ثلوج القدس والتضليل الإعلامي الأمريكي

بقلم: 

كل صحيفة، أو في الواقع كل وسيلة إعلامية، هي انعكاس للحساسيات السياسية والثقافية لمالكيها ومدرائها . وبذلك يمكنكم أن تربطوا سياسياً وثقافياً بين أولئك الذين يديرون وسيلة إعلامية، مثل صحيفة، وبين ما يشكل محتواها وما يُهمل ذكره .
وعلى سبيل المثال، لنأخذ الصفحة الأولى لصحيفة "نيويورك تايمز" الصادرة يوم (السبت) 24 ديسمبر/ كانون الأول ،2013 حيث تطالعنا صورة كبيرة لما يبدو مثل منتجع تحت عاصفة ثلجية . ويقول شرح الصورة: "دورات في حوض سباحة تحت سماء مثلجة في القدس . عطلت عاصفة ثلجية في محيط القدس يوم الجمعة التجول والكهرباء، ولكنها لم تردع شخصاً عن السباحة في فندق قلعة داوود" .
وباستثناء هذه الكلمات، لم يكن هناك أي خبر . كانت هناك فقط صورة لحدث مناخي غير معهود . ومع ذلك، فإن الصورة الفوتوغرافية تمثل صورة ل"إسرائيل" كمكان متقدم كثيراً . والبعض قد يرى في الصورة دليلاً على اقتناعه بأن "الإسرائيليين" جعلوا فعلاً "الصحراء تزهر" . . أحواض سباحة .
وهناك أمر لن تعلموه في "نيويورك تايمز"، وهو أن التنمية "الإسرائيلية" يقابلها دائماً لا تنمية فلسطينية . وهذه هي النتيجة الحتمية لواقع أن "إسرائيل" هي دولة بنيت فوق ممتلكات تم الاستيلاء عليها من خلال عملية تطهير عرقي طويلة الأمد ولا تزال مستمرة . وهذا التضاد المتسق بين تنمية ولا تنمية ينعكس في الأحوال الراهنة في قطاع غزة .
في ذات اليوم الذي نشرت "نيويورك تايمز" صورة "سماء مثلجة في القدس" على صفحتها الأولى، كان متحدث باسم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" يعلن في بيان أن "أنحاء واسعة من غزة هي منطقة كارثة تغطيها المياه على مدى النظر . . وأي جماعة تعيش حياة طبيعية تكافح للنهوض من هذه الكارثة . ولكن جماعة أخضعت لواحد من أطول الحصارات في تاريخ البشرية، ودمر نظام صحتها العامة، وأضحت عرضة لخطر الأمراض، يجب أن تحرر من هذه القيود المفروضة عليها قسراً حتى تستطيع التعامل مع تأثيرات كارثة طبيعية مثل هذه" .
وأحد أسباب الفيضان في قطاع غزة هو الطقس المثلج ذاته الظاهر في صورة "نيويورك تايمز"، إلا أن الفيضان هو أيضاً نتيجة للتدمير المنهجي "الإسرائيلي" للبنية التحتية في غزة . وعملية اللاتنمية هذه مستمرة منذ وقت طويل . وعليه، يفترض ألا يتأثر أحد لأن "الإسرائيليين" استجابوا متأخرين وبفتور، فسمحوا بإدخال وقود يكفي لمدة أسبوعين وبعض المضخات إلى غزة . فهذه ليست هدايا يقدمها في الوقت المناسب جار مكترث . معظم هذه الإمدادات دفع ثمنه قطر . والجدير بالملاحظة أيضاً هو أن محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة توقفت عن العمل قبل أشهر بسبب رفض "إسرائيل" السماح باستيراد كميات وقود وقطع غيار كافية . والغزيون يحصلون في المتوسط على ثلاث ساعات من الكهرباء في اليوم .
وفي 15 ديسمبر/ كانون الأول، نشرت "نيويورك تايمز" خبراً بعنوان "غزة، المتضايقة بسبب فيضانات، تحصل على وقود وكهرباء" . غير أن من يقرأ الخبر (الذي لم يتضمن بيان الأونروا)، يتكون لديه انطباع بأن "الإسرائيليين" ليسوا مسؤولين بأي شكل عن مشكلات غزة . وقد صيغ الخبر بحيث يبدو أن اللوم يقع على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، إذ يزعم أن السلطة الفلسطينية "تستطيع في أي وقت شحن الوقود إلى غزة عبر "إسرائيل" . وهذا ادعاء مضلل، لأن "الإسرائيليين" لا يسمحون إلا باستيراد جزء يسير من الحاجة الفعلية للسكان . ومع ذلك، يزعم خبر الصحيفة أن السلطة الفلسطينية تفرض ضريبة على الوقود، وهذا ما يسبب ندرته في غزة . إن إلقاء اللوم على السلطة الفلسطينية لهو تحريف فظيع للحقيقة .
وبطبيعة الحال، كلا "الإسرائيليين" وأولئك الذين يديرون "نيويورك تايمز" لديهم أسبابهم للتصرف على هذا النحو .
في ما يتعلق ب "الإسرائيليين" هم يعرضون أسبابهم على النحو التالي:
"الفلسطينيون يكرهوننا ويريدون تدمير دولتنا . حتى إن حكومة حماس في غزة تطلق صواريخ على مدن "إسرائيلية" جنوبية . ونحن نبقي كل سكان غزة تحت الحصار من أجل حماية أنفسنا من عداواتهم" .
نعم، بعض من هذا صحيح . ولكن لماذا يتعاملون مع الوضع من خلال حبس 6 .1 مليون إنسان في غيثو، ما يتسبب بإفقارهم، ومن خلال التدمير المنهجي لبنيتهم التحتية؟ (وهذه استراتيجية تنطوي على مفارقة كبيرة من قبل دولة، هي "إسرائيل"، تدعي أنها تمثل شعباً اضطهد داخل غيتوات) . وهل هذا ثأر لتلك الهجمات الصاروخية التي هي أصلاً ثأر للعدوان "الإسرائيلي"؟ برغم واقع أن حقد "الإسرائيليين" وخوفهم من الفلسطينيين مساويان تماماً لحقد وخوف خصومهم، إلا أنني لا أعتقد أن فرضية الثأر تفسر بشكل كامل السلوك "الإسرائيلي" .
التفسير الأرجح هو أن "الإسرائيليين" ما كانوا ليحتاجون إلى استراتيجية الغيتو لو كانوا مستعدين حقاً للتوصل إلى حل عادل مع الفلسطينيين . إلا أنهم ليسوا راغبين في ذلك، ولهذا تبنوا استراتيجية الغيتو .
وفي ما يتعلق بصحيفة "نيويورك تايمز"، ما هو منطقها؟ ولماذا ترفض هيئة تحريرها تقديم تغطيتها الصحفية لمسألة "إسرائيل" - فلسطين في إطارها الصحيح؟ نجد جزءاً من الجواب في مقتضيات إدارة صحيفة (ترويج الإعلانات التجارية) في المناخ العرقي لمدينة نيويورك . ولكن يجب أن يضاف إلى ذلك واقع أن معظم محرري وصحفيي "نيويورك تايمز" المختصين بتغطية المسائل "الإسرائيلية" والفلسطينية هم أحدث جيل في صف طويل من أنصار الحركة الصهيونية . وهم على الأرجح يفضلون من يوصفون بصهاينة معتدلين وليس الليكوديين المتصلبين من أمثال بنيامين نتنياهو . ولكن عملياً، هذا أمر ليس بذي أهمية . فهم متفانون من أجل "إسرائيل" ك "دولة يهودية"، بحيث إنهم يدعمونها بصرف النظر عن ذنوبها . ولهذا تمارس "نيويورك تايمز"، بالأمر الواقع، الرقابة الذاتية عندما تتعلق مسألة بسلوك "إسرائيل" .

المصدر: 
الخليج