حول ماهية برنامج المقاومة المطلوب

بقلم: 

إحقاق الحق والعدل والواجب الإنساني بإنجاز تحرير فلسطين وطرد المحتل الصهيوني الغاصب فضلاً عن تقويض دعائم المشروع الصهيوني لن يكون من السهل بمكان، خصوصاً في الظرف المحلي والإقليمي والدولي الراهن، فموازين القوى والظروف الدولية والإقليمية والمحلية ليست أبداً في صالح الفلسطينيين. إذ لا يمكن إنكار الأبعاد الدولية والإقليمية والمحلية على مجمل ظروف استمرارية وجود الكيان الغاصب ونجاح المشروع الصهيوني.
ليس مقصد هذا القول أن على الفلسطينيين الرضوخ والرقود والاستنكاف عن المقاومة، بل على العكس، فقوة الجماهير أقوى من أن تقدر عليها كافة قوى العالم مجتمعةً، هذا إن أخذت هذه الجماهير أو ذاك الشعب بكل أسباب القوة المبنية على التحليل العلمي للظروف الراهنة، بقياس موازين القوى على الأرض وأسباب ومكامن قوة كل طرف وإمكانياته وحدود الضعف والقوة، واستخلاص العبر من الماضي والتراث النضالي للشعوب الأخرى، ما يمكن من استشراف المستقبل ووضع خطط واستراتيجية وطنية شاملة تستغل الانعطافات التاريخية لتحقيق انتصارات عملية يتبعها استثمار سياسي بأقل الخسائر الممكنة بغية تمكين الشعب الفلسطيني من الصمود والثبات على الأرض وتحسين شروط وجوده إلى أن تحين الظروف المناسبة للتحرير.
هذا ما ينبغي على الفلسطينيين الإقدام لبعث القوة الشعبية الجبارة الكامنة، واستنهاض الهمم، واستغلال الطاقات والابداع الشعبي المقاوم بأفضل السبل ضمن استراتيجية وطنية موحدة تهدف إلى تحرير فلسطين والإعداد لمرحلة البناء.
فالمقاومة ليس مفاوضات فقط، ولا ضرب صواريخ فقط، ولا ضرب حجارة فقط، المقاومة هي استراتيجية علمية متكاملة تستند لظروف الوضع الراهن وترى بالشعب قوة عظمى كامنة قادرة على تحقيق عجب العجاب.
لكي تكون المقاومة في السياق الفلسطيني مجدية، ينبغي أن تتأسس من أربعة ضلوع متساوية في الأهمية، كما أنها تشتبك في فعاليتها كوحدة واحدة لا يجوز الفصل بينها. أولها ضمان الاعتماد الاقتصادي على الذات الفلسطينية ضمن أشد الظروف قساوة، وثانيها ممارسات المقاومة العسكرية-الشعبية ذاتها، وثالثها الاستثمار السياسي-الدبلوماسي، وإلى رابعها خلق ثقافة مقاومة شفافة ترتكز إلى حقوق الشعب الفلسطيني.
نُقل عن كيسنجر قوله "تحكم في الغذاء تتحكم في الناس". ليس هناك من معارضٍ بأن هذه العبارة تنطوي على درجة كبيرة من الصحة والمصداقية. ونشاهد بأم أعيننا تجلياتها في كل بقعة من بقاع الأرض، وتحمل هذه المقولة فعالية أشد ودقة أبلغ وصحة أكبر في حال غياب بديل لموارد القوت اليومي والاحتياجات الغذائية وغير الغذائية الأساسية كما هي الحال لدى الشعب الفلسطيني الخاضع للقبضة الصهيونية بشكل تام.
يقول المثل كذلك "من لا يأكل من فأسه، لا يتكلم من رأسه." فمن يرتهن إلى الغير في توفير الغذاء والماء، يفقد الاستقلالية في صنع القرار، وتحكم الأغلال على يديه ورجليه مكبلاً.
تتكاتف العديد من الأسباب لتشكل الشباك القاتلة التي تلف الجسد الفلسطيني ضاغطةً بكل قوة بحاجة من أهم الحاجات الإنسانية وهي الغذاء والماء، إذ أن أي حاجة إنسانية أخرى لن تصل في مدى أهميتها إلى مستوى أهمية الغذاء والماء فبدونهما لا يمكن للحياة أن تستمر.
يستغل الاحتلال الصهيوني هذا السلاح الأكثر فتكاً وفعالية في إخضاع الشعوب إضافةً إلى الآلة العسكرية الضخمة، فتولي إسرائيل اهتماماً كبيراً في تحجيم الاقتصاد الفلسطيني والحفاظ عليه في إطار المطلوب ليبقى الشعب الفلسطيني معتمداً عليها في توفير قوت يومه وغذائه ومائه، وإذ سمح الكيان الإسرائيلي بعد أوسلو بانتعاش وهمي في الاقتصاد الفلسطيني، فهو ليس إلا فقاعة اقتصادية تعتمد كباقي الدول العربية السياسات النيوليبرالية والسوق الحرة أولاً، وجسم هذا الاقتصاد يقوم على اقتصاد ريعي خدماتي وإن كان يصنع أقل القليل فهي سلع تكميلية ثانوية، وهذا ما تريده إسرائيل تماماً، إذا أن أي اقتصاد غير قائم على قاعدة تصنيعية يبقى متذيلاً للدول الإمبريالية لحاجته إلى مساعداتها وخدماتها وأموالها وبضاعتها.
ناهيك عن خضوع مناطق (ج) من الضفة الغربية للسيطرة العسكرية والإدارية الإسرائيلية هذا إن علمت أن مناطق (ج) تشكل 62% من مساحة الضفة الغربية تحوي معظم الثروات والموارد الطبيعية والمائية.
كما أن الحزام الأمني الصهيوني المحيط بقطاع غزة يلتهم 17% من مجمل أراضيه وهو ما يشكل 30% من مجمل الأراضي الزراعية، يضاف إلى ذلك أن القطاع الأهم في غزة وهو قطاع الصناعة السمكية معطل بفعل الحصار المحكم على قطاع غزة إذ ان 90% من الصيادين عاطلون عن العمل ولا يستطيعون مزاولة مهنتهم ومصدر رزقهم. وقد استطاع الكيان الصهيوني تحويل قطاع غزة إلى مستهلك بنسبة 100% بفعل الحصار الوحشي الإسرائيلي-المصري الممتد لأكثر من 7 سنين متواصلة.
أي أن ذلك يعني استحالة تحقيق أي تقدم اقتصادي في الأراضي الفلسطينية أو احراز أدنى حد من الاعتماد والاكتفاء الذاتي أو رفع مستويات الأمن الغذائي التي تشكل بدورها عوامل رئيسية للصمود والقرار الفلسطيني المستقل، إضافةً إلى ركيزة وسند حقيقي لأي عمل مقاوم شامل.
علاوة على سيطرة الكيان الإسرائيلي على مفاصل إمكانيات النهوض الاقتصادي وتحقيق الأمن الغذائي ببناء قاعدة اقتصاد تصنيعي يوفر الاحتياجات الأساسية الفلسطينية، وعلاة على السياسات الاقتصادية النيوليبرالية والسياسات الاقصادية القائمة على السوق الحرة التي تنتهجها السلطة الفلسطينية، إضافةً إلى اتفاقات أوسلو والسياسات السياسية-الاقتصادية المهادنة تجاه الكيان الصهيوني، وعلاوة على قيام الاقتصاد (لا أدري إن كان بإمكاننا فعلاً تسميته اقتصاد!) الفلسطيني على القطاع الخدماتي الريعي كباقي دول العالم الثالث، وعلاوة على الثقافة الاستهلاكية المستشرية، فإن ميزانية السلطة التي تدفع منها رواتب شريحة كبيرة من الشعب الفلسطيني العاملين في السلطة الفلسطينية والقطاع الحكومي ويشكلون أكثر من 160ألف موظف حصب احصائيات عام 2010 تعتمد على أموال المقاصة والدعم الخارجي؛ إذا تشكل أموال المقاصة-أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل نيابةً عن الجانب الفلسطيني- التي تجبيها إسرائيل عن السلطة ثلثي الميزانية، وتشكل المساعدات الخارجية الثلث الأخير وهذا يعني ارتهان القرار السياسي حتماً.
لذا فإن أولى خطوات المقاومة هي تعزيز الصمود الفلسطيني عن طريق التأسيس لاقتصاد فلسطيني مقاوم يستند إلى صناعة ترتكز على مواد بسيطة متوفرة بكثرة في فلسطين المحتلة توفر الحاجات الأساسية تقود إلى إمكانية صناعة قرار فلسطيني مستقل قادر على تحمل كافة النتائج والأعباء، وذلك لعدم اعتماده على الدعم الخارجي المشروط بمهادنة العدو، وهو ما يتطلب وأد نزعة الاستهلاكية consumerism والثقافة الإنهزامية واستبدالهما بثقافة المقاومة والجلد في الظروف الصعبة.
يتبع خطوات تعزيز الاعتماد الذاتي وبناء اقتصاد شعبي بسيط هدفه توفير مقومات الحياة لا الربح والمنافسة الواهمة في ظل الاحتلال، ننتقل إلى الركن الأخر من أركان المقاومة والذي ينبغي أن تدشن خطوات بناء شبكاته بالتوازي مع بناء اقتصاد مقاوم. هذا الركن ليس إلا بناء شبكات المقاومة العسكرية والشعبية ذاتها بين الجماهير الفلسطينية.
لن يؤتي الاقتصاد المقاوم أكله من دون ممارسة المقاومة بحد ذاتها، سواء كانت شعبية-مدنية أم عسكرية، فالاقتصاد المقاوم يشكل ركيزة تستند إليها خلايا العمل العسكري المقاوم بكل أريحية بلا ضغوط ممولين ومصالح طبقية ولا انخراط في أزمات خارجية يترتب عليها خطوات تضرب المقاومة بعمق، ولا ارتهان القرار السياسي الفلسطيني لأهواء قوى إقليمية ودولية، وتجنباً لتراتبية اجتماعية حادة في المجتمع الفلسطيني تضر بالهدف الوطني الراهن المتمثل في تقويض أسس الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين.
مهما كان القرار الوحدوي بطبيعة وآلية المقاومة الفعالة في المرحلة الراهنة وفي المستقبل فإن عملية المقاومة فائقة الأهمية وحاسمة في كسر التعجرف الصهيوني، وضرب مخططاته، وسد الطريق أمام محاولات الكيان المارق إنهاء القضية الفلسطينية وإحكام قبضته وإرادته على الشعب الفلسطيني.
دون مقاومة تضطلع بدورها في إفشال المخططات الصهيونية، والدفاع عن الشعب الفلسطينية ومكتسباته ومقدراته، وحماية الشعب الفلسطيني من الجور الصهيوني، فضلاً عن كيلها الضربات تلو الأخرى تبعاً لاستراتيجية شاملة تستنهض كافة طبقات وقطاعات وشرائح الشعب الفلسطيني بانتهاج كافة أنماط المقاومة، وإضعاف مقومات المشروع الصهيوني كذلك، إنتهاءً بتقويض دعائم المشروع الصهيوني عندما تحين الفرصة مستقبلاً، فإن الشعب الفلسطيني وقضيته ووطنه ستندثر والغبار سيغطي اسم وخريطة فلسطين في كافة عواصم العالم.
ولكن، لكي لا تغدو المقاومة هدف بحد ذاتها، لابد من استثمار سياسي-دبلوماسي موفق متماشياً مع إنجازات شبكات المقاومة الفلسطينية أثناء العمل المقاوم، فأي عمل عسكري أو شعبي مقاوم ضد الاحتلال الغاصب لن يعود بالضرورة بالنفع على الشعب الفلسطيني على المدى الطويل خصوصاً إن باتت المقاومة هدفاً بدلاً من طبيعتها كوسيلة تحرير؛ وإن كانت المقاومة تحمل دلالات إيجابية في جوفها دوماً، إلا أننا في خضم صراع طويل جداً لا ينتهي بالتضحية بعدة عشرات أو مئات أو حتى عشرات ألاف الفلسطينيين لننتصر، لذلك بات واجباً أخذ ديمومة المقاومة في عين الاعتبار وأن الشعب الفلسطيني أرواح تستحق الحياة لا الموت، لذلك فإن الاستثمار السياسي للمقاومة، يعود بالنفع على عموم الشعب الفلسطيني بأقل الخسائر الممكنة في الأرواح والأموال بعيداً عن استنزاف قوى المقاومة عسكرياً وبشرياً ومالياً بما يقود إلى حسم المعركة لصالح الاحتلال الصهيوني، هي ضرورة قسوى تستحق الكثير من العمل والتخطيط.
يضاف إلى ما سبق، الركن الرابع من أركان العمل المقاوم، وهو المنظومة الثقافية والفكرية المقاومة. ففي مقابل الاستعداد والعمل الميداني المادي على الأرض، سيضطلع الشعب الفلسطيني بالضرورة في صراع نفسي يتحدى الثقافة الانهزامية-الاستسلامية المروَّج لها على أيدي الكيان الصهيوني الغاصب وضعيفي النفوس من أبناء الشعب الفلسطيني.
كذلك فإن تحدي النزعة الاستهلاكية consumerism  تشكل أحد مقومات ثقافة المقاومة لتحاشي ضعف وتقهقر النفوس الضعيفة عند الطروحات الصهيونية المتعلقة بالسلام الاقتصادي والرفاهية الواهية.
علاوةً على ذلك، فإن استغلال أهمية وسائل الإعلام التقليدية عموماً ووسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً، إضافةً إلى العمل الدبلوماسي المستند إلى مصالح الشعب الفلسطيني، وحملات دعم الشعب الفلسطيني وإثارة قضيته في كافة أرجاء العالم على درجة بالغة من الأهمية لألا تترك الحلبة الدولية للرواية الصهيونية سواء على المستوى الشعبي أم النظامي، فالتعاطف والدعم الدولي-الشعبي منه خصوصاً- يصب بشكل كبير في دعم مسيرة النضال الشعبي الفلسطيني لاستعادة حقوقه ووطنه المسلوب. والتعاطف المنشود لن يتحقق إلا بتفنيد الرواية الصهيونية أمام كل شعوب العالم وطرح رواية الشعب الفلسطيني المضطهَد بشكل أوسع وجذّاب وعقلاني على نطاق واسع.
في الختام، إن أيّاً مما سبق لا يمكن أن يتم قبل رأب الصدع بين مكونات النظام السياسي الفلسطيني، وتحقيق اللحمة بين شطري الوطن بناءً على برنامج مقاومة مماثلاً لما عرضناه في هذه الورقة، هذا بالإضافة إلى علاج التصدعات الاجتماعية والنفسية وآثارها السلبية الممتدة على مختلف عناصر المجتمع الفلسطيني.