الانتفاضة الفلسطينية الثالثة.. حسابات سياسية مجهضة

بقلم: 

على الرغم من تضافر الظروف الداخلية والإقليمية لاحتمال اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة تتوج نضال الشعب الفلسطيني إزاء جلاده ومحتله، الذي ما عاد غريباً أو دخيلاً بحسب بعض أدبيات المفاوضين الأجلاء، فإن جهات بحثية وسياسية عدة تتحدث عن عوامل إجهاض وإفشال قد تكون داخلية في مجملها.
وزير الخارجية الامريكية جون كيري تحدث عن امكانية اندلاع هذه الانتفاضة إذا بقي القادة الاسرائيليون متمسكين بمواقفهم المعرقلة لتحقيق أي ‘سلام’، على حد تعبيره، واعتبرت الحكومة الاسرائيلية تصريح كيري في مقابلة تلفزيونية بأنه ‘تلويح بالتهديد من قبل الادارة الامريكية’، وقد يكون تحريضاً امريكياً للبدء في هذه الانتفاضة، أو لأن كيري يشعر بأن الفلسطيني مل من المفاوضات التي لم تقدم له كل ما يصبو اليه من آمال وطنية.
عوامل عدة قد تكون في صالح اندلاع الانتفاضة الثالثة التي قد تجهض ما تبقى من أوهام التفاوض لدى من أدمنها، منها شعور الفلسطيني بعدم وجود أفق سياسي لأي حل، وانه سيبقى يعاني من الاحتلال الاسرائيلي، كما يبرز في هذا السياق إحساس أبناء القضية أنفسهم أن قضيتهم الجامعة لشعث الأمة (فلسطين) لا تحظى في الوقت الراهن بالاهتمام المناسب لها، وأنه لا بدّ من التحرك لإيقاظ العالم من سباته، والتذكير بأن هناك شعباً مظلوماً يحتاج إلى دعم لحل قضيته.
معاناة المواطن الفلسطيني في تأمين لقمة عيشه في ظل ظروف مأساوية، قد تدفعه إلى التفكير بالخلاص من هذا الوضع الاقتصادي، يضاف إلى ذلك تواصل سياسة القمع والبطش الاسرائيلية، من اعتقالات ومداهمات لمدن وبلدات وقرى، واقتحامات لمؤسسات وبيوت، والتصفية الجسدية للناشطين، وتضييق الخناق وسياسة الاستيطان ومصادرة الأراضي، وقطع أوصال الوطن وتعقيد تحركاته وتنقلاته. كما ان تنامي عجز السلطة عن القيام بمسؤولياتها، والتأكد من فشل جهودها في تحقيق أمنيات الشعب الفلسطيني في اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، قد تدفع باتجاه الخيار الشعبي.
امكانية اندلاع انتفاضة جديدة أمر وارد وقد يكون اندلاعها عفوياً كما كان في الانتفاضة الأولى في 9 كانون الأول/ديسمبر عام 1987. وقد تكون هذه الانتفاضة مفروضة على القيادة الفلسطينية وبعض الفصائل الفلسطينية. كما قد تكون تعبيراً عن عدم رضا الشارع الفلسطيني عن المفاوضات الحالية التي انطلقت منذ 20 عاماً ولم تُؤدِ إلى نتيجة ملموسة.
عوامل منع إطلاق الانتفاضة الثالثة رغم توفر مقوماتها، مع الأسف داخلية، في معظمها، فالسلطة الفلسطينية ترى أن الوقت لم يحن لانطلاق هذه الانتفاضة، ويجب اعطاء فرصة اضافية للمفاوضات، وإذا استطاعت تحقيق انتصار دبلوماسي على الساحة الدولية، فإن هذا سيشجع على التريث والتسويف، لكن المشكلة ان السلطة الفلسطينية تخوف الشارع من عواقب هذه الانتفاضة بحجة ان ‘إسرائيل’ هي من تريدها لتدمير مكتسبات الدولة العتيدة التي شارف حلم قيامها على البزوغ، بحسب متنطعي السلطة، وان ‘إسرائيل’ تريد الانتفاضة للتهرب من الاستحقاقات السياسية وتنفيذ القرارات الدولية.
لقد كانت الانتفاضة الأولى ناجحة لأنها كانت سلمية إلى حد كبير، ولم تستخدم فيها الأسلحة، في حين أن الانتفاضة الثانية كانت ‘معسكرة’ الى حد كبير، الا أن الانتفاضة الثانية أجبرت ‘اسرائيل’ على الانسحاب الكامل من القطاع، رغم ما يعاني منه من حصار جائر.
التصريحات التحريضية للمسؤولين الاسرائيليين المحسوبين على التيار اليميني، سواء أكانوا سياسيين أو عسكريين، بان هناك جهات تريد اندلاع الانتفاضة، وتحرض عليها لتحقيق بعض ‘المنجزات’ حسب اعتقادهم، في مقدمتها وقف التفاوض مع الجانب الفلسطيني، وبالتالي لن يكون هناك تنازل أو سلام، على حد زعمهم، وهو ما تسوق له السلطة الفلسطينية الآن لتبرير استمرار التفاوض الى ما لا نهاية، ويؤدي ذلك تالياً الى تبرير كل إجراءات القمع والبطش بحق الشعب الفلسطيني، وتبرير سياستها في مواصلة الاستيطان والاعتقالات والمداهمة وجميع الاجراءات التعسفية، فضلاً عن مطالبة الجيش الإسرائيلي بزيادة ميزانيته المخصصة لمواجهة ما يسميه أخطار الداخل. لكن الخوف الأكبر مع الأسف، يظل من السلطة التي تعتقد ان مثل هذا الخيار سيزيد من معـــــاناة الشعب الفلسطيني، مالياً وسياسياً، وســـــيحرجها امام الرأي العــــام الدولي والدول الكبرى الراعية للمفاوضات وبالذات الولايات المتحدة، وقد تلجأ الدول الاوروبية الى وقف تقديم المساعدات المالية.
بدائل السلطة في مواجهة الاحتلال كانت ولا تزال لا تسمن ولا تغني من جوع، فالسلطة تفضل عدة وسائل قد تكون بديلة عن اندلاع أو خوض غمار انتفاضة جديدة، ومن أهم هذه الاساليب، النضال الشعبي الهادئ كما يحدث أيام الجمعة واحضار عدد كبير من المتضامنين الأجانب للمشاركة في هذه الاحتجاجات السلمية، وكذلك التوجه الى المجتمع الدولي من خلال طلب العضوية في أكثر من مؤسسة دولية، واللجوء الى المحاكم الدولية.
إضعاف خيارات الشعب الفلسطيني ونزع خيار المواجهة مع العدو ولو من باب النضال السلمي الشعبي، لا يسهم في تحسين موقفه أمام عدوه، أو حتى امام العالم، والتذرع بمنعكسات الربيع العربي وضعف الاهتمام بفلسطين لتمرير الخيارات الخاطئة، لا يمكن القبول، لا سيما ان خيار السلطة المتحالف مع دول الاعتدال العربي، لا يزال له وزنه حالياً، فلماذا إذن التفريط بأبسط الحقوق والمكتسبات؟

المصدر: 
القدس العربي