الهجمات في فرنسا: ملاحظات على هامش الحدث
تابعنا خلال الأيام الثلاثة الماضية واحدة من الفصول المروعة للتناقضات القاتلة التي تنطوي عليها منظومة علاقات العالم الغربي بالعالم الثالث، وبخاصة العالم الإسلامي. حيث تعرضت جريدة "شارلي ابدو" الساخرة لهجوم بالاسلحة الرشاشة سقط ضحيته اثنا عشر شخصا. من مفارقات هذا الهجوم هو أن أول ضحاياه هو الشرطي المسلم "أحمد مرابط"، الذي قتله أحد المهاجمين (الأخوين كواشي وهما مسلمين من أصول مغاربية) بعد أن أصابه بالرصاص. لم تشفع توسلات "أحمد مرابط" وهو ينزف على الأرض إذ أجهز عليه المهاجم من مسافة صفر. وفي ذروة مطاردة الشرطة الفرنسية للمشتبه فيهم بالهجوم، تعرض محل لبيع اللحوم الحلال لليهود (الكوشير) لعملية افتحام على يد مسلح أردى على الفور أربعة أشخاص واحتجز سبعة اخرين كرهائن.
انتهت الواقعتين مساء الجمعة 9/1/2015 حيث قتلت الشرطة الفرنسية المهاجمين الثلاثة، لكن الهزات الارتدادية لهذه الهجمات ستتواصل على الأرجح في الأيام القادمة. اخر الأنباء تتحدث عن قدوم طواقم مختصة من الولايات المتحدة الأمريكية، على رأسهم المدعي الأمريكي العام "إريك هولدر"، ومن العواصم الأوروبية إلى فرنسا لدراسة الخطوات القادمة في مواجهة التهديدات المحتملة لهجمات مماثلة. فهل نحن أمام حرب جديدة ضد الإرهاب مركزها وميدانها أوروبا وعنوانها اعتراض عناصر "داعش" "والقاعدة" المفترض أنهم كامنون في المجتمعات الأوروبية بانتظار الإشارة؟ كيف ستؤثر هذه الهجمات على العلاقات الأوروبية-العربية، وعلى علاقات فرنسا تحديدا بالعالم العربي، وموقفها من الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي؟ ما هي التداعيات المحتملة لهذا الحدث المفزع على التحالف الدولي-العربي ضد داعش وبالتالي على المستقبل المنظور للمنطقة العربية؟ وقبل كل ذلك ما هو الموقف الأكثر حصافة تجاه هذه الهجمات؟
لا أدعي بأنني أمتلك الإجابات الشافية لكل هذه التساؤلات، ولكن أشير إلى الملاحظات التالية على هامش الحدث. ملاحظاتي هذه لا ينبغي أن تؤخذ باعتبارها تبرير للإرهاب، ولا محاولة لمنحه الشرعية، بل هي محتاولة لفتح نقاش لفهم جذوره. فالإرهاب ظاهرة غير مستقلة، ولا يولد في فراغ تاريخي (اقتصادي-اجتماعي) أو سياسي وقانوني.
1- لا ينبغي لنا أن نتجاهل هذا التطور الخطير، بل أذهب إلى حد القول بأننا لا نمتلك أن نقلل من شأنه وكأنه لا يعنينا. هذا الحدث يضعنا أمام اختبار صعب. أقصد نحن العرب والفلسطينيين، والمسلمين عموما. يلاحظ بأن ثمة هوة كبيرة بين شجب "عمرو حمزاوي" لهذه الهجمات (وهو ما يمثل الموقف الذي يمكن توصيفه بالمتنور أو الليبرالي إن صح التعبير)، وبين من يعتبر مرتكبيها شهداء الدفاع عن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. هي ذات الهوة التي يمكن عقلنتها إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأن مرتكبي الهجوم البشع في فرنسا تربطهم علاقة وثيقة بالشخص الذي دبر ونفذ اغتيال اثنين من أعلام السياسة المتنورين في تونس "شكري بلعيد" و"محمود البراهمي". وهي ذات الهوة التي يمكن معرفة مدلولاتها عندما ننظر إلى الشرطي "أحمد مرابط" وهو يعدم بدم بارد على قارعة الطريق. هو ذات الفرق بين من يحمل ريشة كاريكاتور ويستفز مشاعر المسلمين حول العالم وبين من يحمل "كلاشينكوف" ويطلق النار باسم النبي محمد. "بلعيد" و"البراهمي"، و"شارلي ابدو" كانوا صوت العلنية الشجاعة، والأخوين كواشي هم صوت المكيدة الصامت، والقاتل. علينا أن نقرر في عالمنا العربي أيهما نساند. إن فكر داعش والقاعدة وممارساتهما لا تعرف حدود المعقول، ولا ترى العالم إلا من منظار "معي أو ضدي"، ولا تعرف الحلول الوسط. لنا في ممارستهما في العراق وسوريا نموذج يفترض أن يدفعنا لإعلاء صوت العقل والتنوير والقبول بشرعية التنوع.
بهذا المعنى فإن إدانة هذه الهجمات صراحة وبلا تلعثم باعتبارها إرهابا هو أمر مطلوب لكنه مراوغ وينطوي على تناقض خطير. الإدانة هنا يمكن أن تؤول على أنها تعميم للخطيئة على مجتمع بأسره وهو المجتمع المسلم في فرنسا وأوروبا، وهو ما سيفتح الباب أمام تبرير الانتقام وحملات التشهير. من جهة ثانية هذا سيعطي المزيد من التبرير والتسويغ لتشبث الصهيونية ودولة إسرائيل بمنطقها القائل بأن عدوها وعدو الغرب المتنور واحد، ألا وهو الإسلام المتطرف. أليس هذا ما صرح به نتانياهو أمس؟ كيف لا وقد تعرض محل بيع اللحوم اليهودي بالذات لعملية انتقامية نصرة للأخوين كواشي! بالمقابل فإن عدم الإدانة ينطوي على مأزق أخلاقي وفكري وسياسي خطير. إذ سيفهم الصمت على أنه إما قبول أو جبن أو حسبة سياسية ترى في ظواهر مثل داعش والقاعدة والسلفية لاعبين سياسيين يمكن توظيفهم أو جلبهم إلى مربع لعبة السياسة بمعناها الواسع. أليس هذا ما جلبته لنا سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في مساهمتها الحاسمة لخق تنظيم القاعدة، والمساهمة في خلق داعش لخدمة حساباتها الخاصة.
2- بذات القدر تكشف هذه الهجمات عن الوجه القبيح للعنصرية والنفاق الأوربيين في التعامل مع قضايا حساسة لها علاقة بالأديان والصراعات في المنطقة العربية. لم نسمع في العواصم الأوروبية -التنويرية منها أو المحافظة- عن أية قوانين تمنع التحامل على الدين الإسلامي مثلما هو الحال فيما يتعلق بالدين اليهودي. صحيح بأن علاقة أوروبا باليهودية لها خصوصيتها بفعل التاريخ الذي نعرفه جميعا، ولكن أوروبا المعاصرة التي تعتد بليبراليتها وتنوعها وقيمها الإنسانية لا يهتز لها جفن إزاء هستيريا العداء للإسلام (أو ما يعرف بلاإسلاموفوبيا). لم نسمع قط بأية محاولة لتوصيف مثل هذه النزعات بأنها anti-Islam واعتبارها جريمة تحامل، بنفس الطريقة والعمق القانوني والأخلاقي الذي تستخدم فيه الاتهامات السهلة لمنتقدي إسرائيل أو كل ممارسة ضد اليهود -حتى لو لم تكن معادية لليهود كيهود- باعتبارها anti-Semitic (لاسامية) يحاسب عليها القانون.
تتفاقم هذه المعضلة الأخلاقية والقانونية بفعل حالة البؤس والحرمان التي يعيشها مئات الاف المهاجرين الأفارقة على هامش المجتمعات الأوروبية. في فرنسا حيث تنتشر ما تسمى "بمدن الضواحي" التي تعتبر حاضنات لكل أنواع الاحتجاج الاجتماعي الكامن في التهميش والبطالة عبرت هذه الظاهرة عن نفسها بأعمال عنف واسعة النطاق في عامي 1998 و2005. لقد أطلق أحد الكتاب الفرنسيين على هذ الفئة من المجتمع الفرنسي اسم "البؤساء الجدد" في استعارة لرائعة "فيكتور هيوغو" (البؤساء)، وعنها كتب برهان غليون مقالة مؤثرة في العام 2005 بعنوان "ثورة المهمشين". من هذه الضواحي خرج أمثال الأخوين كواشي وزميلهم كوليبالي (الأخير له سجل حافل في الجريمة والمخدرات قبل أن يعتنق الإسلام وينضم لهذه الخلية).
3- هذه الهجمات الدموية البغيضة هي التعبير الأكثر فداحة وبؤسا للاحتجاج والإحساس بالغبن الكامنين في نفوس ملايين البشر، وبشكل خاص في العالم الثالث والبلدان الإسلامية على نحو مميز. فبعد انتهاء الحرب الباردة توالت الأزمات التي زادت من حدة التناقض بين هذه الدول والغرب، بدءا من حرب الخليج الثانية 1991، مرورا بالحرب على الإرهاب التي أعلنها جورج بوش الابن إثر هجمات 11 سبتمبر، وليس انتهاء بالحرب على العراق في العام 2003. في كل هذه المناسبات كانت التحالفات غربية-غربية، أو غربية-عربية تستهدف حصرا شعوبا ودولا إسلامية. حتى اليوم لا زالت دول مثل مالي، نيجيريا، اليمن، أفغانستان، سوريا، العراق، وباكستان تكتوي بنيران الجيوش الغربية، وهجمات الطائرات من دون طيار في إطار حرب الغرب ضد ما يوصف بالإرهاب والتطرف الإسلامي.
لقد تعمقت هذه المتوالية الفريدة في السنوات التي أعقبت سقوط المنظومة الاشتراكية وإعلان الغرب عن انتصار الرأسمالية و"نهاية التاريخ". تحول العالم إلى ما يشبه مزرعة للاقتصاد الرأسمالي المعولم، فباتت شعوب العالم الثالث وبخاصة في المنطقة العربية وجزء كبير من العالم الإسلامي تعيش غضبا مركبا يجمع بين الشعور العميق بالإذلال والانكسار، وبين الإفقار المتزايد. هذا هو ما يجمع بين شروط حياة كل من الأخوين كواشي وزميلهم كوليبالي، وبين كل الأسماء الأخرى التي تنضم لداعش والقاعدة في أماكن مختلفة من العالم. إنه "العالم الرابع" الذي أوجده جشع وعدوانية ونفاق وغرور العالم الغربي المتحالف مع دول فاشلة وأنظمة مأجورة. فإذا كان الأوروبي أو الأمريكي الذي يعيش في ظل ظروف تتووفر فيها مساحات كافية من الرخاء (أو على الأقل الكفاية) ومن حرية التعبير قادر على تجاوز تصوير المسيح عليه السلام أو أي من الرموز الدينية الغربية بشكل ساخر وأخذها على محمل الدعابة أو النقد الاجتماعي، فإن المسلم الذي لا ينعم بأي قدر من هذه الشروط سيرى في مثل هذه المواجهة كل ما تمثله قيمه، أو ما تبقى له من موروث يدافع عنه، حتى لو كان عبر فوهة كلاشينكوف!