المتحف الفلسطيني يواجه الرواية الصهيونية

بقلم: 

تناولت وسائل الإعلام العربية، وخاصة الفلسطينية منها بالصور محتويات المتحف الذي أسسه رجل الأعمال الفلسطيني بسام بدران في مدينة طولكرم، في الضفة الغربية، حيث ثمة محتويات أثرية تشي بحقيقة مساهمة الشعب الفلسطيني في صناعة الحضارة، وتعتبر الكتب المترجمة من والى عدة لغات وكذلك الصحف العديدة التي تضمنها المتحف، دالة كبرى على ذلك. وقد انتشرت متاحف عديدة إثر النكبة الكبرى في مناطق اللجوء القسرية، واتسعت تلك الظاهرة بين اللاجئين الفلسطينيين خلال السنوات التي تلت توقيع اتفاقات أوسلو، كردة فعل على محاولات إسرائيل شطب الذاكرة، واعتبار فلسطين أرضاً مقفرة.

كان للمتحف الفلسطيني ولا يزال دور بارز في الحفاظ على التراث الثقافي للشعب الفلسطيني على مر العصور، بالإضافة الى دور في بناء الحضارة البشرية وصيرورتها، إذ جمعت المتاحف بعض الآثار الفلسطينية الدالة على عروبة فلسطين وهويتها. وفي هذا السياق، يندرج دور المتحف في إطار التراث العربي والإسلامي. ويعرف المتحف «بأنه المبنى الذي يجمع ويؤوي مجموعات من المعروضات والأشياء الثمينة بقصد الفحص والدراسة، ولحفظ التراث الثقافي للشعوب على مر العصور من علوم وفنون وكل أوجه الحياة، للتعرف إليها ودراستها لمعرفة مراحل تطور الحياة البشرية وإنجازاتها الحضارية.

أسست بضعة متاحف أثرية في فلسطين إبان فترة الانتداب البريطاني (1922-1948)، كان من أهمها: متحف الآثار الفلسطينية في مدينة القدس، ومتحف صغير في قلعة عكا التي تحطمت على أبوابها الهجمات الصليبية، وأقام المجلس الإسلامي الاعلى متحفاً في جامع عمر قرب المسجد الأقصى في القدس. وأنشئ متحف الآثار الفلسطينية بادئ الأمر في بناية تخص آل قطينة في منطقة سعد وسعيد. وفي العام 1927، قدمَّ روكفلر الى حكومة الانتداب البريطاني مبلغ مليوني دولار لتصرف نصف القيمة من أجل بناء متحف، وتوقف باقي القيمة وينفق ريعها على صيانته، وبني المتحف عام 1935 في بستان كبير مزروع أزهاراً وخلفه حديقة كبيرة مسورة ومزروعة. ونقلت الآثار من المتحف القديم الى البناء الجديد، وهو مكون من ثلاث صالات عرض وأربع غرف من زواياه الأربع، ومكتبة وغرفة مطالعة وقاعة محاضرات ومختبر وغرف للموظفين. وامتلأ المتحف بخزائن كثيرة للعرض ملأى بالآثار ابتداء من العصر الحجري الى العصر البرونزي المتأخر (1600- 1200ق.م). كما ضمّ المتحف آثاراً كبيرة تعود الى العصور الإسلامية، وفي صالة العرض الغربية عرضت الآثار التي وجدت في «قصر هشام» في خربة المفجر وغالبيتها من الجبس المنقوش. أما الغرفة الشمالية الغربية من المتحف، فتضمنت معرضاً للمسكوكات الفلسطينية والأسرجة القديمة مرتبة بحسب تاريخها. وفي صالة العرض الشمالية خزائن عرض تحتوي على آثار من العصر الحديدي 1200-600 ق.م. يذكر ان في المتحف المذكور مكتبة كانت تضم ثلاثين ألف مجلد عام 1948. وكانت في الطابق السفلي من المتحف مخازن كبيرة فيها مجموعات أثرية غير معروفة توضع في متناول العلماء ورجال الآثار عند الطلب. ويضم متحف مسجد عمر كتابات تاريخية إسلامية وبعض السجادات ومجموعة صغيرة من الزجاج الروماني والخزف القديم. أما متحف عكا، ففيه مجموعة من الزجاج والخزف القديم الذي عثر عليه في مناطق مختلفة في فلسطين. وبعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، حاولت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة طمس الهوية الفلسطينية، من خلال العمل على محورين: الأول، محاولة إنشاء متاحف إسرائيلية ونقل بعض الآثار القديمة من القدس إليها ومحاولة تزييف التواريخ. اما المحور الثاني، فتمثل بالشطب الممنهج لكل ما يؤرخ لعروبة فلسطين وهويتها الحقيقية من خلال سرقة الآثار الفلسطينية وتزويرها وعرضها في معارض إسرائيلية في أوروبا، حيث تكرر هذا المشهد حين عرض زي المرآة الفلسطينية في معارض إسرائيلية في دول أوروبية على انه زي إسرائيلي. ومنذ عام 1948، وبفعل الحكم العسكري، استطاعت إسرائيل القضاء على فكرة إحياء متحف عربي فلسطيني داخل الخط الأخضر. لكن ذلك لم يمنع من احتفاظ البعض من الأقلية العربية بطرق كثيرة للحفاظ على هويتهم العربية وانتمائهم القومي. فالشعور بالانتماء القومي والاستمرار به هو بمثابة قوة كامنة للحفاظ على الهوية التي تحاول السلطات الإسرائيلية تهميشها، وبالتالي شطبها. وفي السياق ذاته، حافظ اللاجئون الفلسطينيون في المنافي القريبة والبعيدة على هويتهم وانتمائهم. وكنموذج للحفاظ على آثار فلسطين في اللجوء، برزت معارض ومتاحف فلسطينية تضم مقتنيات أثرية مهمة دالة على هوية فلسطين وشعبها. فمن الزي الشعبي للمرأة والرجل في كل مناطق فلسطين ومدنها، الى مقتنيات البيت والمطبخ الفلسطيني خلال سنوات سبقت نكبة عام 1948، وصولاً الى النقود الفلسطينية وطوابعها البريدية. ويشعر الزائر كأنه يستحضر تأريخ فلسطين وهوية شعبها العربي. وفي الاتجاه ذاته تسعى الجالية العربية الفلسطينية في دول أوروبا الى الحفاظ على هويتها من خلال حراكها السياسي والاجتماعي في مناسبات عدة، لكن الخطوة الأهم كانت تأسيس المتحف الفلسطيني في دول أوروبا التي انطلقت فكرته عام 1998، إذ يُفترض ان يكون المتحف استحوذ على الكثير من المقتنيات الأثرية في فلسطين. وللمتحف عنوان خاص على شبكة الانترنت الدولية وهذا بحد ذاته يعتبر نقلة نوعية في الوعي الجمعي للهوية العربية الفلسطينية والحفاظ عليها من خلال تنشيط أداء المتاحف. وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، تعزز وضع المتاحف الفلسطينية بعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، بفعل دعم النشاط المجتمعي لتنشيط فكرة بناء عدد من المتاحف في الأراضي الفلسطينية وإعادة ترميم عدد آخر. وتبعاً لذلك، بات ينتشر في الأراضي الفلسطيني ثلاثة عشر متحفاً منها خمسة متاحف عاملة، بواقع أربعة متاحف في الضفة الغربية في مقابل متحف واحد في قطاع غزة، وثمانية متاحف مغلقة أو متوقفة عن العمل وممارسة الأنشطة. أما في ما يخص العاملين في تلك المتاحف، فبلغ عددهم 11 عاملاً منهم سبعة ذكور في مقابل أربع إناث. وثمة 45.5 في المئة من العاملين يحملون مؤهلاً علمياً أقل من ثانوي، في مقابل 54.5 في المئة يحملون مؤهلاً علمياً ثانوياً فأعلى.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى ان الأستاذ محمود يوسف دكور، من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، كان من السبّاقين في إنشاء متحف فلسطيني يحاكي التراث الفلسطيني، وجذور الشعب الفلسطيني في أرضه. وقد بدأ دكور بجمع التراث الفلسطيني والكتب والوثائق الفلسطينية منذ عام 1989 بعد تقاعده من الأونروا، حيث خصص مساحة كبيرة من منزله الواقع في منطقة المعشوق بجوار مخيم برج الشمالي في صور، للمقتنيات الثمينة التي يجمعها. وثمة أسماء عديدة انشات متاحف فلسطينية، ولو بمستويات أقل، في كل من مخيمات اللجوء في سوريا ولبنان والضفة الغربية، فضلاً عن مخيمات قطاع غزة، وهناك حملة فلسطينية أكاديمية وشعبية بدأت بعد عام 1993 بغية توثيق التراث والتاريخ الشفوي الفلسطيني، ويعتبر هذا العمل مهماً في الوقت الذي تسعى فيه المؤسسة الإسرائيلية إلى ترسيخ فكرة يهودية الدولة، من خلال تهويد الزمان والمكان في فلسطين، ناهيك عن كون التوثيق للتاريخ والتراث الفلسطيني يدحض بقوة الرواية الصهيونية حول مقدمات احتلال فلسطين.

المستقبل