سايكس بيكو (2): من يملأ الفراغ الاستراتيجي

بقلم: 

ان التحولات الاستراتيجية التي تشهدها المنطقة هي منتج طبيعي للحالة التي مرت وتمر بها على مدار عقود. لقد ادت الحالة التي سبقت ذلك الى ولادة حركات متعددة على مستويات مختلفة منها داخلية واخرى خارجية. فمعادلات التوازن ومعادلات التغيير بلا شك مختلفة لكنها تتشابه في كل من ثوابتها ومتغيراتها مع امكانية حدوث التبادلية احيانا بين عوامل البيئتين الداخلية والخارجية على مستوى البعد الاستراتيجي.

من السذاجة بمكان ان نتعامل بمعزل عن عوامل التحريك السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجيوسياقتصادية؛ فهذه العوامل هي الفرن الساخن الذي يتم فيه طبخ العجينة الجيواستراتيجية بواسطة مراكز التفكير الاستراتيجي العالمية والتي تعتبر الذراع المتقدم والخفي للأجهزة الاستخباراتية والجيوش معا؛ من اجل انضاج الطبخة واخراجها على شكل يبدو طازجا للأغرار والضعفاء والباحثين عن الكراسي في محاولة لإعادة تدوير الدولة الدكتاتورية المستبدة بطريقة مختلفة نوعا ما؛ لكنها لا تختلف كثيرا عن مواليد سايكس بيكو (1)؛ وذلك في محاولة يائسة لإعادة التدوير الممجوجة.

فالمنطقة اليوم تدخل الحقبة الثالثة من الهيمنة متدرجة من الاحتلال العسكري الى الدولة القطرية من خلال نظام اقليمي رسمي تشبيكي؛ الى الهيمنة من خلال الشرطي الاقليمي؛ بعد فشل كل من الحقبتين الاولى والثانية تحت ضربات المقاومة في الحقبة الاولى؛ ولكمات الجماهير في الحقبة الثانية؛ واذا نجح المهندسون الجيوسياسيون في بلورة الحقبة الثالثة فهي وبلا شك سوف تسقط ايضا تحت ضغوط اكثر شدة من سابقتيها؛ يدخل فيها عوامل متشابكة كالضغط الجماهيري والمقاوم على شكل زخات وفيضانات شعبية لا تستطيع الانظمة المستحدثة احتمالها؛ مع كونها تجرف الاخضر واليابس امامها من خلال وسائل اعلام متجددة ومبتكرة تلعب دورا كبيرا في عملية تحريك الكتل الغاضبة عبر الجغرافيا الجديدة والمتمثلة في سايكس بيكو (2).

وفي حال عدم نجاح سيناريو الحقبة الثالثة والتي تؤسس لاستمرار احتلال اميركا للقرن الحادي والعشرين؛ مما يمثل انتصارا كونيا لثقاقة الكاوبوي لقرن آخر؛ فإن السيناريو الاخر المرشح لذلك هو تحالفات جديدة للاعبين اقليميين كبار من غير الدول مدعومين من قبل لاعبين اقليميين او دوليين كبار في عملية طبخ جديدة يكون مخرجها أفضل نوعا من مخرجات افتراضية للسيناريو الثالث. ويمثل نجاح هذا السيناريو المرحلة الاولى في عملية التبلور الجيوسياسية والتي سوف تعمل على لفظ خبث كثير؛ لان طبيعة تكوين البلورات "الدول" جيوسياسيا لا يختلف عن تكوينها فيزيائيا وكيميائيا لأنها لا تقبل احلال عناصر خارجية او التصاقها او حتى امتصاصها.

ان قدرة اللاعبين الاقليميين الكبار من الدول وغير الدول؛ هي وحدها التي تحسم الصراعات من خلال امتلاكها امكانيات واستراتيجيات كل من الاحتواء والاستيعاب. اضافة الى قراءة ذكية للتقاطعات والتناقضات وكيفية المرور خلالها بطرق متعرجة او مستقيمة او التفافية؛ بتحويل الحالة من حالة ادارة الازمة الى حالة تبلور وتصلب لملء الفراغات السياسية والامنية والاقتصادية وعلى رأسها ملء الفراغ الاستراتيجي الذي يقود وبلا شك نحو الاستقرار التدريجي المتسارع؛ لأن من يملأ الفراغ الاستراتيجي في هذه اللحظة هو من يهيمن على المنطقة للقرن القادم