هل الاستغراب نداً للاستشراق ؟

بقلم: 

لعب الاستشراق ومازال يلعب دوراً بارزًا ومهما في رسم وتحديد العلاقة التي تجمع الغرب بالشرق. الغرب بصورته الكلاسيكية متمثلاً  بأوروبا وامريكا واما الشرق فمتكوناً بجغرافيا اقل اتساعاً من المفهوم،  متمثلاً بالاقطار العربية.

تمكن الاستشراق على طول امتداده الزمني من تشكيل افكار واستنتاجات مسبقة غير دقيقة عمداً او جهلاً عن شتى جوانب الحياة الشرقية من لغة، عادات اجتماعية، حضارة وغيره من  جوانب المجتمع الآخر الغير غربي. هذه المجموعة من الافكار اطلق عليها ادوارد سعيد “الانشاءات”.

تمكنت هذه الانشاءات من تشكيل نموذج لكل ما هو مختلف عن الغربي بجدلية صنعت وتصنع الكثير من تفاصيل الحضارة الغربية وتوضح الخطوط التي تفصل ماهو غير حضاري “شرقي خارجي” وبين ماهو حضاري متقدم اي “غربي داخلي”.

يطول الحديث عن الاستشراق بسهولة تضعنا خارج سياق موضوع المقالة والاسئلة التي يطرحها. هل الرد الامثل على هذه الانشاءات يتمثل بتكوين افكار وانشاءات مضادة عن الغرب نستخدمها جدلياً في اعادة العلاقة بين الشرق والغرب ؟ هل تلعب الفترة التاريخية الحالية دوراً في الاجابة ؟ هل لدينا مستغربيين قادرين على هذه المقارعة ؟ ماهي الخلفيات الفكرية لهؤلاء المستغربيين وهل هدفهم مشترك في الدفاع عن الشرق ؟

تعريف كلمة  “الند” وجمعها “انداد” حسب معجم المعاني الجامع هو المثل والنظير. اذا هل الاجابة على الاسئلة السابقة تُبقي المستغرب في موقع المثل او النظير او تنقله الى موقع اخر؟

تتحكم القوة والسلطة التي تتمتع فيها الدولة في القدرة على ترسيخ وتعميم الانشاءات والافكار التي يشكلها المستشرق ( وفي هذه المقارنة المستغرب). على سبيل المثال وليس الحصر، هنالك انشاء دارج بديهي في المشرق عامة والاقطار العربية خاصة مفاده ان الولايات المتحدة هي مصدر الويلات والحروب التي مرت بها المنطقة ومازالت، وقد اتفق ويتفق الكثيرون معي، ولكن هل  الدول العربية قادرة على ترسيخ هكذا انشاء وجعله واقع ملموس ؟ لماذا اذاً يتهافت الشباب ويأخذوا اول فرصة لهم للسفر هناك سواء للهجرة او للدراسة.

إن عدم قدرة هذه الدول على توفير مستقبل افضل ورؤيا واضحة للاجيال يجعل هكذا انشاء غير فعال وغير قادر على اعادة صياغة العلاقة بين الشرق والغرب. النقطة الثانية والتي تمثل صورة اوضح للخلل الذي يعاني منه الاستغراب الحالي هي عدم قدرة وتقبل المجتمعات الشرقية على الجدلية والنقاش البناء. فيستبدل تقبل الاخر ونقاش افكاره بانشاء سطحي جداً بعيد كل البعد عن الحقيقة والرؤيا الثاقبة.

فنرى المستغرب الذي ينتمي الى تيارات الاسلام السياسي يختصر كل ما في الغرب بوصفه كافراً وصليبي، انشاء لا يتعدى اي حدود متناسيا عمداً او جهلاً تاريخ الشرق وأَركيولوجيا الجزيرة العربية وبلاد الشام. اما بالنسبة الى المستغرب القومي، فيرى الغرب قوة استعمارية تهدف الى نسج المؤامرات المستمرة واللغاء افكاره البناءة والاتحادية، متناسيا ان القومية العربية كمن يبني سطح البيت قبل حفر الاساسات. واخيرا المستغرب الشيوعي الذي يرى الغرب كقوة رأسمالية همها الوحيد ظلم الفقراء وتوسيع الطبقية فينصب نفسه حامياً عن كل الفقراء ولكن ببرجوازية بالوريتارية.

ينسى المستغرب العربي للاسف ان الاستشراق نقل ادق التفاصيل للحضارة الشرقية وليس المجال في هذه المقالة لجدلية ان كانت هذه التفاصيل صحيحة ام لها اهداف اخرى. ولكن الصحيح المطلق انه في كتاب  "وصف مصر" لنابليون بونابرت و فريق ابحاثه كان يتكون من اكثر من عشرين مجلداً. فاين المجلدات في ما ذكر سابقاً ؟

اذاً الادوات والاساليب المتبعة في نقل صورة الغرب سواء كانت صورة صحيحة او مغلوطة هي ادوات غير مكتملة غير قادرة على تجاوز الخطوط الاولى في وصف حضارات الامم، ناهيك عن حالة التبعية للغرب في شتى المجالات مما يضع حملاً اضافيا عليها او بصورة اكثر دقة تصبح هذه الادوات ادوات بحث غير مستقلة وغير حرة، فلا تفيد الشرق او تنقل الغرب. الاساليب من ما ذكر سابقا من امثلة بسيطة تعبر عن حالة الضعف والخلل التي تصيب الاستغراب، اذاً هو انشاء لايمثل نداً لما قدمه الاستشراق من منفعة للمجتمع الغربي وان كانت منفعة ممنهجة على حساب الاخر.

المطلوب حالياً ان ينظر الى الغرب ليس كنظرة المذكورين سابقاً ولكن  بنظرة الثاقب العلمية والاستنتاجية القادرة على تمييز ما هو صحيح وما هو خاطىء، معتمدا على اساليب حديثة وقراءة معمقة غير ساذجة للتاريخ، اضف الى ذلك تعميم و ترسيخ ثقافة الجدلية والنقاش وتقبل الاخر الى قاموسنا المجتمعي من غير ذلك يبقى الاستغراب انشاءاً استشراقي يتحكم في مصائرنا.