عقدة الكراهية في السياسة الإسرائيلية

بقلم: 

ما هو السر وراء العنف الشديد الذي يمارسه المستوطنون اليهود ضد الفلسطينيين؟ وما هو مصدر الكراهية اللامحدودة التي يظهرها المستوطنون تجاه الفلسطينيين؟
ولماذا تشترط اسرائيل الاعتراف الفلسطيني بيهوديتها اساساً لأي مفاوضات حول التسوية السياسية أياً كان مضمون هذه التسوية. وما هو السر وراء الاندفاع الاسرائيلي في التحول من العلمانية الصهيونية الى اليهودية الدينية؟.
عبثاً البحث عن اجابات عن هذه التساؤلات في سلوك ومواقف المجتمع الفلسطيني أو المجتمع العربي، او حتى المجتمع الاسلامي الأوسع. فعندما تحررت القدس في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب من السيطرة البيزنطية أعاد الخليفة للمسيحيين (البطريرك صفرونيوس) الإشراف الكامل على الأماكن المسيحية المقدسة.. وفي الوقت نفسه رفع الحظر عن دخول اليهود الى القدس والذي كان البيزنطيون قد فرضوه عليهم.
وبعد ان حرر صلاح الدين القدس من احتلال قوات الفرنجة (القوات الصليبية) عين يهودياً وزيراً لماليته في المدينة.
وعندما أقام المسلمون حضارة مشرقية في الأندلس تبوأ العلماء والمفكرون اليهود بمن فيهم الحاخامات مواقع قيادية في الدولة وشكلوا مع العلماء المسلمين والمسيحيين منارة علم في مدينة توليدو غمرت أنوارها القارة الأوروبية كلها.. وكانت الحجر الأساس في نهضتها.
ولما هُزم المسلمون وهُجروا من الأندلس، هُجر معهم اليهود ايضاً. يومها فتحت لهم الامبراطورية العثمانية أبوابها حيث وجدوا فيها الملجأ الآمن.
ووجد اليهود كالمسلمين ملجأ آمناً في شمال افريقيا، وخاصة في المغرب وتونس، فأقاموا صرحاً دينياً لهم في جزيرة جربا التونسية لا يزالون يحجون اليه حتى اليوم. ولا يزال أحدهم يتبوأ منصب المستشار الشخصي للملك محمد السادس في المغرب، وحتى اليوم أيضاً.
وعندما قامت حكومة فيشي الفرنسية المتعاونة مع الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، طالبت سلطان المغرب محمد الخامس باعتبار ان المغرب كان في ذلك الوقت تحت الهيمنة الفرنسية- بتسليمها اليهود المغاربة. ولكن السلطان المسلم رفض هذا الطلب على أساس ان اليهود مواطنون مغاربة لهم ما لسائر المواطنين الآخرين من حقوق بما فيها حق حماية الدولة ورعايتها.
لم تسجل وقائع التاريخ الحديث صراعاً عنصرياً أو دينياً بين المسلمين واليهود في أي مكان من العالم الاسلامي الواسع من أندونيسيا حتى المغرب.. الى أن تبرعت بريطانيا على لسان وزير خارجتيها بلفور منح فلسطين لليهود لتكون وطناً قومياً لهم.
ذاق اليهود مرّ العذاب على يد البريطانيين. وعلى يد الفرنسيين، وكذلك على يد الروس منذ العهود القيصرية. وتعرضوا لكل أنواع التحقير والابتزاز في العديد من دول أوروبة الشرقية والغربية على حد سواء. الى ان كانت الجريمة الكبرى التي ارتكبتها النازية في عهد هتلر من خلال "الحل النهائي" لقضية يهود أوروبة. وهي تصفيتهم والتخلص منهم في أفران الغاز ومعسكرات الاعتقال.
وعندما احتل الألمان بولونيا تعمدوا اقامة مواقع الابادة في أراضيها، واشهرها معسكر أوشفيتز قرب مدينة كراكوف في الجنوب، وهي المدينة التي تبوأ فيها البابا السابق يوحنا بولس الثاني موقع رئيس الأساقفة. ثم انها المدينة التي وصلت جحافل القوات العثمانية الى تخومها في حملة التوسع العثماني في أوروبة، من دون أن تتمكن من اقتحامها.
ان اختيار الألمان بولونيا لتنفيذ مشروع الحل النهائي لم يكن صدفة. فالبولونيون كانوا يكرهون اليهود ويضطهدونهم كغيرهم من شعوب أوروبة. ولقد أجهز البولونيون حتى على الناجين اليهود من معسكرات الاعتقال الألمانية. وبعد خسارة ألمانيا للحرب وانسحابها من بولندة فان الحكومات البولونية الوطنية التي قامت تحت المظلة الشيوعية، وخاصة في عام 1968، تابعت مهمة الاضطهاد والتنكيل باليهود. ويبدو ان هذه المشاعر مستمرة حتى اليوم. ففي دراسة احصائية أجريت مؤخراً مع طلاب جامعيين حول شعور البولونيين تجاه اليهود، تبين ان 61 بالمائة من الطلاب يبدون عدم رغبة في مزاملة طلاب يهود أو معاشرتهم. وان 45 بالمائة منهم يأنفون من دعوة يهودي الى زيارتهم في منازلهم.
كان عدد اليهود البولونيين لدى بداية الحرب العالمية الثانية يبلغ 3،3 ملايين. وفي عام 2002 أجري احصاء لليهود البولونيين فتبين ان عددهم هو 1،133 فقط. فأين تبخروا؟
لقد أباد الألمان أعداداً كبيرة منهم. الا ان كثيرين تمكنوا من الفرار الى أوروبة الغربية وخاصة الى بريطانيا.. ومنها الى الولايات المتحدة وكندا. ووجد كثيرون منهم فيما بعد طريقهم الى فلسطين.
وتقول الوثائق اليهودية ان أعداداً كبيرة من الذين نجوا من المذابح الألمانية وقعوا في أيدي اللاساميين البولونيين الذين فتكوا بهم. صحيح ان بعضاً منهم وجد من يساعده من البولونيين على الهرب من البلاد، الا ان العنصريين البولونيين أكملوا مهمة "الحل النهائي" بطريقتهم الخاصة..
ولذلك وصل المهاجرون البولونيون ومن مختلف دول أوروبة الشرقية بما فيها لاتفيا التي جاء منها وزير الخارجية الحالي ايغودور ليبرمان الى فلسطين مشبعين بالحقد والكراهية، وبعدم الثقة بالآخر غير اليهودي، أياً يكن هذا الآخر. وكان الفلسطيني ضحية هذا الكم الكبير من المشاعر الحاقدة.
في الاساس، قامت اسرائيل على هذه المشاعر. وتوسعت بحافز منها، وبسببها أجهضت كل مساعي التسوية السياسية. وهي لا تزال تشكل حتى اليوم العمود الفقري للوحدة الوطنية الاسرائيلية: رفض الآخر غير اليهودي، وكراهيته، واعتباره عدواً لا يمكن الوثوق به ولا الاطمئنان الى أي صيغة من صيغ التعايش معه.
لقد اعترف الألمان بما يسميه اليهود "الاثم الجماعي" وذلك باعتبار ان ما قام به هتلر بموجب "مشروع الحل النهائي" لم يكن مجرد سياسة حزب حاكم (النازي) ولا هلوسة زعيم دموي (هتلر) ولكنه كان ثقافة المانية عامة. وهو ما ينفيه المفكرون والمثقفون الألمان اليوم جملة وتفصيلاً. الا ان هذا الاعتقاد محفور بعمق في الشخصية اليهودية، يعكسه سلوك المستوطنين وسياسة الحكومة الاسرائيلية، ويعبر عن ذاته في فلسطين المحتلة، وليس في المانيا ولا في بولندا. ففلسطين المحتلة هي أولاً هدف في متناول اليد. وما يشجع اليهود على ذلك وجود مصلحة للدول التي اضطهدتهم وسامتهم سوء العذاب، مساعدتهم على تفريغ مخزون كراهيتهم واحقادهم بعيداً عنها. ولعل في هذا ما يفسر السكوت الغربي على احتلال كل فلسطين وانتهاك كل قرارات الأمم المتحدة التي تتعلق بالحقوق الفلسطينية. وكذلك السكوت على التوسع الاسرائيلي في الأراضي المحتلة وبناء المستوطنات اليهودية وتهويد القدس وتغيير ديموغرافيتها البشرية ومعالمها الاجتماعية.
غير ان بعض الدول الأوروبية بدأ يتحرر من هذه المشاعر. يعكس ذلك قرار الاتحاد الأوروبي بمقاطعة استيراد منتجات المستوطنات اليهودية. كما يعكسه قرار عدد من الجامعات الأوروبية _وحتى الأميركية_ مقاطعة أي تعاون مع الجامعات الاسرائيلية كرد فعل على انتهاك الحقوق الانسانية للفلسطينيين. ويمكن اعتبار قرار الكنيسة المشيخية الأميركية سحب استثماراتها المالية من اسرائيل احتجاجاً على بناء الجدار العنصري ودعوة الكنيسة الادارة الأميركية الى تطبيق القانون الأميركي المتعلق بشروط المساعدات الخارجية على اسرائيل أسوة ببقية الدول الأخرى، خطوة جريئة ومتقدمة في هذا المجال.
أما رد الفعل الاسرائيلي على هذه المتغيرات فانه ينطلق من مخزون الكراهية الموروث من عذابات اليهود في أوروبة.. ويتمثل ذلك في رفض هذه المواقف والتنديد بها والتأكيد على اعتبار أي انتقاد سياسي لاسرائيل على أنه تعبير عن اللاسامية وعن كراهية اليهود!!
اذا كان صحيحاً ان الألمان اعترفوا "بالذنب الجماعي" على خلفية جرائم النازية، فمتى يعترف الاسرائيليون بالذنب الجماعي على خلفية جرائم الانتقام من جرائم النازية ؟

المصدر: 
القدس