غزة مجدداً، وفلسطين دائماً

بقلم: 

 

يكاد بنيامين نتنياهو ينفجر غضباً على المجتمع الدولي عموماً، وعلى أقرب حلفائه الغربيين خصوصاً. فتصريحاته النارية أخيراً توحي بأنه على حافة أن يمزّق ثيابه تمهيداً لإعلان الانتفاضة «الأخلاقية» الكونية على النفاق الغربي. وليس هناك أدنى مبالغة في هذا التشخيص.
فأمام عشرات الكاميرات المستدعاة إلى إيلات لتصوير القذائف والصواريخ والأسلحة «الإيرانية» المزعومة، والمزعوم إرسالها إلى غزة في حاويات سفينة اعترضتها في عرض البحر قوات البحرية الإسرائيلية بناء على معلومات استخباراتية موثوقة، تولى نتنياهو شخصياً فضح ما سماه النفاق الدولي. يمكن أن يكون استظهار الغضب ضد هذا النفاق تتمة منطقية لفصول مسرحية فشلت في تحقيق المطلوب.
فقبل وقوف رئيس الحكومة الإسرائيلية أمام معرض الأدلة الدامغة على الإجرام الإيراني، كما قال، كان يتوقع لنبأ اعتراض السفينة وسوقها إلى إيلات أن يحدث هزّة، أخلاقية بالكامل، في الضمير الدولي بحيث يكف عن معالجة الملف الإيراني، النووي وغيره، بالوسائل الديبلوماسية والسياسية. والحال أن وسائل الإعلام تناقلت النبأ، وفيه ما يكفي من الإثارة، ولكن لم تصحبه تصريحات دولية من العيار المرتجى. جرت الأمور كما لو أن الاستعراض بقي مجرد استعراض يذكّر بحادث توقيف مشابه، قبل عامين تقريباً، لسفينة عُرضت حمولتها العسكرية المزعوم تهريبها، إلى غزة دائماً، على شاطئ البحر، فيما أفرج في اليوم ذاته عن طاقم السفينة. ولمزيد من التشويق تزامن اعتراض السفينة الجديدة ومحادثات نتنياهو في واشنطن حول عملية التفاوض مع الفلسطينيين. ويبدو أن المحادثات كانت شاقة ولم يتردد الرئيس الأميركي في إحراج حليفه الاستراتيجي المدلّل كاشفاً بعض زيف ادعاءاته، ومعيداً بعض الاعتبار إلى جولات وزير خارجيته المكوكية العائدة على الدوام بخفي حنين وببعض الإهانات أحياناً.
في خطبته العصماء في إيلات، اعتبر نتنياهو أن العالم لا يحرك ساكناً فيما الأسلحة المعروضة تكفي كأدلة على حرب وإرهاب معلنين. بل رأى أن المجتمع الدولي «المنافق» يكيل بمكيالين، فلا يفعل شيئاً لمجابهة الإجرام الإيراني وخدائعه فيما تقوم قيامته، وفي مقدمها التهويل بمقاطعة البضائع الإسرائيلية الآتية من المستوطنات، كلما جرى «بناء شرفة لبيت في القدس»، كما قال حرفياً. شرفة البيت هي، في عرف نتنياهو وجوقة عالمية من الحرس الإعلامي وصانعي الرأي، كناية عن 2513 وحدة استيطانية بنيت في السنة الأخيرة في الضفة الغربية والقدس ومحيطها المباشر، أي ضعف عدد الوحدات المبنية في العام السابق، وفق تقارير هيئات يصعب اتهامها بالانحياز.
لا نعلم ما الذي يستطيع الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يقوله بعد هذه الخطبة الأخلاقية ذات النبرة الرسالية. فنتنياهو وأشباهه لا يكتفون بالاستيلاء على الأرض والتاريخ والجغرافيا، بل يسعون إلى مصادرة المكـانة الأخـلاقـية المتـبـقية للفلـسـطينيين كـسلاح أخـير في مـفاوضات عملية سلام لا أفق لها ولا مستقبل، سوى الإذعان لأمر واقع وقوع الصخرة على رؤوس الفـلسطينيين وعلى مقومات وجودهم السـياسـي كـشـعب وبـلـد.
وللمزيد من الإعضال وإحكام الطوق، اعتبر نتنياهو في تصريح آخر أن لا سلام ممكناً إلا إذا تخلى الفلسطينيون عن حق العودة واعترفوا بالصفة اليهودية لدولة إسرائيل. وطالب في تصريح ثالث بأن يذهب «أبو مازن» إلى بيرزيت ويعلن اعترافه بالحقيقة التاريخية وهي أن هذه الأرض «ملك للشعب اليهودي» منذ ثلاثة آلاف سنة. لم نعد بعيدين عن المطالبة الإسرائيلية بتعويضات عن تواجد الفلسطينيين واحتلالهم للأرض طوال مئات السنين بصفة غير شرعية وغير أخلاقية!
كل هذه التصريحات الحافلة بالصلافة والكذب هي من فنون الاحتلال العاري للمساحة الأخلاقية المتبقية للفلسطينيين وللرئيس عباس تحديداً. خياره الاستراتيجي القائم على التفاوض والاحتجاج السلمي واستبعاد أي لجوء إلى المقاومة الفعلية، المسلحة وغير المسلحة، مؤهل في نظر الحكومة الإسرائيلية، لتحويله إلى متعاون. ليس له ان يكون لا غاندي الفلسطينيين ولا مانديلا(هم). صحيح جداً أن لا أحد في العالم يتمنى أن يكون محل عباس، فالمعروض عليه أبشع من الاستسلام: النذالة.
التصعيد الأخير في غزة لا يشذ عن هذا السياق، على رغم اختلاف الاعتبارات والمعطيات. فقد انهمرت من غزة عشرات الصواريخ، المحسوبة «خردة» حِرفيين صغار، على إسرائيل التي توعدت فوراً بردّ قوي فشنت غارات جوية وقصفت العديد من المواقع الفلسطينية. ويشير آخر الأنباء إلى نجاح الوساطة المصرية في التوصل إلى تهدئة فيما طالب عباس الحكومة الإسرائيلية بعدم التصعيد. لا نعلم كم ستعيش هذه التهدئة. فالتصعيد بات حاجة لحكومة نتنياهو، على غير جبهة، فيما مؤشرات التطورات الإقليمية والدولية لا تتوافق مع منحى تصعيدي في ظل غموض مفتوح على المجهول، لجهة تموضعات بلدان الربيع العربي ومراوحة الأزمة السورية واستنقاعها إضافة إلى تلبد الأجواء الدولية بسبب الأزمة الأوكرانية. انهمار الصواريخ جاء أصلاً في أعقاب سلسلة استفزازات إسرائيلية، آخرها وليس أخيرها، مقتل ثلاثة ناشطين من «سرايا القدس» التابعة لـ «حركة الجهاد الإسلامي». وكان موضوع حصار غزة في قلب الاعتبارات التي دفعت رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى تأجيل تسوية العلاقات مع إسرائيل واستئنافها بعد الاعتذار المتأخر وتقديم تعويضات لضحايا مقتلة سفينة مرمرة قبل خمسة أعوام تقريباً. نرجح أن تتجدد الغارات الحربية على غزة من دون أن يبلغ التوتر والتصعيد حد الحرب، على غرار ما حصل قبل خمسة أعوام. وقد يكون التوتر اختباراً للتموضع المصري بعد عزل محمد مرسي وتصنيف «الإخوان المسلمين» منظمة إرهابية وحظر حركة «حماس» في مصر، وبعد عزم المشير السيسي على الترشح للرئاسة.
في مقدور أي متابع يتمتع بالحس السليم أن يرى في مواقف نتنياهو وخطبه مقداراً غير مسبوق من الصلافة والكذب الدعوي ومن جعلهما تصوراً لتسوية سياسية. والحق أن اضطراد هذه الصلافة هو على قياس الممالأة الغربية من جهة، واللامبالاة العربية من جهة أخرى. هذه اللامبالاة تتخذ أشكالاً مختلفة، فبعضها قسري ناجم عن ضغوط وابتزازات، وبعضها طوعي يعتبر إدارة الظهر لها ثمناً ضرورياً للتفرغ لعملية بناء وطني حديث وراشد، ناهيك عن القرف من استعمال «القضية» على يد أنظمة تسلطية.
والـحال أن المـسـألة الفـلـسـطينية، فـي مـواصـفـات نشأتها التاريخية، تخـتـبر كل هـذا بــ «عـجـره وبجره».

الحياة