«الحزب الثالث» ضرورة فلسطينية ولو كره البعض!!

بقلم: 

قبل ان يعترض معترض، نقول بأننا في مقاربة الشؤون الوطنية الاستراتيجية سنتجاوز عن التقاط التفاصيل الصغيرة، وعن الانضباط للقوالب النظرية الجامدة. ولذلك فإن افتراضنا بأن هناك حزبين فلسطينيين، ومن خلال تطلعنا الى حزب ثالث، فإن هذا لا يشكل حكماً على البؤر السياسية الاخرى بأنها عديمة الاهمية او غائبة، ولكننا في هذه الاحوال الحرجة سوف نركز على القوى السياسية ذات التأثير الجارف على حياة الناس.

-ماذا عن الحياة السياسية الفلسطينية؟

وقبل...

-لماذا يبدو الفلسطينيون على هذه الدرجة من العجز حتى عن تشكيل جبهة وطنية، ووفروا الفرصة للقاصي والداني ليسعفهم بالنصائح السطحية، التي لا تسبر أغوار هذه الظاهرة، ولا تتقصى اسبابها؟

قبل الانغماس في الازمة المعاصرة، ولمزيد من الايضاح لابد من عودة الى الجذور.

مثل مصر وايران في فجر التاريخ، ساهمت فلسطين في تقدم الحياة الانسانية، ولكنها لم تتوفر لها المقومات البشرية والاقتصادية لبناء امبراطورية او حتى اقامة دولة مستقرة. فقد ظلت ممراً للغزاة، او ملحقة بالامبراطوريات.

وفي وثبة زمنية اسطورية، سوف نقفز الى ثلاثينيات القرن العشرين.

اهمية ثلاثينيات القرن الماضي كمرحلة، رغم انها لا تخلو من الشوائب، كانت-بتقدير نسبي-اكثر فلسطينية من المراحل التي تلتها، فخلالها تبلورت الفكرة الوطنية على لظى التضحيات، وبدأنا في التحول من رعايا للآخرين الى شعب فلسطيني على ارض وطنه.

هذا التحول، آثار الفزع من حولنا، لان القوى الاستعمارية، والحركة الصهيونية، والحكام العرب الذين يبادلون الحماية بالولاء مع القوى التي نصّبتهم. كل هؤلاء اخذوا يتعاملون مع هذا التحول كوباء غير مقبول من اي طرف، لذلك تصدى كل بطريقة لمنع انتشار هذا الوباء.

مع نشوتنا بالمشاعر الوطنية، ودبيبها الذي اشعل الحيوية في النفوس، الا ان نقص الخبرة، وضعف الامكانية، وعدم الوعي بالظروف المحيطة بنا، والجهل بأساليب التعامل معها، قد قادتنا الى الفشل. وللمراجعة هنا، فإن الامر اولاً وأخيراً، يبدأ وينتهي بالعقل الفلسطيني.

ومن التحليق بالمشاعر فوق السحاب، الى الهبوط بالافعال على سطح الارض. فهذه هي الطبيعة القديمة، والطباع المتجددة للعقل الفلسطيني. فليضع كل منا كراسته المتسخة والمهترئة الاوراق جانباً، حتى لا نكتفي بواجب انتقاء بعض الشتائم وتوجيهها الى الآخر. فالآخر عدو يشيد انتصاراته على حطام هزائمنا. فلنكف عن التعامل معه بغباء على انه حليف غدر بنا، او صديق نكث بوعده.

في الرؤية الفكرية على الارض، ساسنا العقل القبلي الاستبدادي. وبالتلازم مع هذه الرؤية لجأنا الى الاقطاع كأسلوب في التطبيق. فقد كانت الحياة السياسية في ثلاثينيات القرن الماضي في فلسطين خليطاً من المكونات المختلفة والمتنافرة.

اذا كانت منتجات ثلاثينات القرن الماضي قمة ما انجزته الحركة الوطنية الفلسطينية، فلنحاول ان نتعامل بموضوعية مع هذه المنتجات على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد تفرض المقارنة الثقافية ذاتها مع الجبهة المقابلة، ولكننا لن نتورط في الحديث عن توازن القوى، لان القصد لا يتجاوز هنا تحفيز عقولنا على التفكير، واذا ما حدث ذلك التفكير فإن التغيير سوف يلحق بها تلقائيا.

انه العقل القبلي الاستبدادي الاقطاعي ذاته (السيد والاتباع - واتباع الاتباع)، الذي ورثناه عن «تغلب»، والذي اشار اليه عمرو بن كلثوم بقوله :«ونشرب ان وردنا الماء صفوا، ويشرب غيرنا كدرا وطينا». فقد كان هذا هو حال القوى الفلسطينية، المتناثرة والمتنافرة، في ثلاثينيات القرن الماضي (الحاج امين الحسيني، وراغب النشاشيبي، وعز الدين القسام، وحزب الاستقلال، وحملة السلاح من الثوار الشبان)، تلك القوى ذات العقلية القبلية التي عجزت عن التلاحم في دائرة وطنية متماسكة.

بالتأكيد يقفز السؤال تلقائيا: لماذا يأتي اليهود متناثرين من اصقاع شتى، فيشكلون على ارضنا شعبا واحدا، ونحن الشعب الواحد نتشظى ونتناثر على ارضنا؟

وبالعودة الى عمرو بن كلثوم، نوفر على علماء الانثروبولوجي وعلماء النفس الاجتماعي جهودهم، لانه هو الآخر لم يترك الكدر والطين للفرس والروم، بل للقبائل العربية الشقيقة.

في اتصال هاتفي بين «رام الله» وديترويت، اثنت (فتاة من جيل حائر) على كتاباتي وتساءلت ونبرة يأس تغلف كلماتها:

«ولكن كيف سيتحقق ما تبشرنا به؟»

-«بحزب سياسي..». فعاجلتني برد يمتزج فيه الاستنكار بنبرة مهذبة: «الا يكفي ما لدينا من احزاب.. كيف سيكون ذلك؟» فقلت لها :«سنحاول».

قلت ذلك، وانا مسكون بقناعة تامة بأنه لا يمكن ان يتم بناء دولة فلسطينية على مستوى الطموح، الا من خلال حزب سياسي على مستوى المهمة.. اما كيف يكون ذلك الحزب، فهذا امر آخر. والآن لا بأس من غربلة التجربة الحزبية.

بعد انهيار الامبراطورية العثمانية مع انتهاء الحرب العالمية الاولى (١٩١٨)، اصبحت فلسطين المحتلة، كإقليم جغرافي، وطنا للفلسطينيين ولم تكن دولة بالمقاسات السائدة في المجتمع الدولي. وبعيدا عن توصيفات كتب العلوم السياسية، فإن ما مررنا به كشعب فلسطيني شكل تجربة سياسية فريدة، فبعد نضال سياسي جاوز التسعين عاما، كشعب على ارض وطنه، لم نحصل حتى يومنا هذا على حق تقرير المصير.

ظلم وعدوان؟

نعم، ولكن العالم، كمجتمع دولي باستثناءات لا وزن لها، احتوى هذا الظلم والعدوان، وتعامل معه كما هو.

قد نكون ساهمنا في ذلك من خلال تعثرنا، فقد تحدثنا كثيرا عن اعادة اليهود من حيث اتوا، بينما هم عملوا على ازاحتنا عن ارضنا بالعنف، الذي ساعدناهم على تبريره، بلجوئنا الى العنف اولا. وها نحن ما زلنا نخوض المعمعة على حق تقرير المصير، ولم ننجح حتى الآن في الحصول عليه.

في عودة الى ثلاثينيات القرن الماضي، اولى المراحل الساخنة في حياتنا السياسية، كانت لنا في تلك المرحلة تجربة حزبية متواضعة. فلقد وصلت الينا اخبار كثيرة عن احداث تلك المرحلة، ولا يكاد يذكر من بينها خبر الاحزاب السياسية. فكم سمعنا عن الحزب العربي، وحزب الدفاع الوطني، وحزب الاصلاح، وحزب الكتلة الوطنية، وحزب الاستقلال؟

في تلك المرحلة اصبحت البندقية في الجانب الفلسطيني سيدة الموقف، فقد عقدت ألسنة الساسة وشلت إرادتهم، وصنفت العمل الدبلوماسي في باب الخيانة، ولكن خيار البندقية الذي غابت عنه الحسابات، انتهى الى كوارث متلازمة على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخلال السنوات العشر (١٩٣٩ - ١٩٤٩) التي انتهت الى القبول العربي الرسمي بالنكبة في اتفاقيات رودس، لم تتوفر لدى الفلسطينيين عناصر القوة التي تؤهلهم للمشاركة في تقرير مصيرهم.

قبل الابحار في عالم الاحزاب والحياة الحزبية الفلسطينية من جديد، لا بد من رصد الانواء والعواصف في الحياة السياسية العربية، التي شكلت المناخ الذي تحكم في الحركة السياسية الفلسطينية.

ففي الفترة التي اعقبت النكبة، بل منذ دخول الجيوش العربية الى فلسطين، خضع الفلسطينيون في ديارهم للحكم العسكري الاستبدادي، فقد كان الضابط الذي لم يتقن اداء مهمته في ساحة القتال، قد تحول الى حاكم مستبد يجمع في قبضته السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.

كانت اقسى اساليب القمع العربية لأي نشاط سياسي فلسطيني هي تهمة الخيانة بعرقلة الجهد العسكري، هذا الجهد (المهزلة) الذي لم يبق منه سوى الألبسة العسكرية التي يتستر بها العساكر.

من اجل وعي سياسي فلسطيني اكثر وضوحا وأدق تحديدا، لا يمكن ان نغفل التأثير العربي، وهذا هو قدرنا، في الحياة السياسية الفلسطينية.

اننا نتميز من الغيظ، وندق رؤوسنا في الجدران، كشعوب عربية ونحن منهم، ومعهم نتساءل: لماذا نحن على هذا الحال؟

لا احد منا يجرؤ على الاجابة الصحيحة: «هو غياب الديمقراطية». لأن هذه الاجابة تلقي علينا بعبء مزدوج، هو تقويم الذات وتقويم الآخر، اي بمعنى التصحيح.

فدعنا اولا نتبصر في الحال الذي نحن عليه كشعوب عربية.

اننا دول هجينة، وأنظمة الحكم لدينا هجينة، وحياتنا السياسية هجينة، فليس اي من هذه تم بصنع ايدينا.

فإن الدول التي خطها الاستعمار، اقام فيها الانظمة الحاكمة، التي اخضعت شعوبها بالارهاب الوطني، وهي تهمة الخيانة والعمالة للاجنبي التي توجه للمعارضة السياسية، ومع ان الاستبداد هو الاستبداد، الا ان الاستبداد الوطني اصبح يسمى «امن الدولة»، واصبحت مقاومة الاستبداد التي كانت شرخا في زمن الاستعمار، تحولت الى إخلال بـ «امن الدولة» يستحق الاعدام في ظل الاستقلال.

نعود الى الدول الهجينة وأنظمة الحكم الهجينة، المكيفة اصلا بإرادة من اقامها، ومن نظمها.

الدولة الهجينة، خطط حدودها الاستعمار، وأقام حاكمها الاستعمار، وارتبطت بمعاهدة حماية مع الاستعمار لمنع القوى الاستعمارية المنافسة من اقامة علاقات معها، وذلك لاحتكار السيطرة الاقتصادية (الموارد والسوق)، والسيطرة المكانية (الموقع وطرق المواصلات).

هكذا ظلت الدولة الهجينة تفتقر الى الاستقرار، فهي لا تستطيع الدفاع عن حدودها ضد اعداء الخارج، كما ان الريبة تسود العلاقة بين نظام الحكم الذي يدين بالولاء للقوى الخارجية التي تحافظ على استمراره، وبين الشعب المستلبة إرادته السياسية والمستباحة ثرواته الاقتصادية، وهكذا كرس الاستعمار الحكم الاستبدادي في بلادنا، الذي بدأ حكما فرديا مطلقا، ثم تطور الى حكم الاقلية القبلية او الطائفية او الاقليمية او العسكرية، وهذا ما افسد الحياة السياسية في مجتمعاتنا، من خلال المحاباة وتقاسم المنافع.

ولا بأس هنا من عرض صورة ملونة للحياة الحزبية في بعض الاقطار العربية البارزة، السابقة في الاستقلال، والاغنى في التجربة السياسية، والتي لم تتحرر من الاستبداد الذي اشاعه وثبته عقلنا القبلي الاقطاعي، وجعل احزابنا السياسية على الشاكلة التي نعرضها.

حدث تشكل حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا باندماج حزب البعث العربي والحزب الاشتراكي عام ١٩٥٣، وحمل لواء الحركة القومية تحت شعار «الوحدة والحرية والاشتراكية».

سرعان ما امتد هذا الحزب وانتشر عبر الاقطار العربية. ولكن العقل القبلي الاستبدادي سرعان ما حرف هذا الحزب عن رسالته في توعية الشعوب العربية الى الشغف بالاستيلاء المتعجل على السلطة، من خلال ضباط الجيش الذين حشرهم في صفوفه، فاستولوا على السلطة بالانقلابات العسكرية واحتفظوا بها، فذوت المبادىء وتحول حزب البعث في كل من دمشق وبغداد الى منظمة ذيلية للسلطة.

-وهل هناك من يجادل في حقيقة ان «الثورة الفلسطينية» بكافة عناصرها ومكوناتها هي ثورة هجينة .. اي ليست الثورة التي ارادها أصحابها؟.

حتى لا يطول ارتباكنا، نؤكد بأن الاجابة سهلة، وأسهل مما نتصور. فمنذ بدأت الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة في قطاع غزة خلال احتلاله من قبل اسرائيل في حرب السويس عام ١٩٥٦، وضعت الطلائع الوطنية الفلسطينية نصب اعينها احد هدفين او الهدفين معا، وهما:

*الاول، إشعال حرب تحرير شعبية بمشاركة فلسطينية - عربية، عبر خطوط الهدنة ضد اسرائيل، وكان هذا هدف ذوي الاتجاه القومي من الفلسطينيين.

*الثاني، توريط الدول العربية في حرب شاملة ضد اسرائيل، وذلك من خلال استفزاز الاخيرة بعمليات عسكرية عبر خطوط الهدنة، وكان هذا هدف حركة تحرير فلسطين «فتح» في بداية انطلاقها.

ولكن الطرفين فشلا في تحقيق هدفيهما.

فإن الاطراف العربية التي تصدت لهما في مؤتمر القمة (١٩٦٤) عبر تشكيل «منظمة التحرير الفلسطينية» الذي ادى بداية الى تفكيك جبهة التحرير الفلسطينية (ج .ت .ف) الام في غزة، فالتحق قسم من اعضائها بحركة فتح واعلنوا انفسهم من مؤسسيها، (نمسك عن ذكر اسماء الاموات حفظا لكرامتهم، وعن اسماء الاحياء حتى لا نحرجهم) ، وبعض من اعضائها آثر الاستقلالية بالرأي.

وفي مرحلة تالية تم ابتلاع حركة «فتح» في جوف منظمة التحرير الفلسطينية، وتأقلمت مع شروط الواقع العربي، فانزلقت في لحظة يأس في مشروع «اوسلو»، الذي ما تزال تعاني من تداعياته.

والآن، اننا لن ننحو منحى القادة السياسيين، من اي اتجاه كانوا، الذين يمجدون الشهداء ولا يفعلون فعلهم.

اننا نطرح، بمنتهى الشفافية، «الديمقراطية» و «الحزب الثالث» الذي نستجمع شجاعتنا ونعلن اسمه «نحن»، مشروعا للحل الوطني. انه الحل السهل لأزمة وطنية في منتهى الصعوبة. حل تتلازم فيه الكرامة الوطنية بشجاعة المواطن.

وحتى لا نخاف او نرتبك او نتردد، ستكون المعاني واضحة والتعابير دقيقة.

حزب «نحن» ينم عن اسمه، اي لا مواطن له فيه اكثر من الآخر. صوتك الانتخابي هو شرفك الوطني، فهو اقوى من بندقية من يرهبك، ومن مال من يرغبك.

لا احد يملي عليك موقفا سياسيا، دع تجربتك الذاتية كمواطن مع هؤلاء وأولئك تشكل قناعتك، وتأكد بأن ما هو في صالحك سيكون تلقائيا في صالح الوطن، وميراثا للأجيال القادمة.

وما هو غير ذلك، أيد غير نظيفة وأفواه شرهة..

القدس