دولة واحدة.. أم.. دولتين؟

بقلم: 

تتسم طبيعة الخيارات التي تدخل في إطار التسويات والحلول للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالتداخل والتعقيد والتشابك ، فالخيارات السلمية لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني  باتت ضيقة وقليلة وتواجه العديد من الصعوبات سواء  خيار إقامة الدولتين  أو خيار الدولة الواحدة.
منذ أوسلوا اضحى خيار حل الدولتين في المنظومة الفلسطينية هو الخيار الإستراتيجي المعلن وهو الخيار الذي سيعطي الفلسطينيين حق تقرير مصيرهم في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية ، وفي ظل  المماطلة الإسرائيلية في إدارة  الصراع والتعنت الإسرائيلي والسياسة الإستيطانية وسياسة العزل  والتهجير والتدمير والإبادة السياسية الممنهجة وفرض الوقائع أضحت هنالك تساؤلات كثيرة  حول مدى جدية الجانب الإسرائيلي في إتمام عملية التسوية النهائية .
وقد شكلت قضية المستوطنات عقبه حقيقة في طريق حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فبينما كانت الحكومات الإسرائيلية تدعم التفاوض مع الفلسطينيين كانت في نفس الوقت توسع من نشاطها الإستيطاني وتبني المدن الإستيطانية الكبرى التي قطعت أوصال الدولة التي لم تولد بعد، وقضت على أماني وطموحات القيادة الفلسطينية في إمكانية ميلاد الدولة الفلسطينية ، حتى بدت المستوطنات والقرى والمدن الفلسطينية حلقه واحدة يصعب فصلها أو رسم معالم حدودية بينها .
ورفعت اسرائيل شعارات تبدو متناقضة مع مشروع الدولتين مثل شعار يهودية الدولة والذي يمثل تضاربا مع قيم الديمقراطية وتجسيدا  لمبدأ العنصرية والتمييز ، ويشكل هذا الشعار خطرا كبيرا على مستقبل  أكثر من مليون ونصف  فلسطيني يعيشون داخل الخط الأخضر وعلى حق ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذي شردوا  وهجروا من أراضيهم قصرا.
إن موضوع  إقامة "دولة واحدة" تجمع الفلسطينيين والإسرائيليين ، ليس طرحا جديدا  بل طرحا قديما يمتد منذ بدايات  القرن الماضي ، حينما تبنت حركة " فتح" ، هذا الخيار من قِبل المجلس الوطني الفلسطيني عام1971، على اثر  إحتلال اراضي  1967كخيار استراتيجي يساعد في التخلص من  الاحتلال  ، وقد تبنى اليسار الفلسطيني ( الشيوعي الاشتراكي ) تلك الرؤية وتبلورت  لديهم الفكرة في بدايات 1973  وقد تكررت هذه الدعوة في ادبيات اليسار الداعية إلى القضاء على الفكر الصهيوني التوسعي ،وقد تقدمت جبهة النضال الشعبي الفلسطيني بمذكرة للمجلس صورت فيها رؤيتها من شعار الدولة الديمقراطية، وعلى الصعيد الآخر ظهر  اجتهاد آخر في هذا المضمار، من دعاته أحمد سعدات، أمين عام الجبهة الشعبية والذي أكد على أن ،مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة  يأتي كحل استراتيجي  ديمقراطي شامل للصراع في فلسطين وحول فلسطين.
واصبح خيارا يستحق النقاش والتحليل بعدا لتنكر الإسرائيلي لاستحقاقات "عملية السلام" . ووجدت القيادة الفلسطينية اليوم نفسها أمام وقائع حقيقية تهدد مشروع الدولتين ، وقائع تشير إلى أن معالم الأرض التي فاوضت ولا زالت تفاوض عليها القيادة الفلسطينية قد تغيرت بالكامل ولا مكان لدولة فلسطينية مقطعة الأوصال ،  تنهشها  البؤر الاستيطانية مما يجبر القيادة الفلسطينية على البحث عن بدائل وخيارات أخرى تتناسب مع السياق الفلسطيني والمعطيات الحقيقية .

ولم ياتي هذا التفاعل في طرح خيار الدولة الواحدة كنقيض لمشروع الدولتين الذي فرض نفسه على الساحة الفلسطينية بعد اتفاقيه اوسلو بل جاء نتيجة الضعف الذي ألم بجسد مشروع الدولتين ، ورفض مشروع البرنامج الصهيوني التوسعي الإستيطاني،وتعاطيا مع التغيرات السياسية والفكرية للمجتمع الفلسطيني والإسرائيلي.
أما الحركات السياسية والوطنية الاسرائيلية والفلسطينية والتي طرحت هذاالخيار قبل النكبة الفلسطينية فقد عبرت عن يقينها بأن مشروع الدولة الواحدة هو الأجدر وهو الأسرع في تحقيق العدالة والحرية والتخلص من براثين الاحتلال ، وفي سياق دعوة هذه الحركات يتضح جليا أن هذه الحركات والدعوات كانت تدرك مخاطر عملية التقسيم لدولة لا تقبل القسمة ، وأن التعايش والسلام من شأنه أن يوفر الوقت والجهد على ملايين المضطهدين  في هذه الأرض المقدسة التي تتسع لقيم المساواة والعدالة ولا تتسع لقيم الكراهية والألم والعنف.
وفي الجانب الاسرائيلي طرح قديماً بعض الاسرائيلين مثل حركة اغودات اسرائيل وهي أحد الأحزاب السياسية المعارضة للصهيونية في اسرائيل والتي انشات عام 1912،  كما ظهرت  جماعة برييت شالوم وإيحوود. وحركة أبناء البلد  في اسرائيل كانت تدعو للتعايش والتآخي السلمي بين اليهود  والعرب. وهي مكونة من نخبة من كبار المثقفين. وقد عارضت السياسات الإسرائيلية القائمة على العنصرية على مدار تاريخها،  اضافة الى وجود شخصيات سياسية وفكرية اسرائيلية كثيرة  دعت الى ضرورة اقامة دولة ديموقراطية واحدة كاينشتاين  وايلان بابيه وغيرهم

إذاً من الواضح أن هنالك تطورا ملحوظا في تاريخ خيار حل الدولة الواحدة  خاصة بعد انسداد الأفق السياسي أمام خيار حل الدولتين الذي يتهاوى بفعل الممارسات الاسرائيلية والعقلية الإستيطانية والحربية  ، وقد كان هذا واضحا في بعض التعليقات التي ظهرت على لسان رئيس دائرة شؤون المفاوضات  الدكتور صائب عريقات أو حتى على لسان أحمد قريع في أكثر من محفل ، وهذه الآراء إنما تعبر عن فقدان القيادة السياسية الأمل في مستقبل خيار حل الدولتين أضف إلى ذلك مئات الشخصيات السياسية وعشرات المؤتمرات الدولية الداعية للتفكير بشكل استراتيجي وواضح لمستقبل هذا الخيار والأدوات الناجعة لتحقيقه.

واصبح من  الواضح أن كلا من قضية المستوطنات وشعار يهودية الدولة يشكل ضربه قاسمة وطلقه حاسمة في جسد مشروع الدولتين ، والمتتبع للأحداث على الأرض يجد أن إسرائيل ماضية في فعلها الاستيطاني الإجرامي ومشرعة لكافة الوسائل والأدوات اللاشرعية التي يستخدمها المستوطنين في السيطرة على الأراضي ، كما إنها لا زالت تعمق من شعار يهودية الدولة في سياستها وقوانينها ،
حقائق الأمر تشير إلى أن  الاراضي الفلسطينية المتبقية لن تكون قابلة للحياة ،في ظل وجود 7% من المستوطنات على اراضي  الدولة الفلسطينية والتي لا تتجاوز مساحتها 22% من اراضي فلسطين التاريخية  وفي ظل ندرة الموارد الطبيعية ومساحتها  الصغيرة ، إضافة إلى الأرقام الصادمة للتوسع الاستيطاني المخيف  حتى اللحظة ، اضافه الى حدود الدوله المنتظرة و المرتقبه والتي ستكون اسرائيل بلا شك مسيطرة على كل الموارد ،  هذه الدولة  حسب العقيدة السياسية لإسرائيل لن تكون سوى  كانتونات متقطعة الأوصال  تعتمد على على المساعدات الدولية والمنح الخارجية.
وكما قال العديد من المفكريين الفلسطينيين ،  تبقى الآمال معلقه في مشروع الدولة الواحدة ليس بفعل قوتها واستراتيجيتها التي لا زالت في طور النشوء والأفكار المتداخلة بل بفعل آفاق مشاريع التسوية القائمة التي تثبت حقيقة فشلها، فإذاماتتبعنا مسار الحركة الوطنية  نرى  التدرج في التراجعات االواضحة في البرنامج الوطني النضالي الفلسطيني ، من شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر وعودة اللاجئين، إلى الدولة العلمانية الديمقراطية على كل فلسطين، إلى الدولة المرحلية عام 1974، إلى حل إلى سلطة الحكم الذاتي  حسب اتفاقية أوسلو إلى سلطة في قطاع غزة وسلطة في رام الله ، كيانان فلسطينيان متنازعان على سلطة  لا زالت تحت الإحتلال الاسرائيلي .

ورغم أن مؤيدي  لم يقدموا الدولة الواحدة ،اجابات واضحة لكثير من التساؤلات لمستقبل هذا الخيار وامكانية تطبيقه  خاصة قضية إعادة تشكيل الهوية الجماعية ، ومدى قبول الجماعات والتيارات الدينية لهذا الخيار ، والنظام السياسي ، وشكل التحالفات الدولية ، في ظل سياق صراعي محتدم في الشرق الاوسط  إلا أن الكثير من المؤتمرات والأفكار الأكاديمية استطاعت أن تضع اللبنة الأولى لمستقبل هذاالخيار معلنة عبر مؤتمراتها حقيقه واضحة  مفادها اننا نسير ببطىء شئنا أم أبينا إلى دولة واحدة بفعل ما هو على الأرض وليس بفعل ما نتمناه
كما تبقى الآفاق مفتوحة أمام هذا الخيار بالنشوء والتطور ضمن خطط استراتيجية تتضح ملامحها من حين لآخر فعلى الصعيد الدولي يحتاج أنصار هذا الشعار إلى تجنيد  وسائل أكثر ملائمة في الخطاب الدولي ، وتوسيع رقعة مؤيدي الشعار وتعبئة يهود العالم خاصة المناهضين للصهيونية ، والعمل على إيجاد جسم منظم فاعل وحركة دولية متناغمة مع مطالب الحقوق الفلسطينية وإنهاء الإحتلال ، هذه الفرص تبدو صعبة  للوهلة الأولى ولكن بفعل القيم التي يدافع  عنها رواد حركات حقوق الإنسان ومناهضي التمييز والعنصرية في العالم ستيدو أكثر قابلية للتحقيق .
وعلى المستوى الداخلي  فهنالك الكثير من الظروف المؤاتية التي تخدم المشروع أولها هو حالة اليأس التي أصابت كلا من المجتمع الفلسطيني والإسرائيلي في إنهاء هذا الصراع ، وموجات العنف المتوقعه في حال بقاء الوضع على ما هو عليه ، وطبيعه التعايش والتقارب اللاارادي بين الفلسطينين والإسرائيلين
وعلى صعيد آخر فإن أنصار هذاالمشروع هم نخب أكاديمية وتربوية قادرة على إحداث الفرق ويحظون باحترام وتقدير من قبل مجتمعاتهم الشعبية ، وربما يعتريهم الخوف من اعلان ارائهم بشكل علني في هذه الظروف السياسية والأمنية ، إلا أن المستقبل القريب قد يحمل معه جرأة أكبر في طرح هذا الخيار بشكل أفضل .
وبرأيي أن الدعوة الى فتح نقاشات أوسع حول مستقبل هذا الخيار لا يعني بالضرورة الترويج له أو قبوله كما هو ولكن هنالك ضرورة قصوى في طرح هذا الخيار للنقاش بشكل علني داخل المجتمع الفلسطيني، لقراءة كافة أبعادة ، وفهم المصالح  والفرص  والتهديدات  وراء تبني أو معارضة هذا الخيار ، مقارنة مع الخيارات المطروحة داخليا ، وفي ظل المطالبات بضرورة تحويل الصراع من صراع على الأرض إلى نضال للحصول على الحقوق المدنية ، هذه النقاشات ستتيح لنا التفكير في كل الإستراتيجات والخيارات الوطنية المتاحة قبل أن تصبح احدى هذه الخيارات يوما ما مسقطة علينا ،فنلعنها كما لعنا غيرها.... ولكن...  بعد فوات الأوان .