حين تنفصل القوة عن الواقع: الاحتلال الإسرائيلي يدخل طور الاندحار

بقلم: 

هل بدأنا نشهد في خضم هذه الأحداث الكبيرة والتي ما برحت تتنقل على مجمل مساحة جغرافية ارض فلسطين التاريخية، كما لو أنها جمرات من النار يقلبها مارس إله الحرب الأعرج، ما يمكن اعتبارها المظاهر المباشرة وغير المستترة للتصدعات العميقة التي بدأت أخيراً تفتك بمعولها التاريخي في بنيان ومنظومة التفوق القديم للقوة الإسرائيلية، كما العقل الموجه لهذه القوة بعد أن كانت هذه المنظومة تدهشنا نحن الفلسطينيين والعرب كما العالم في الزمن الماضي، بقدراتها المذهلة على تحقيق الانتصارات السهلة في المعارك، وبتفوق العقل الاستراتيجي الذي يستطيع تأمين هذا النصر.
فهل ولى ذلك الزمن من انتصارات إسرائيل السهلة في حروبها مع العرب، وولى بالمثل معه زمن الهزائم المرة لأعدائهم؟ ونوشك على الدخول الآن فعليا كما يتراءى لنا بعد حرب لبنان عام 2006، في زمن وعصر جديد هو زمن الهزائم الإسرائيلية المتتالية وزمن انتصارات الفلسطينيين المتتالية على عدو ركن طويلا الى قوته الغاشمة، دون ان يفطن الى ان هذه القوة كانت دوما عمياء وان القوي هو آخر من يعلم بالحقيقة. وكان الجنرال شارل ديغول الذي اختبر قوة فرنسا في الجزائر هو الذي حذر القادة الإسرائيليين بعد حرب العام 1967 من آفة الغرور هذه التي افترست البطل أخيل.
هيا إذن نُصخي السمع الى ما يقوله الجنرال بنيامين نتنياهو الذي تحدث مزهوا بهذه القوة مجددا قبل ايام عن انتصار قواته في معركة القدس، وهو اطلق عليها وصف المعركة وقال زملاء له "الحرب في القدس ", وشخصيا لا اعرف ما هي مقومات هذا النصر الذي تحدث عنه نتنياهو بنوع من اليقين على المقدسيين، ولكن بالمقارنة مع النصر الذي تحدث عنه قبل شهور في الحرب على غزة، فإننا نعرف او نمتلك تصوراً كاملاً عن طبيعة هذا النصر من خلال بعض الشهادات والأحاديث التي ما برح جنوده وضباطه يدلون بها عن حجم العاهات النفسية التي تركتها هذه الحرب ونصرها المزعوم عليهم.
وحين يبدو لنا من الواضح ان المعيار الوحيد في تحقيق ذلك النصر انما يتحدد بعدد وحجم البيوت التي دمرها والمدنيين الذين قتلهم وشردهم، فإننا ندرك الآن او نعلم أن هذا الرجل وهذه الدولة المهووسة بهدم البيوت كما يعاني الأميركيون من هوس القروض البنكية، فإن هذا النصر في القدس إنما يعتمد في المحصلة الأخيرة على عدد البيوت التي سوف يهدمها في القدس، هذا باختصار هدم البيوت ثم هدم البيوت ثم هدم البيوت. وإذا بدا الأمر على هذا النحو الباعث على السخرية، فإنه ليس ادل من هذا الحمق او الجنون ما يدل على فقدان هذه الدولة للعقل وغياب روح الزعامة والقيادة، وما يمكن ان نسميه الآن اختلالا في العصب الدماغي، وهو العرض الرئيسي الذي يدلنا على استفحال آفة هذا المرض لدى جماع المستوى القيادي في إسرائيل.
ان مرض الاستعمار لهو مرض تاريخي ومشترك في كل العصور والأزمان، حين يبدو الاحتلال دوما عملا من أعمال إغراء القوة والذي ينتهي بالانفصال عن الواقع، وحيث القوة تواصل ولادة نفسها وفيما هي تستمر في هذه العملية في ولادة نفسها، فإنها تصل بالأخير الى ان تستبدل الواقع الحقيقي بالقوة المجردة. وعند ذاك وقد انفصلت القوة عن الواقع تغدو هذه القوة وقد تجردت من الاستراتيجية كقوة قابلة للعطب والانكسار، وهكذا بعد الرصاص المصبوب يأتي العصف المأكول، وبعد هذا الرصاص المصبوب والموازي في الخليل تأتي القدس وتدخل أراضي العام 1948 في الموضوع.
إن القدس تقف اليوم ومعها أراضي العام 1948 على جمر من النار، ولكن الكسر الحقيقي في السياق او القطع الابستمولوجي بأدوات التحليل الفلسفي، في معادلة ديالكتيك القوة المجردة والواقع انما سيؤرخ ويتحدد بالحرب الأخيرة على غزة التي أبانت عن خواء هذه القوة، وحين بينت للفلسطينيين ان حيلة الضعيف التي تستند الى قوة الإبداع والخيال والعدالة التاريخية وانحلال التفكير الاستراتيجي لدى العدو، يمكن ان يؤدي الى تأديب هذا العدو. وسوف يظل شريط الفيديو المصور لجنود القسام وهم يقتحمون موقع ناحال عوز، هي الصورة التي تجسد انتهاء حقبة تاريخية تماما.
وهكذا يمكن أن نفهم كيف انه بالرغم من حقيقة أننا لم نتعاف تماماً بعد من مرض الانقسام، ويبدو العالم العربي كله تقريبا منخرطا في حروبه الداخلية، وبعض العرب وقد انحرفت لديهم البوصلة، يرى ان أولوية التحالف مع اميركا لتحرير عين العرب- كوباني شمال سورية، فيما يتركون قلب العرب في قدسهم تحارب وحدها، ان هذه القدس كما غزة بالأمس تحطم حصان القوة الإسرائيلية وتجعل من هذه القوة نفسها العنوان الكبير عن الفشل، حتى ليبدو المقدسيون اليوم الذين يخوضون هذه الحرب لوحدهم كما لو انهم هم من يمتلكون زمام المبادرة، وتقرير نتائج ومصير هذه الحرب على غرار هذا الصمود والعنفوان الخارق الذي شهدناه صيف هذا العام في غزة.
والمسألة واضحة: لطالما كان التفوق الإسرائيلي يعتمد على جهاز يملك التفوق في الاستخبارات، ولكن لئن حرم المقاتلون الغزيون هذا الجهاز من تفوقه باستراتيجية الأنفاق التي كانت مفاجأة الغزيين، فإن المقاومة المقدسية تطرح نفس الإشكالية، اذا كان الطابع الشعبي وليس التنظيمي هو ما يؤطر هذه العمليات التي لا يمكن الحصول على إنذارات مسبقة بوقوعها. والمسألة تاليا هي في قوة الإلهام ولكن الذي يصدر على نحو جماعي ونادر عن انفعال عميق من الشعور بالمظلومية واللاخيار سوى الانتصار.
وانه بهذا المعنى فقط علينا تفسير واقع هذا التحول في حقيقة ان الانتفاضة المقدسية كما الحرب الغزية، وكذا جهود الرئيس الفلسطيني ابو مازن والاختراق الدبلوماسي النادر الحدوث كما يجري في أيامنا هذه، انما هي العلامات الثلاث التي تشير الى تغير جذري في ميزان القوة لاول مرة منذ العام 1967، باندحار الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على التمادي المفرط باستعمال القوة والقوة المجردة فقط.
واذ تصل هذه القوة الى نهاياتها باصطدامها في الحائط والجدار السميك الذي يمثله ويجسده صمود الفلسطينيين الخارق ومنقطع النظير، وهذا الصمود كان ولا يزال المبدأ والركيزة الأولى في نظرية الأمن القومي والدفاع الفلسطيني. فإن انحسار واندحار هذه القوة لا يخلف وراءه سوى الواقع الحقيقي والصلب نفسه، اي حقائق الصراع التي غفلت عنها طوال الوقت القوة.
وتلكم هي الحقائق :
1- لا أمل بنجاح الاستراتيجية الصهيونية التي اعتمدت على توازن عالمي قبل العام 1948، ان يصار الى إعادة استنساخها او تطبيقها في الوقت الحالي. فلا التوازن العالمي يدعم هذه الخطة ولا الفلسطينيون انفسهم يوجدون اليوم في الوضع الذي كانوا عليه قبل العام 1948.
2- ان المضي في مواصلة هذه الخطة لا يعدو اليوم سوى ضرب من القرارات المهلكة، التي تعني بالأخير تقويض المشروع الأصلي، اذا كانت المعادلة من الناحية الجيواستراتيجية لا تمكن إسرائيل من تقرير مصير الحل النهائي منفردة لهذا الصراع.
3- إن الخيار الوحيد على محور الواقع الراهن والمستقبل إنما يتمثل بقدرة إسرائيل على التكيف مع الواقع وان تقرر نهائيا وبصورة حاسمة، ان تكون جزءا من هذا الشرق او لا تكون. وهذه هي المسألة او الموضوعة الاستراتيجية الحاسمة، أي الاعتراف بمحدودية القوة مدخلا للاندماج في نظام الشرق الذي حضارته الإسلام والعروبة، لا التغريب والصراعات الدينية وهذا يعني نزع الطابع الديني عن الدولة كما الصراع.

المصدر: 
الأيام