشتها البندقية الفلسطينية بعد العملية الجراحية الإسرائيلية في لبنان العام 1982، والتي باتت معها عملية الثورة المسلحة عملية ممتنعة بعد إقفال آخر مواقع المواجهة الفلسطينية مع العدو (= الساحة اللبنانية)، لكنه أتى في الوقت ذاته يضع حدّاً لسياسة التنازلات المجانية، والرسائل التطمينية المبهمة، التي سلكتها قيادة م.ت.ف، منذ حرب البقاع والهرمل وطرابلس، وزيارة رئيسها الشهيد لمصر في العام 1983، والتي قُرِئت بوصفها إعلاناً عن الاستعداد لِقبول، ما دُونَ الحقوق الوطنية، وحق تقرير المصير، (أي ما كانت تسميه الريغانية، في حينه بـ"الحقوق السياسية" للفلسطينيين!)، لكي تكرّس حدّاً أدنى وطنياً لا يقبل بأقل من دولة مستقلة على الحزء المحتل من فلسطين، في حرب حزيران (يونيو) 67.

وإذا ما أُخِذَ في الاعتبار أن ذلك الإعلان جرى في سياق انتفاضةٍ فلسطينية مدوّية، وفي امتداد الحقائق السياسية والنفسية التي أفرزتها على صعيد تماسك مجتمع العدو، وعلى صعيد جاهزية الموقف الوطني الفلسطيني ودرجة توازنه، اجتمعت الأسباب كافة للاعتقاد بأن قرار إعلان الدولة وُلِدَ في رحم ظرفية سياسية مناسبة، وكان يستطيع بالتالي أن يعيد صوغ قسمات مسألة الصراع العربي (الفلسطيني) الصهيوني لصالح تجاوُبِ عالمي أكبر مع الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطني، وهو ما تبدَّى من كمّ الاعترافات الدولية بالكيان الفلسطيني المعلن، آنئذ رفع التمثيل الديبلوماسي الفلسطيني في بعض أهم عواصم الغرب.

 اليوم، بل منذ عشرين عاماً، يحوم خطر هدر رصيد المكتسبات الوطنية العظيمة التي انتزعها شعب فلسطين بالدماء والأرواح والمصالح طيلة كل تلك السنوات الفاصلة بين اندلاع الانتفاضة و"إعلان الاستقلال"، وبين حفل التوقيع على اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض، قبل عقدين من الرحلة في طريق المجهول! تضع "أوسلو" نهاية عبثية لإعلان تاريخي صنعته ثورةٌ لا سابق لأسطوريتها في العصر الحدث، هي الانتفاضة: ثورة الطفل على السفاح، الحجر على الدبابة، الحق علي الباطل، المدني على العسكري. نعم، كانت الانتفاضة حقيقة، وكان "إعلان الاستقلال حقيقة، لكن "أوسلو" المستمرة مفاعيل حتى اليوم ظلت واحدة من أكبر حوادث الابتلاء للشعب الفلسطيني في هذا العصر.

المصدر: 
المستقبل