اسمنت ورقابة مُكلفة

بقلم: 

عوائق كثيرة، أصبح التعجيل في ازالتها، من بين البراهين على انتقال الوعود بإعادة إعمار غزة، الى طور الوفاء والتنفيذ. الذاتي من هذه العوائق، يمكن التغلب عليه بالإرادة وبصفاء النوايا وبتغليب المصلحة العامة للناس. هناك لجنة فنية للتنسيق تشكلت في الضفة، من وزارات الخدمات ووكالة الغوث، ينبغي أن يتشكل فرعها الميداني في غزة. وبسبب التداخل بين اعتبارات إعادة الإعمار واعتبارات خاصة وفئوية وتجارية؛ نشأ عائق الخلط بين اللازم لعملية كبرى محددة اسمها إعادة الإعمار، واللازم للسوق. تقديرات الحاجة الى الإسمنت مثلاً، لإنجاز العملية الكبرى، تبلغ 660 ألف طن، بينما التقديرات التي يطرحها من يريدون حل معضلة الشُح في الأسواق واختفاء الإسمنت الحر بأسعار يتحكم فيها المضاربون؛ تبلغ مليون ومئة ألف طن. ولأن الكمية الأكبر، في حال السماح بإدخالها، ستكون عن طريق محتكرين للسلعة يتحكمون في الأسعار؛ فإن أحد العوائق هو تأهب الوسط المتربح من الحصار، لحصاد مالي كبير. وفي الواقع، كلما ازداد الجشع، تعطلت العملية، وإن طغت المواويل الخاصة تعطلت كلها، ولم يتح لغزة قليل أو كثير.

موضوع الرقابة ومقارباتها الإجرائية، تُلح بقوة على الأطراف الدولية، والحديث يدور عن خطة للرقابة يتبناها روبرت سيري، الدبلوماسي الهولندي الذي أصبح الممثل الشخصي لأمين عام الأمم المتحدة بان كي مون. وسيري هذا، هو أيضاً المنسق الخاص للمنظمة الدولية على صعيد ما يُسمى عملية السلام في الشرق الأوسط. تتوخى الخطة استخدام نحو 500 مراقب، تبلغ تكلفتهم 150 مليون دولار تُخصم من أموال إعادة الإعمار. وهنا نقول، مثلما لا تتأسس السياسة على الأمن وإنما العكس هو الصحيح، فإن السياسة الأمنية في غزة، لن تتأسس على إعادة الإعمار. فالطبيعي أن يبرهن العمل الوطني الفلسطيني في تجربة إعادة الإعمار، على جدارته في رفع صرح السياسة كما تُرفع الأبراج التي دمرها المحتلون. ذلك بمعنى أن يتوافق الفلسطينيون على دعم عملية إعمار لا يلوون منها على شىء آخر. وفي حال حدث التمكين للحكومة، في الأمن والاقتصاد والقضاء، وأعيد بناء المؤسسات الدستورية، وأصبحنا كياناً موحداً مقنعاً للآخرين ومهاباً في الداخل؛ سيكون بمقدورنا توفير المبلغ الذي سيُصرف لمراقبين أجانب وانتزاع حقنا في مراقبة عملية إعادة الإعمار من خلال مشاركة 78 ألف موظف لا يعملون في غزة. ونقول لروبرت سيري، إن ما تنوون منعه، من خلال الرقابة، لن تمنعوه طالما بقيت غزة على حالها ولم يُلبِ المجتمع الدولي مطالب الشعب الفلسطيني برفع الحصار بشكل شامل، ووقف العدوان وزوال التهديد به. وليس أدل ولا أبلغ في الدلالة على أن الرقابة لن تعطل إعادة بناء نفق أو منع تسرب الإسمنت مثلاً، ما يجري الآن في هوامش إسمنت وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة نفسها. هناك كميات من هذا الإسمنت تباع في السوق بـ 2600 شيقل للطن، معنى ذلك ان التسريب حاصل والمعنيون بالاتجار في اسمنت إعادة الإعمار قادرون على فتح الثغرات. ثم إن الأنفاق التي يبالغ البعض في وصف ابتلاعها للإسمنت، لا تحتاج كلها الى أكثر من 1% من كمية الأسمنت المقدرة لإعادة الإعمار. وفي حال إدخال كمية من خمسة الى عشرة آلاف طن يومياً، فلن يعجز المعنيون عن تحويل 1% منها الى مشروع آخر تحت الأرض، حتى ولو كان هناك الف رقيب. لذا فإن الضمانة الوحيدة لإعادة الإعمار بهدوء، هو تحقيق استقرار قطاع غزة على المستويين الذاتي والموضوعي. أي أن يُصار الى تمكين حكومة وفاقية قوية، يساندها الجميع بدءاً من حُسن النوايا والحماسة لتحقيق هدف إعادة الإعمار الذي يُعد جهاداً أكبر، وصولاً الى الحال الرصينة للكيانية الوطنية. وعلى المستوى الموضوعي، أن تنتهي سفالات الحصار كلها، التي كانت بمثابة أعطيات سخية لحكومة المتطرفين الإرهابيين في تل أبيب. حين يُرفع الحصار، ولا يعاني المواطن الفلسطيني في تنقله وطبابته وفي مياه الشرب التي لم يعاني من شُحها الصوماليون في أسوأ أيامهم، وفي الكهرباء وفي صيد الأسماك، وفي المواد التي يحتاجها للبناء، ولا يكون مهدداً بالقصف في كل حين؛ يكون هذا الفلسطيني معنياً بالالتزام الذي لا تضاهيه أية رقابة مُكلفة!