الاتفاق النووي واستراتيجية الفخ المتبادل

بقلم: 

بإنجاز اتفاق الإطار النووي تكون إيران قد قطعت شوطا هاما من تحقيق رؤيتها الاستراتيجية لتكون لاعبا استراتيجيا في "نادي الكبار" او ما يسمى اصطلاحا 5+1 حسب ما أطلق عليه خلال الفترة الماضية.

إن قدرة إيران على تحقيق ذلك يعتبر انجازا من الوزن الثقيل وهو شهادة لها على اجادة تحقيق اهدافها الاستراتيجية من خلال امكانياتها وتكتيكاتها التفاوضية في أعتى "صراع أدمغة" تخوضه مع الغرب.

هي استراتيجيات متبادلة المصالح؛ لكنها دائما لصالح الاقوى؛ فبتوقيع اتفاق الإطار النووي بين إيران والغرب؛ تعتبر اميركا انها حققت انجازا من وجهة نظرها لمصالحها؛ وكذلك إيران تعتبر انها حققت اهدافها من وجهة نظرها؛ والدهاء السياسي والاستراتيجي ان يستغل أحدهما الاخر لتحقيق مصالحه؛ والاتفاق الحالي بوزن النووي وأكثر؛ يعمل لصالح إيران؛ التي أنهكها الحصار؛ والاتفاق بمثابة ضخ روح جديدة في دمائها؛ وإطلاق ليديها في المنطقة؛ والخاسر الاكبر فيه هو العالم العربي ومن ثم تركيا فروسيا.

وقد اجتمع خلال هذه المفاوضات كل من الخبث الاميركي والدهاء الايراني؛ حيث ان كلا منهما خاض تجارب حروب مختلفة انتهت بعدم تحقيق اهدافهم كل على انفراد؛ فأميركا خاضت حروب فيتنام وافغانستان والعراق واعترفت بكل صراحة انها خسرت بل فشلت استراتيجيا في هذه الحروب ؛ واصبح لديها توجه او حتى قرار استراتيجي بعدم العودة الى خوض هكذا حروب تقليدية؛ انما خوضها وفق مفاهيم الاجيال الجديدة من الحروب كالحرب بالوكالة او اثارة الفتن واشعالها بين اعدائها واعدائهم او خصومهم؛ اي الجيل الرابع والخامس من الحروب وهي حروب غير مكلفة او مستنزفة لها كما في الاجيال الاولى.

اما إيران فبعد حربها الطويلة مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي؛ فقد قررت ان تخوض حروبها بطريقتها الخاصة؛ والتي اصبحت فيما بعد استراتيجية ايرانية مبتكرة؛ والتي استطاعت بها فرض هيمنتها على العديد من المناطق في الاقليم من خلال النفس الطويل والتزويد بالمال والسلاح حتى لا تتكرر تجربتها المرة في العراق. وهي تكاد تكون مشابهة للاستراتيجية الاميركية في الجيل الرابع والخامس من الحروب مع وجود بعض الاختلافات الجوهرية والطفيفة؛ لكنها تبقى حروبا ذات بعد عسكري وجيوسياسي معا؛ بل وأكثر تمددا وأسهل انتشارا وانكماشا وقت الحاجة؛ ومن الممكن تحولها الى خلايا نائمة إذا ما اضطرت الى ذلك تحت اي نوع من الضغوط السياسية او العسكرية او الامنية او حتى الاجتماعية والاقتصادية.

لم يعد خافيا في "اللعبة الاستراتيجية الكونية" ان كلا من أميركا وإيران تلعبان باتقان لعبة "استراتيجية الفخ". فإيران تعتبر واميركا تعترف انها اوقعت إيران في فخ حرب "إيران -العراق" في ثمانينيات القرن الماضي بهدف استنزاف الثورة الايرانية في مهدها حفاظا على مصالح اميركا وخشية تمدد إيران وتصدير ثورتها. وفي المقابل اميركا تعتبر وايران تعترف ان ايران مهدت بوسائل متعددة لإيقاع اميركا في "فخ العراق" لتحقق هدفين استراتيجيين: اولهما اسقاط صدام حسين العدو اللدود لإيران ثأرا للحرب الثمانية؛ و ثانيهما لإدراكها انها ستوقع اميركا في حرب استنزاف طويلة مع المقاومة العراقية وبدعم سخي من ايران؛ ومن ثم تنسحب اميركا تاركة وراءها فراغا سياسيا وامنيا واستراتيجيا في العراق لا تملأه سوى ايران حسب الفسيفسائية العراقية البالغة التعقيد؛ وهذا تماما ما حدث بعد الانسحاب الاميركي من العراق بعد الفشل الذريع هناك حيث تفوق تكلفة الحربين تريليون دولار حسب تقديرات اميركية.

واليوم يعتبر توقيع "اتفاق الإطار النووي" استمرارا لحرب "الثارات" بين الطرفين؛ لكن بخوض جيل جديد من الحروب السياسية والدبلوماسية والتفاوضية الماكرة والخادعة؛ بعد قناعتهما ان حروب الاجيال الاولى لم تعد ذات جدوى لأسباب عديدة وغير خافية على أحد.

واليوم يعتبر توقيع "اتفاق الإطار النووي" استمرارا لحرب "الثارات" بين الطرفين؛ لكن بخوض جيل جديد من الحروب السياسية والدبلوماسية والتفاوضية الماكرة والخادعة؛ بعد قناعتهما ان حروب الاجيال الاولى لم تعد ذات جدوى لأسباب عديدة وغير خافية على أحد. فإيران تدرك بحنكتها ان أميركا تعاني تدهورا استراتيجيا سيمتد عقودا وإنها ستتنحى عن القيادة الاقتصادية للعالم خلال عقد او عقدين من الزمن؛ بصعود الصين ودول الاقتصادات الصاعدة الاخرى؛ وهذا ليس ضربا من الخيال انما هو قراءات استراتيجية واستخبارية اميركية واوروبية للقرن 21.

وبلا شك فإن اميركا تدرك انها لا تستطيع خوض حرب ضد إيران نيابة عن "اسرائيل" ومن اجل عيونها؛ لوعيها ان هذه الحرب لن تختلف عن سابقاتها وإنها ستخرج منها بكل انواع الفشل ان لم يكن ب "الاستنزاف القاتل"؛ كما حدث لعدوها الابرز في الحرب الباردة "الاتحاد السوفيتي سابقا"؛ حيث خرج منهارا من حربه الطويلة في افغانستان مما ادى الى "تفكيكه" كدولة عظمى في العقد الاخير من القرن الماضي بعد استنزافه هناك. إن تعقيدات الاوضاع العالمية الامنية والاقتصادية والجيوسياسية والجيواقتصادية كلها قادت الولايات المتحدة نحو هذا الخيار هروبا من خيار "الاستنزاف" الذي يبدو ان هناك من كان يعمل على دفعها اليه دفعا او جرها جرا؛ خصوصا في منطقتي الشرق الاوسط وآسيا؛ وبعض اوروبا التي تريد وبلا ريب التخلص من الهيمنة الامريكية على قرارها الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي ايضا.

والسؤال الكبير هنا: من نصب فخا استراتيجيا لمن؟
ان السياسة تحكمها تقلبات الظروف بكافة انواعها من اقتصاد وسياسة ونفط واسعار نفط واسعار دولار وامن وجغرافيا وحكام ورؤساء وحسابات شخصية وثورات وانقلابات وتغيرات وكوارث طبيعية وغير طبيعية وغير ذلك. وهذه الظروف وغيرها تخلق تناقضات أو تحالفات استراتيجية لا يستطيع اقتناصها إلا من قرأ الواقع والمستقبل معا مستشرفا صناعة الحياة لأمته وشعبه؛ ولا تغيب عنه دروس التاريخ واللحظات الحرجة ووجود لاعبين آخرين من الدول ومن غير الدول يقفون متأهبين؛ عقولهم كعيون الصقر في انقضاضها؛ والا عفا عنهم الزمن وأصبحوا قطعة من التاريخ.

خلاصة القول: ان التفكير الاستراتيجي الاميركي والايراني معا يتفقان في الهدف ولكن كل حسب استراتيجياته وطموحاته وآلياته؛ فالأميركي يهدف الى استمرار احتلاله الكوني للقرن (21) بأقل تكلفة مع استمرار الهيمنة والسيطرة الى اقصى حد ممكن؛ اما الايراني فهدفه تمكين هيمنته على الاقليم المحيط من خلال ضوء اخضر من القوى الكونية؛ اي موافقة على ان تصبح ايران لاعبا استراتيجيا في المنطقة ولكل شيء ثمنه؛ فليس في السياسة سلع مجانية او منح او مكافآت ؛ بل سلع معلومة الثمن ويكون الثمن دائما باهظ التكاليف لطرف على حساب الطرف الآخر.