انتصرنا، أم لم ننتصر ؟!

بقلم: 

هذا سؤال ملغوم، ليس لأنه لا يحتمل الإجابة بنعم أو لا، بل لأنه بحاجة إلى إجابة .. متأنية، فالقول بأننا لم ننتصر سيفسد فرحة الكثيرين، وربما ينشر روح الإحباط. وتلاوة بيان النصر قد تستفز كثيرين أيضا، إما لأنهم يرون غير ذلك، أو لأنهم مكلومين، ولا يجدون بيتا يحتفلون به بهذا النصر، أو لأنهم فقدوا أياديهم في الحرب، ولم يعد بمقدورهم التصفيق .. لنفكر سوية بهدوء، بعد أن نتحرر من سطوة العاطفة.

قديما، قال أحد الحكماء، ولا أعرف من هو: "إذا عجز القوي عن تحقيق الانتصار فإنه مهزوم، وإذا رفض الضعيف الاعتراف بهزيمته فإنه منتصر". فليس كل انتصارٍ انتصاراً، ولا كل هزيمةٍ هزيمةً، حتى أن انتهاء الحرب بصيغة لا غالب، ولا مغلوب، بالمعنى العسكري، يمكن أنْ نراها بالمعنى السياسي نصراً لأحد الطرفين، وهزيمةً للآخر. وفي التاريخ نجد أحيانا "نَصْرا حقيرا"، يقابله "هزيمة مُشَرِّفَة"؛ وكم من الهزائم العسكرية فاقت بقيمتها الاعتبارية أرفع الانتصارات، وكم من الانتصارات الحاسمة جُلّلت بعار الهزيمة. وأمامنا صورة كربلاء، التي ظلت شاهدة على خِسّة المنتصر ونُبل المهزوم.

وحتى عهد قريب ظلت الحروب تقتصر على جيشين متقابلين وجها لوجه، يصفي أحدهما الآخر وينتهي الأمر، اليوم تغير شكل الحروب، وتغير معها مفهوم النصر، ومع ذلك، عندما تتحارب دولتان يمكن القول أن إحداهما غلبت الأخرى، رغم أنه في معظم الحروب، وعلى مر التاريخ، لم يكن هناك نصْرا مطلقاً؛ ولا هزيمة مطلقة. المشكلة الأكبر عندما تكون المعركة بين جيش نظامي وميليشيات شعبية، حيث تصبح الحسابات معقدة، لأن الجيش لا يمكن له أن يدعي النصر الكامل إلا إذا نجح بتصفية خصمه، والتي هي المقاومة الشعبية، وفي هذه الحالة يتطلب منه الأمر إبادة الشعب كاملا، باعتباره المعين الحقيقي للمقاومة، والحاضنة الطبيعية لها، وهذا حدث في حالات نادرة جدا، أشهرها تدمير قرطاجة على يد الرومان.

ومن المهم معرفة أن حسابات النصر والهزيمة في الحروب لا يتم احتسابها وسط ضجيج المعارك، ولا تُفهم فقط من خلال لغة الأرقام والإحصاءات؛ بل تُسجَّل في المحصلة النهائية بعد انقشاع غبار المعارك، وما يتمخض عنها من تفاهمات واتفاقات، والأهم من ذلك، أن مفاهيم النصر والهزيمة يجب احتسابها "وطنيا"، وبشكل شمولي، وليس "حزبيا"؛ فانتصار حزب لا يعني بالضرورة انتصار كل الوطن، إلا إذا كان هذا النصر في إطار إستراتيجية وطنية شاملة .

كما أنه وعلى المستوى الإستراتيجي لا تتوقف مفاهيم النصر والهزيمة عند النتائج العسكرية، بل على كيفية التعامل مع الواقع الجديد؛ فعلى سبيل المثال تعرضت كل من ألمانيا واليابان لهزيمة عسكرية ساحقة في الحرب العالمية الثانية، حتى أنهما وقّعتا معاهدة استسلام؛ إلا أن هاتان الدولتان تخطّتا البعد السيكولوجي السلبي للهزيمة، واجترحتا معجزة الانبعاث، وهاهما الآن ثاني وثالث قوة اقتصادية في العالم، وشعبهما يهنأ بالأمن والاستقرار.

النصر الواضح والمؤزر لا يحتاج لمثل هذا السؤال (انتصرنا، أم لم ننتصر !؟)، النصر الكبير تظهر تجلياته فورا، وبشكل تلقائي، ويعبر عن ذلك في ردات الفعل الشعبية العفوية، حيث تخرج الجماهير للساحات مزهوة بنصرها، قبل أن يخرج أي قائد سياسي ليتلو عليها بيان النصر ..

وبالعودة للحرب على غزة، وتحديد المنهزم والمنتصر، سنجد أنه يصعب القول بأن إسرائيل انتصرت. رغم الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات التي ألحقتها بالجانب الفلسطيني، ورغم تفوقها العسكري الكاسح؛ فكل المباني التي قصفتها وهدمتها تقع في بيئة مدنية لا تمتلك أي مضادات للطائرات، وبين الجانبين خلل فادح في موازين القوى، وغالبية ضحايا الهجمات الإسرائيلية هم من الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين، وليس في هذا أي بطولة، ولا يمكن اعتباره نصرا بأي مقياس، بل هو هزيمة أخلاقية منكرة، لأنه عمل خسيس وجبان ولا أخلاقي، ولا يقبل به أحد، حتى أشد الناس تعاطفا مع إسرائيل.

وفي المقابل، يصعب التسليم بأن المقاومة ألحقت هزيمة بإسرائيل، أو أنها أنجزت نصرا تاريخيا .. وهذا ليس بسبب التفاوت الكبير في أعداد الضحايا وحجم الخسائر على الجانبين؛ بل وأيضا في شروط وكيفية وقف الحرب، وصيغة التفاهمات التي تمت، والاتفاقيات التي أُبرمت. وقد دأبت حركات المقاومة على اعتبار أي مواجهة مع جيش الاحتلال نصرا مؤزرا لها، وهزيمة منكرة لإسرائيل .. فإذا كانت كل هذه الهزائم قد لحقت بإسرائيل، فكيف نفسر تفاقم بؤس واقعنا وضعفنا، في مقابل قوة إسرائيل المتزايدة، وتفوقها على كافة المستويات، وزيادة غطرستها وشراستها وعدوانيتها !!

كما يصعب القول أن المقاومة قد انهزمت؛ بل أنها انتصرت أخلاقيا، وأبلت بلاء حسنا، وحققت نتائج سياسية على أكثر من مستوى لم يكن لها أن تحققها بدون هذه الحرب، وسجلت انتصارا رمزيا على إسرائيل، ولهذا ستخرج فصائل المقاومة من الحرب أكثر قوة وصلابة، وستستعيد صورتها في المخيال الشعبي كحركة مقاومة باسلة، ألحقت بكرامة إسرائيل إهانة كبيرة، ستظل آثارها لآماد طويلة.

ويكفي حماس والجهاد فخراً (وكافة فصائل المقاومة) أنها وبعد أن ظنت إسرائيل أنها أضعفتها في الحروب السابقة؛ أنها خرجت من تحت الردم، وطورت منظومتها الصاروخية، وفاجأت العدو، وقصفت مدنا إسرائيلية طالما اعتقدت أنها آمنة، وأنه لا يمكن لأحد أن يعكر صفوها؛ وأنها كبدت الجيش الإسرائيلي خسائر جسيمة في الحرب البرية. وفي هذه الدلالات الرمزية قيمة كبيرة، ستصب في خانة الكل الفلسطيني، وستكون لصالحه، سيما وأنها غيرت إلى حد ما قواعد الاشتباك، وأوجدت معادلات جديدة، يمكن البناء عليها وتطويرها في المستقبل، إلى الحد الذي يفرض على إسرائيل القبول بالحقوق الفلسطينية والاعتراف بها.

المهم هو أن تخرج الفصائل من عباءتها الحزبية الضيقة، وأن يفكر الجميع ويعمل بالروح الوطنية الأوسع والأشمل، وفي هذه الحالة سيكون أي نصر لحماس أو لغيرها نصرا لفلسطين.

ويجب أن لا ننسى أن الانتصارات الحالية لحماس والجهاد الإسلامي وكتائب الأقصى وبقية فصائل المقاومة لا يمكن فهمها بمعزل عن السياقات التاريخية للنضال الوطني الفلسطيني ككل؛ بمعنى أنه لا يجوز لأحد اجتزاء التاريخ وقراءته قراءة مبتسرة، وكأن تاريخ المقاومة قد وُلد للتو .. فهذا "النصر" الذي تحقق في غزة – بغض النظر عن نوعه وحجمه – لم يكن ممكنا تحقيقه لولا تاريخ طويل من المواجهات والحروب والمعارك .. بدأتها "فتح" عندما فجرت الثورة الفلسطينية ,, وبنت حينها مدرسة نضالية كان على رأسها خليل الوزير وياسر عرفات وجورج حبش وغيرهم، واستمرت وتصاعدت وراكمت خبرتها الكفاحية بفعل كافة الفصائل والقوى الشعبية، وبفعل صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه، وفي الشتات، وتمسكه بحقوقه الوطنية.

ومن المهم أيضا أن نرى الصلة الوثيقة بين هذا النصر الذي تحقق في غزة، وبين حالة الغضب الشعبي التي تفجرت في مدن ومخيمات الضفة الغربية، وبين مسيرات التضامن والتأييد التي سارت في كل شوارع فلسطين، وفي مدن العالم وعواصمه، وهذا النهوض الشعبي، الذي أسقط كل الحسابات التي راهنت على استكانة الفلسطينيين، وأثبت أنه شعب موحد، وأيضا الفعل السياسي والنشاط الدبلوماسي في المحافل العربية والدولية الذي كان له دورا هاما في إنهاء العدوان، والتوصل إلى تفاهمات وقف إطلاق النار، والأهم من ذلك حالة التوحد والانسجام في الموقف السياسي بين كافة الفصائل والقيادة.

تحليل النتائج السياسية والإستراتيجية للحرب يحتاج لدراسة مفصلة، ولكن وباختصار شديد، يمكن القول أن إسرائيل أخفقت في تحقيق أهدافها، بينما تفوق الفلسطينيون بوحدتهم ورسالتهم الأخلاقية .. وبصمودهم. لا حماس ولا غيرها كان لديه وهم تدمير إسرائيل وهزيمتها من خلال هذه الحرب غير المتكافئة، لكن كل حرب لا أخلاقية يخوضها جيش الاحتلال تكشف للعالم حقيقة هذا الكيان، وتقرب من نهايته ..

صمود الناس في غزة، حتى لو رأى البعض أنه خيار لا مفر منه، وممرا إجباريا وحيدا، ومسألة حتمية لم تعطي لهم فرصة الاختيار بين قبول الحرب أو رفضها .. إلا أنه لا يمكن النظر لها من زاوية الإشفاق الإنساني وحسب، مهما بلغت قساوة المشاهد، بقدر ما يتوجب احترام الجانب البطولي فيها .. ورؤيتها بمنظار التمسك بالحياة, وبالكرامة، واحتضان المقاومة، فالمدنيين هم أبطال هذه المواجهة، وهم الذين دفعوا فاتورتها الباهظة .. وهم الذين سينطلقون من تحت الركام، وسيبنون مستقبلهم الذي دفعوا حاضرهم ثمنا له.

النصر والهزيمة مفهوم نسبي، سنسمّيه نصرا إذا رأينا أن صواريخ القسام وسرايا القدس ما هي إلا امتداد للكلاشنكوف والإر بي جي والحجر، وإذا اعتبرنا هذه المواجهة حلقة في سياق تاريخي ممتد، وأنها ستصب في صالح الكفاح الوطني الشامل، وستتعزز بها الوحدة الوطنية، وستكون بوابة جديدة ومهمة على آفاق النصر الكبير. وستكون هزيمة إذا رأينا أن هؤلاء الشهداء مجرد أرقام، وأن كل هذا الدمار مجرد أذى عابر، وأن الموت أهم من الحياة .. وإذا اعتدنا على مشهد الموت، وقبلنا به عن طيب خاطر، وإذا لم نعتبر حياة طفل فلسطيني واحد ومستقبله أهم من أسر كولونيل إسرائيلي.