العدالة والتنمية التركي .. نضج سياسي وألعاب لافتة

بقلم: 

بعيد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية في تركيا في السابع من حزيران المنصرم ، وبعد أن ذهبت سكرة الفرح وذهول النتيجة عند أطراف العمل السياسي الفاعلة في تركيا ، بدأت مرحلة التحضير والاستعداد للانتخابات المبكرة التي يقرها الدستور التركي كخيار في حال الفشل في تشكيل الحكومة الانتقالية .

حزب العدالة والتنمية ، الحزب الأكبر في تركيا ، بدأ على الفور في قراءة أسباب وتداعيات عدم قدرته على تشكيل الحكومة بمفرده ، وبدأ على الفور باستنفار كل قيادته المؤثرة وقيادة الظل ووسائل الإعلام لديه مكتوبة ومرئية ومسموعة في حملة إعلامية مركزة تستند إلى التغذية الراجعة من مراكز الدراسات والأبحاث التي تابعت الانتخابات التشريعية الأخيرة ، معتمدا على نقاط الضعف الواردة فيها لتحويلها لمحاور مركزية في خطابه الجديد استعدادا للانتخابات التي هو في معمعانها.

ما لفت نظري في المسألة هو من أوراق القوة التي يمتلكها حزب العدالة والتنمية ، والتي بدأ باستخدامها لتشكل كل واحدة منها صدمة ومفاجأة للشارع التركي وتياراته السياسية .

ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة التركية زلزل المجتمع فعليا مع بدايات إعلان النتائج للانتخابات الماضية ، وشكل عبئا على المواطن الفرد انعكس في سعر المواد الأولية وارتفاع أسعارها في الأسواق ، إضافة إلى كونها رسالة قوية للتجار والاقتصاديين في تركيا ، بأن أي تلاعب في موازين السياسة سينعكس على الحالة الاقتصادية وسيؤثر عليهم جميعا ، وأن غياب العدالة والتنمية عن المشهد يعني تسونامي سيضرب الاقتصاد التركي من الألف إلى الياء .

ومن أبرز الألعاب السياسية التي اعتمدها الحزب بعد الانتخابات وفي غمرة تشكيل الحكومة الانتقالية : الضربة الكبيرة باستقطاب شخصية مركزية في حزب الحركة القومية بمكانة طغرل توركيش ابن ألب ارسلان مؤسس الحركة القومية ، فهذه كانت بمثابة ضربة قوية لحزب الحركة القومية ، وهو ما استتبع لجوء 250 من القيادات الوسطى في حزب الحركة القومية لحزب العدالة والتنمية على إثر ذلك ، لا سيما أنها كسرت تماسك الحزب القومي  ، إضافة إلى الإعلان القوي القاضي بتخلي 25 الف إنسان مرة واحدة من حزب الحركة القومية وبعض الشباب المستقلين عن توجهاتهم السابقة والتوجه إلى العدالة والتنمية نتيجة عدم إيمانهم بقدرة رئيس الحزب دولت باهتشلي على إدارة المرحلة الحالية سياسيا،. انسداد الأفق السياسي لديه .

أما بخصوص الحملة العسكرية على حزب العمال الكردستاني ، والحملة على أنصار تنظيم الدولة ، فكانت خطوة ذكية من حيث التوقيت وحشد الاصطفاف الشعبي نحو وجهة ما، ومع حملة الإعلام المركزة ضد الإرهاب سحب البساط من الحركة القومية في خطابها السياسي والشعبي التعبوي أمام أنصارها بداية فضلا عن المجتمع ، وهو الأمر ذاته الذي أوجد خطابا جديدا من حزب العدالة والتنمية أمام حزب الشعوب الديمقراطي ذو الأصول الكردية بأن أمام حزب العدالة والتنمية خيارات سياسية وعسكرية كثيرة للتعامل مع الملف الكردي عدا عن التوافق مع بعض ممثليه .

وإزاء هذه الحملة العلنية والعنيفة من جبال قنديل إلى شمال سوريا والعراق ، إلى المدن والولايات التركية ، بات حزب العدالة خيارا مفضلا لدى الأكراد الذين سئموا هيمنة حزب بي كاكا عليهم بقوة السلاح ، وأمام المترددين بشأن قوة وقدرة العدالة والتنمية على إدارة صراع عسكري ، وأمام المراهنين على الفجوة بين الحزب وبين الجيش، وأمام من يكره العنف والإرهاب الممتد منذ عقود في جنوب تركيا .

وإذا أضفنا لمعادلة أوراق القوة المستخدمة استخدام الحزب الملاحقة القانونية لخصومه في ملفات التجاوزات المالية وتبييض الأموال كما حدث مع مجموعة كوزا القابضة التابعة لجماعة الخدمة الموالية لفتح الله غولين في الولايات المتحدة ، فإن الحزب بذلك قد أفقد خصومه توازنهم السياسي في فترة حرجة ، وأفقدهم عددا من منابر التأثير الإعلامي والاقتصادي والتفاعلي مع المجتمع .

أما بخصوص الغريم التقليدي لحزب العدالة والتنمية والمتمثل في الحزب المعارض حزب الشعب الجمهوري ذو التوجهات العلمانية الصرفة ، فقد كان خروج رؤساء البلديات والوزراء والنواب والكتاب المستمر على شاشات التلفزة وبيان التوافقات السرية بينه وبين حزب الشعوب الديمقراطي الكردي يمثل ضربة قوية له ، لاسيما الملفات المصورة التي قام رئيس بلدية أنقرة مليح غوكتشه يكشفها في سلسلة إعلامية على أكثر من قناة تلفزية ، إضافة إلى حالة الإشغال الدائم لرئيس الحزب وقيادته بالملفات المتتابعة التي تفتح باستمرار في مجالات توجهات حزب العدالة ودراسات الرأي والبرامج الإعلامية التي تتطلب جيشا من الإعلاميين للرد عليها .

من الواضح أن شعور حزب العدالة والتنمية بمصيرية هذه الانتخابات وتداعياتها داخليا وخارجيا جعله يستنفر كبار وزراء الحكومة الحالية والوزراء السابقين والنواب المحبوبين شعبيا ومؤسسات إعلامه وقطاعاته الشبابية والنسائية بصورة غير مسبوقة ، وتعطي دلالة على قدرات الحزب وجاهزيته المسبقة للتعامل مع القضايا والمستجدات وفتح الخيارات في ساعات الصفر التي باتت كثيرة في المشهد السياسي برمته.