يدفعون بلغة التسوية ويقبضون بلغة المصالحة التاريخية!

بقلم: 

لماذا تصرّ إسرائيل في إطار تسوية مع الفلسطينيين على تواجد طويل الأمد في غور الأردن وعلى اعتراف فلسطيني بإسرائيل كدولة القومية اليهودية؟ الإجابة عن هذا السؤال المعضلة بالنسبة الى الفلسطينيين تُحدد الموقف الفلسطيني من اقتراحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري ومن فرصة التفاوض الحالية. ويُمكن للإجابة الفلسطينية ألا تكون على نسق نرفض أو نقبل. من هنا ضرورة تفكيك اللغز إلى عوامله واقتراح صيغة فلسطينية لتجاوز الراهن، لأنه من غير الصحيح ولا الكافي سياسياً الرهان على الضغط الأميركي وعلى سيف المقاطعة فوق عنق إسرائيل.

المطلبان الإسرائيليان مرتبطان من حيث الهدف الذي يراد تحقيقه. فمطلب الاعتراف بدولة إسرائيل كدولة للشعب اليهودي يهدف إلى تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بأن لا عودة للفلسطينيين اللاجئين إلى حدود إسرائيل المرسومة في إطار التسوية. بمعنى، أن حلّ مسألة اللاجئين الفلسطينيين ينبغي أن يحصل - إذا حصل - في كل مكان باستثناء إسرائيل في حدود التسوية. وهذا يعني أن التسوية المتداولة تشكّل بالنسبة لإسرائيل ضبط الديموغرافيا الفلسطينية على نحو يضمن غالبية يهودية ثابتة في إسرائيل بمنع العودة الفلسطينية وبتسهيل الخروج الفلسطيني منها في شكل تبادل مناطق أو تشجيع الهجرة. وهي نزعة قد تصل حدّ «الترانسفير» كاحتمال.

أما الإصرار على التواجد في غور الأردن فليس أمنياً بمقدار ما هو مكمّل للإصرار الأول على يهودية الدولة. فالقصد الإسرائيلي هو التحكّم بحركة الدخول والخروج إلى الدولة الفلسطينية المتأتية عن تسوية، كما هو الوضع في قطاع غزة. فاتفاق المعابر مع مصر والسلطة الوطنية قبل انقلاب حماس وفي إطار اتفاقات أوسلو يترك لإسرائيل الصلاحيات الكاملة في التحكّم بسجل السكان في القطاع وضبط حركة الدخول والخروج منه، والامر ذاته تريده إسرائيل في ما يتصل بالضفة الغربية. فالوضع القائم الآن هو تحكّم تام للجانب الإسرائيلي بتنقّل الفلسطينيين من الضفة وإليها. وهو ليس تحكماً أمنياً كما يُدّعى بل تحكّم ديموغرافي يُقصد به منع حصول تغيير ديموغرافي بين النهر والبحر، يحوّل اليهود إلى أقلية ويشكّل ضغطاً هائلاً لتغيير حدود التسوية أو تطبيق حق العودة الفلسطينية إلى فلسطين التاريخية ولو جزئياً.

هذا ما تريده إسرائيل من مطلبَيها المذكورين، وهو ما ينبغي أن يُفكّر الفلسطينيون في كيفية التعامل معه عبر الرفض أو القبول. واقتراحنا أن ينبني التوجّه الفلسطيني على رؤية التخوفات الإسرائيلية شرعية عكس الحلول التي تُطرح من إسرائيل والجانب الأميركي.

الإسرائيليون، كما هو واضح في سلوكهم على الأرض وفي سياساتهم، معنيون بأن تكون التسوية المقترحة راهناً على أساس تقاسم الأرض وإقامة الدولتين حلاً نهائياً للصراع، بمعنى تصريف حق العودة في شكل يُعفي الإسرائيليين من هذا الملفّ نهائياً. يعني أنهم يريدون للتسوية أن تكون بمثابة مصالحة تاريخية بينهم وبين الشعب الفلسطيني وعبره مع المحيط العربي. ويريدون أن يحصّلوا كل عائدات المصالحة وأن يدفعوا أثمان تسوية محدودة. هنا تكمن الفجوة بينهم وبين الفلسطينيين في هذه الجولة من المفاوضات وما سبقها. وعلى الفلسطيني أن يسدّ هذه الفجوة بالفصل في التعامل بين التسوية الممكنة وبين المصالحة التاريخية المأمولة، وهما تستدعيان لغتين مختلفتين. تنبغي رؤية المطلبَين الإسرائيليين بخصوص ضبط الديموغرافيا الفلسطينية ضمن خطاب المصالحة على نحو مختلف عنه ضمن خطاب التسوية. التخوّفات الإسرائيلية شرعية وينبغي التعامل معها، والسؤال كيف. التسوية محدودة بزمن ويُمكن وضع كل نقطة متفق عليها ضمن حدود زمنية. فالتسوية يُمكن أن تكون مرحلة تجريبية أو مرحلة تمهيدية أو مقدّمة لاتفاقات أوسع، من هنا أهمية ألا يقبل الفلسطينيون أي مطالب تتجاوز حدود التسوية مثل مطلب الاعتراف بإسرائيل دولة الشعب اليهودي. هنا يُمكن الاكتفاء بحق تقرير المصير لليهود في فلسطين التاريخية في إطار دولة إسرائيل. ولا يُمكن ضمن التسوية المحدودة في زمن أو مواضيع، أن يطوي الفلسطينيون ملفّ العودة مقابل إسرائيل أو الدول العربية أو العالم. وهو موضوع متروك بامتياز لحالة المصالحة التاريخية.

هذا يعني أن يكون الفلسطينيون كرماء جداً في الاستجابة لمطالب إسرائيلية في حدود التسوية في المسائل الأمنية مثلاً، أو حتى في مسألة إدخال تعديلات على حدود حزيران (يونيو) 67 من دون أي خلط للأوراق بين مقتضيات تسوية محدودة وبين مقتضيات مصالحة تاريخية، بين أثمان يدفعها الفلسطينيون ضمن تسوية، وأثمان يقبضونها ضمن مصالحة تاريخية. فمسألة اللاجئين قضية للمصالحة لأنها تشمل لاجئي الداخل (250 ألف فلسطيني في إسرائيل يعيشون خارج قراهم الأصلية) ولاجئي الشتات. وقبول الفلسطينيين ضبط ديموغرافيتهم بأنفسهم و/أو بأيدٍ إسرائيلية مسألة تُحسم في إطار المصالحة، ينبغي أن يحصل الفلسطينيون في مقابلها على امتيازات وتعويضات ومطالب لا مكان لها في التسوية المتداولة الآن.

من هنا أهمية أن يواصل الفلسطينيون التفاوض أو التوجّه إلى هيئات الأمم المتحدة من خلال التواصل مع العالم بلغته وبإيضاح الفارق بين تسوية وبين مصالحة تاريخية. ولو سُئلتُ الآن لأشرت على المفاوض الفلسطيني أن يقترح بثقة بالنفس وبقامة مرفوعة، صيغة المصالحة التاريخية الأوسع لأن فيها مخرجاً وأفقاً للفلسطينيين والإسرائيليين على حدّ سواء. وقد تكون في ذلك، أيضاً، قيمة مضافة تتمثل في تخليص الإسرائيليين من أنفسهم واحتلالهم وإعادتهم إلى التاريخ.

المصدر: 
الحياة