التوجيهي ذروة نظام التربيط والتقليم.. إلى متى؟!

بقلم: 

مع عشيّة افتتاح كل عام دراسي، ترتفع وتيرة الحديث والجدل من قبل المجتمع الفلسطيني عمّا بات يعرف ب"كابوس" التوجيهي مطالبين المعنيين من مؤسسات تربوية وأكاديمية سواء كانت حكومية او غير حكومية العمل بجدية لاتخاذ اجراءات عملية وترجمة جميع التوصيات والتصورات وذلك لاعتبارات كثيرة سيتم بيانها بالتفصيل لاحقا في هذه المقالة. وتشتدّ الحالة سخونة عندما نقترب من بداية الامتحانات النهائية وتصل ذروة التداعيات عند الاعلان عن النتائج حيث تتم فرز الاعداد الضخمة التي تتقدم للامتحان اما التوجّه الى سوق العمل وبالتالي عمالة غير ماهرة او الى رفد الجامعات او لزيادة الاعداد المتبقية الى نسبة البطالة العالية اصلا في فلسطين. وتتكرّر هذه الحالة وارتداداتها كل عام كأنها طقوس غير عادية تمارسها العائلة الفلسطينية لتزيد من عبء الظروف القاسية التي تعيشها، وتوقعنا في حالة شبه عقيمة تمنعنا من سهولة الحركة الابداعية وتدفق الانتاج الفكري والمعرفي لتضاف الى العراقيل والتدابير والإجراءات الموضوعية التي تمارس علينا من قبل الاحتلال.

الحديث عن نظام القياس الوحيد والمصيري من قبل الشارع الفلسطيني ليس جديدا وحتما لا تعتبر هذه المقالة باكورة البحث والنقاش حول هذا النظام وربما سئم القلم من الكتابة في هذا المجال بحكم اتّساع الفجوة الكبيرة ما بين التشخيص والتطبيق. فعلى مدار سنين عديدة، تناول الكثير من الخبراء والنقّاد الموضوع من جوانب مختلفة وعلى رأسهم المخطّطون والتربويون في وزارة التربية والتعليم العالي باعتبارها الراعي الرئيس والرسمي المسئول عن العملية التربوية والتعليمية، وكذلك عقدت مؤسسات المجتمع المدني المعنية مباشرة بالتعليم والجامعات الفلسطينية والباحثون الاكاديميون العديد من المؤتمرات خرجت اما ببرنامج عمل من اجل تغيير الواقع التربوي او تقديم اوراق وتصورات قدّمتها الى الحكومة للنظر فيها وإقرارها. إلا انه ما زال الامر يتأرجح ما بين مؤيد ومعارض لدرجة انني اشبّه هذه الحالة بجهاز البندول الذي لا يرسو عل بر في ظل التواجد الدائم لمفاعيل المتغيرات وغياب ارادة التغيير والجرأة في اتخاذ القرار، فمنهم من طالب بتغيير بعض الاجراءات والأخر طالب بتحسين البيئة لهكذا نظام لتخفيف العبء النفسي على الطالب ومن حوله ومنهم من ذهب بعيدا الى حد الالغاء مع الخوض في تفاصيل البديل وفي الجهة المقابلة تطرق اخرون الى عدم امكانية التغيير راجعا ذلك الى عوامل موضوعية وذاتية متذرّعين بغياب البديل. ولكن عند انتهاء العام تعود الحالة الى الركود الى ان يبزغ عام جديد وتبقى الحالة المتأرجحة في ثبات رصين.

لقد تلقيت مؤخرا دعوة من شبكة الشرق الاوسط للابتكار في التعليم والتعلم، والتي افتخر انني عضو فيها، تتعلق في سعي الشبكة لإيجاد حالة من الحراك المتخصص والعميق حول نظام التوجيهي الحالي وذلك للخروج بورقة مفاهيمية تتضمن تصوّر مقترح لتطوير نظام التوجيهي. بصراحة الحديث، هذه الرسالة دفعتني لأساهم في التعبير كتابيا عن تصوري المتواضع لهذه الاداة التي اصبحت بمثابة همّ مزمن تتعايش معه نسبة كبيرة من الاسر الفلسطينية تجبرهم على التعاطي مع متطلبات النظام الى درجة ينصرف البعض الى اعلان حالة الطوارئ في المنزل وعدم اطلاق اية صفارات ازعاج  طالما هناك طالب/ة يخوض غمار التوجيهي.

ولتسهيل عملية وضع التصورات على امل ان تترجم لاحقا الى اجراءات عملية تكون بمثابة خطة عمل تنفيذية،  تضمّنت رسالة الشبكة مجموعة من الاسئلة توزعت على قضايا تتعلق بواقع التوجيهي وإمكانية تطويره وعمل دراسة مقارنة مع الانظمة المعمول بها اقليميا وأخيرا كيفية ايجاد نظام يرتبط باحتياجات فلسطين. ولأنني لا ارغب في المشي على السكة كما يقال، ومن اجل تسهيل عملية العبور، ارتأيت دق جدران الخزان الاربعة عبر هذه المقالة مفضّلا ذلك عن تقديم ورقة تتحدث عن قضية محددة ووضعت اربعة اسئلة مستوحاة من الواقع المعاش اعتقدت انها ستعبّر عن الحالة مستفيدا من البحوث والمقالات التي تحدثت عن التوجيهي من قبل الخبراء والمعنيين وكذلك من مسيرة اكثر من عشرين عاما من الخبرة المتراكمة كمعلّم للتوجيهي اولا والإشراف المباشر بحكم الوظيفة عن سير بقية مواد النظام والتعامل المباشر مع اداء المعلمين والطلبة معا من جهة ثانية.
أود التنويه هنا بان الهدف من هذه المقالة يتمركز حول ترجيح كفة تحويل السياسات الى اجراءات عملية لتساهم الى الانتقال سريعا الى الجهة الاخرى من ارض الابداع قبل ان يفوتنا القارب حيث تكون عملية اللحاق شبه مستحيلة.

تتمثل زوايا الجدران فيما يلي:
1. أي نوع من الطلبة يخرّج لنا هذا النظام؟
2. هل هناك جدوى وفاعلية من اية عملية تجميل لنظام التوجيهي؟
3. لماذا يعتبر، في نظر البعض، التوجيهي الابن الشرعي لنظام التعليم؟
4. ماذا نريد من النظام التعليمي في فلسطين؟ وكيف له ان يحقّق طموحات وكفايات الشعب الفلسطيني؟

1. أي نوع من الطلبة يخرّج لنا هذا النظام؟
مستفيضا بتغذية راجعة من زملائي وزميلاتي في العمل ومستندا الى العديد من اراء الطلبة الذين "حصدوا" معدلات عالية وممن لم يحالفهم الحظ في تخطي نسبة النجاح في التوجيهي، فإنني ارى ان هذا القياس ما هو إلا انعكاس ومخرج طبيعي لنظام التعليم المتّبع في فلسطين. لنبدأ بإلقاء الضوء على بعض المؤشرات اولها يتعلق بردّة الفعل الطبيعية للطلبة عندما    سُئلوا عن رأيهم في التوجيهي، تعبّر نسبة كبيرة منهم وبعفوية تامة عن حالتهم قائلين: " التوجيهي نظام عقيم لا يوجد مساحة للتفكير بل البصم ثم البصم" وآخرون قالوا متذمرين: "وظيفتنا فقط تقديم امتحانات أي ماكينات تذكّر... ساق الله نخلّص منّه.. اففففه". لكن البعض الاخر يقول وهم ليسوا بكثر: " بالعكس هذا نظام جيد يساعد الطالب على ان يكون مستعد ويقيس قدرته وذكاءه" اما زملائي المعلمّون والمعلّمات فكان رأي قسم كبير منهم يتمثل بأننا فقط نجهّز طلبتنا لان يكونوا مستعدين ليحصلوا على علامات عالية دون الالتفات الى مدى تفعيل المهارات ولا حتى التركيز على الاتجاهات والقيم، اصلا ليس هناك داع لذلك طالما لا يتم الامتحان به والقياس عليه، فعلى سبيل المثال لا الحصر لنأخذ اللغة الانجليزية كمؤشر، فنحن نخرّج طلبة لا يمارسون اللغة اطلاقا بل يتعلمون بعض المفردات والمفاهيم والقواعد لا تخدمهم في التعبير عن انفسهم اما كتابة او شفهيا فهم يبصمون الاسئلة والأجوبة وحتى موضوع الانشاء فهم يستعدّون له ايضا ويحضرّونه للامتحان. وعندما نأتي الى المواد العلمية كالرياضيات والعلوم، فالوضع يزداد سوءا ومرارة  حيث يتم تجزين المعادلات دون اعطاء مساحة للتفكير والتحليل. ومن خلال دراسة نتائج التوجهات الدولية في الرياضيات والعلوم لعام 2011 (TIMSSتبين أن فلسطين جاءت بالمرتبة الـ 36 تنازليا من أصل 46 في الرياضيات و34 في العلوم .

وهذه النتائج تضع فلسطين في صف الدول العشر الأقل تحصيلا في الرياضيات من الدول المشاركة (IFA, 2011). وتصل قمة التردي والخطورة عندما نتحدث عن 40% من طلبة الصفوف الاساسية لا يجيدون القراءة والكتابة في مبحث اللغة العربية  (عفونة، 2011). وإذا ما التفتنا قليلا الى مخرجات التعليم العالي ففنهاك التشوه الحقيقي لمفهوم التعليم حيث يعتبر العديد في المجتمع الفلسطيني الجامعة بمثابة مصهنعا للشهادات او مؤسسة للتدريب فقط (الهندي، 2013) ارى ان المعضلة تكمن في النظام نفسه فهذه الممارسات ما هي إلا ادوات لصنع القوالب وبالتالي تخريج طلبة،عفوا اشياء تعمل ضمن نظام تشغيل في اللحظة التي يطلب منه اخراج المعلومة يعمل ونكافئ من تتصف به دقة الاخراج والدرجة العالية الى حد اللامتناهية من التذكر بالتهنئة والمجاملات في الجريدة وعمل الحفلات وإطلاق الالعاب النارية وتوفير نظام المنح للعشر الاوائل ناهيك عن افتخار الاهل اينما تواجدوا بانجاز ابنائهم.

اذن ما نراه ونرسخّه حتى كتابة هذه المقالة ما هو إلا تعميق لمفهوم النظام البنكي وبالأسلوب الجامد (Freire, 1970) والذي يقولب الطلبة ويمسخهم ماكنيات حفظ ومستودعات تخزين مطالبين فقط باستخراج ما يطلب منهم على شاكلة امتحان عقيم بعيدين كل البعد عن عناصر الاتجاهات والقيم ومهارات الحياة المختلفة والتي تساعدهم في تحويل تلك المعلومات الى معرفة من جهة وتخرّج لنا افواجا متسلحين بمنظومة قيمية تساهم في بناء مجتمع مدني وحضاري من جهة ثانية.

اعذروني على صياغة فكرتي هنا بتصوير الواقع كما يلي: ففي اللحظة التي يخطو الطفل اولى خطواته عبر بوابة  المدرسة المحصنّة كالقلاع والمعزولة عن المجتمع فإننا نضعه في ماكنة القولبة والتي تتمثل في المنهاج بجميع مكوناته حيث تبدأ جميع شفرات النظام بالعمل فورا من اجل تقليم شخصية ذلك الطفل لتجعله يتناسق تماما مع مدخلات النظام ولا مجال هنا للانحراف حيث ان الجميع حريص على هذه المهمة. اولى تلك الشفرات تتجلّى مع تدخلّ المدير/ة لعرض عضلاته السلطوية على هذا المخلوق النحيف الضعيف وبعدها يسلّمه الى حرسه الخاص للتأكد على مدار اكثر من 5-6 ساعات في اليوم لتحويل سلوك الطفل الى ماكنة ناطقة تعمل فقط ببرمجة معينة لاغيا ملكة التساؤل وطرح الاسئلة وعنصر الشغف في استكشاف الاشياء والمفاهيم بطريقته الخاصة. وللكتاب قصة اخرى مثيرة ومحيّرة تجعل الطفل ينمو ضمن سياق مخطط له كأنها سكة حديد لا يمكن ان يخطو خطواته كيفما يشاء ومتى يشاء فعليه ادراك الكثير الكثير وحتى تخزين الماضي والحاضر مما يعكس قصورا واضحا في عكس اهداف المنهاج وبالتالي التأثير السلبي على امكانية تحقيق الاهداف المرجوة (الجرباوي، 2008) مع اعتبار ان الاهل يشتركون في ترسيخ وإمضاء شفرات التقليم وتمتين حبال التربيط. وتمرّ الايام وتنطوي السنيين وما يزال ذاك الطفل يمارس نفس السلوك ويراكم نفس الخبرات ويجتر العديد من المعلومات والمفردات معظمها ليست لها علاقة به حتى يصل الى نهاية النفق الاكاديمي حيث عليه ان يمر من البوابة الفولاذية الوحيدة للخروج من فلك هذا النظام الحصين ضامنين عدم الفلتان من الاثر الذي وقع عليه. احدى الاشارات الهامة التي نلاحظها مع نهاية تقديم الامتحان مباشرة تتجلى في السلوك العفوي عندما يبادر معظم الطلبة ان لم يكن جلّهم بتمزيق الكتب والدفاتر معلنين رفضهم العفوي لحجم الضغط والعبء النفسي الذي وقع على كاهلهم ووصل ذروته في عامهم الاخير.

تأسيسا على ما سبق، نصنّف علاقة الطالب بالعملية التعليمية بحالة عداء تستحيل ان تكون حاضنة للإبداع والتميز ذات بيئة صحية امنة وعليه الاستفادة تكون متدنية لا بل معدومة عندما نقارن مخرجاتها بالأهداف المرجوة من التعليم لقادة القرن الواحد والعشرين.
إذن، حتما يكاد يكون المتعلم خاليا من المهارات المطلوبة للانخراط في عالم يتصف بالتنافسية العالية جدا وأداؤه متدنيا في التعامل مع الاخر والاتصّال به، ومقيّدا بمنظومة لا ولن تساعده في المساهمة في الانتاج الفكري والتعبير عن رأيه بحرية ولا يتمتع باتجاهات وقيم تساهم في بناء شخصيته وتكامل رأيه وانسجامه مع ذاته.

استنتج ولم يكن ذلك صعبا علي بان المتّبع حاليا من انظمة وإجراءات ومنهجيات ومضامين وأداء وكفاءة لا تولّد سوى طلبة بمواصفات تؤّهلهم فقط ليكونوا غير قادرين على مواكبة التطور المعرفي والتكنولوجي ويشكلّون عبئا على الاقتصاد المحلي ويعانون من الاغتراب المعرفي ان جاز التعبير وكما ذكر د. ذوقان عبيدات في دراسته بان المناهج سردية وتقاس المعلومات بالامتحان وبالتالي من الطبيعي ان نتوقع ماذا يحدث وماذا ينتج: معلم يشرح ويفسر وطالب يدرس ويحفظ ووزارة تمتحن فتنجح او ترسب (عبيدات، 2015) مع التأكيد، وليس مجاملة، على ثلاثة مسائل أولها، انني فخور بما تم انجازه على صعيد تطوير التعليم رغم جميع التحديات الموضوعية والتي تتعلق بالاحتلال والعوامل الذاتية التي لا تساعد على الاسراع في عملية التطور. وان الوزارة تبنّت في خطتها الاستراتيجية الثالثة 2014/2019 التعليم التفاعلي حيث يكون الطالب محور العملية التعلمية والنقطة الثالثة ولا تقلّ اهمية بان هؤلاء الطلبة اذا ما تعرّضوا الى منظومة مختلفة ينافسون ليس فقط على المستوى الاقليمي لا بل والدولي ايضا.

2.  هل هناك جدوى وفاعلية من اية عملية تجميل لهذا النظام؟
تحت وطأة الضغط العام والمتراكم منذ عقود، فقد استوعب من يتحفّظ على تغيير النظام فتح نقاش بعض التحسينات هنا وهناك لم تصل الى حد التبني بعد، فقد اقترح البعض ان تمتد مدة التوجيهي الى عامين والبعض الاخر طالب بنظام الفصلين والأخر اقترح تعديل بعض المواد كما حصل مع مادة اللغة الانجليزية هذا العام 2015/2016 واحتساب او الغاء مواد اخرى وكأنّ المشكلة بنظرهم تتمثّل في التوجيهي فقط والية تنفيذه. لننظر الى ردة فعل الطلبة والتي عبرت عن رفضها واستيائها من هكذا تعديل مما اضطرت الوزارة وبعد مرور اقل من 3 اشهر على بداية الدوام من اصدار كتاب يتم فيه حذف وتخفيف من المواد المقررة لمبحث الانجليزي.

لا اميل اعتباطا لفكرة عدم جدوى عمليات التجميل لنظام اكل الدهر عليه وشرب وبالتالي لا جدوى لهكذا تجميل حتى لو تم استخدام افضل وأحدث الادوات، فمن الناحية النظرية ما زال هذا النظام مغيّب تماما عن الاهداف التي تبنتها الوزارة في خطتها الاستراتيجية (2014-2019) (MoEHE, 2014) فهذه الاداة قد دخلت في حالة غيبوبة وصلت مرحلة الموت السريري.  اية عملية تحسين على المنهاج يضع الوزارة في حالة تخبط تجعلهم يعدلون عن قراراتهم كما حصل في مادة التكنولوجيا وغيرها من القرارات المتسرعة.

وهنا يتولّد لدي السؤال التالي: لماذا التشبّث بها؟؟ 
لماذا نحن مصرّون على عدم المس بالمدخلات منذ بداية العملية التعلمية وعدم الاخذ بتقييم الأداء؟ ان ادخال اية عملية تجميل لا تتطرق الى النتائج كأساس للتطوير او التغيير لا يمكن ان يكتب لها النجاح اذ اننا نعالج الحالة بنفس الادوات وبنفس المنهجية وبنفس العقلية دون التطرق الى التمركز حول النتائج والإدارة. ولماذا ايضا التمركز حول معالجة التوجيهي بمعزل عن جميع المراحل الاخرى؟ لا يعقل ان تقطف عنبا من شجرة تفاح!!! فما يتم زراعته من بذور يتم حصده في المستقبل.

ان عملية التجميل تشبه الى حد كبير كمن يقصّ الزؤان في الحقل دون اجتثاث جذوره وهنا يختلط الحابل بالنابل فتتشوه المخرجات رغم حرصنا البريء على العملية التعليمية برمّتها. كيف يمكن لنا ان نستهجن ما ينتج عن التوجيهي ونحن نزرع الزؤان معه منذ ان تطأ قدما الطفل ابواب القلعة؟ لا يمكن تفادي تلك المخرجات دون معالجة جذور ومفاعيل العملية التعلمية.

لا بدّ من اعادة الاعتبار الى عناصر الدهشة والتأمل والشغف والعلاقية والقيم كمنظومة متكاملة غير مجزأة  كأساس لنظام التربّي والتعلم التفاعلي كما صنفه خليل السكاكيني وبالتالي اداة القياس الحالية ليس لها ان تستوعب تلك المفاعيل بحكم ان فاقد الشيء لا يعطيه. جلّ ما انادي به ليس تغيير الاسم فحسب، فإذا اردتم الابقاء على الاسم فليكن، ولكنني اطمح في نظام مخرجاته تتسق تماما مع متغيرات العصر وحاجات الافراد ومتطلبات المجتمع الفلسطيني ومتناغما مع الاخرين باعتبارنا لاعبين اصيلين في هذا العالم.

3. لماذا يعتبر، في نظر البعض، التوجيهي الابن الشرعي لنظام التعليم؟
كثرت الدراسات والبحوث والمقالات حول امكانية عمل شيء ما في هذا النظام فمنها ما كان عميقا ومقنعا على كلا الجانبين. ويؤكد الدكتور سامي الكيلاني عميد كلية العلوم التربوية في جامعة النجاح على اهمية التحاور والتناظر حول تعديل نظام التوجيهي بمشاركة جميع الفعاليات التربوية والمجتمعية (النجاح ج.، 2012). فالمؤيدون بررّوا بحتمية مواكبة العصر والسعي لإدخال المعلومات الضرورية وتغيير بعض الاوزان في عملية القياس. وعبّر الدكتور بصري صالح الوكيل المساعد في وزارة التربية والتعليم العالي عن رؤيته لعملية التغيير حيث ذهب بعيدا مستهدفا نظام الدراسة الثانوية وأهمية تطعيم برامج اضافية وتنويع الخيارات في النظام (النجاح، 2012) ومن هنا نستنج بان قطبا رئيسا في اروقة الوزارة يتجه الى تبني سياسات التغيير والإصلاح والانتقال الى نظام يعيد النظر في المنهاج حسب قول صالح وحتى طرق التفكير.

لكن من جانب آخر فقد نفت الدكتورة خولة الشخشير وزيرة التربية والتعليم سابقا ان يكون هناك أي تغيير على نظام التوجيهي مبررة ذلك بأنه متطلب وطني وأساسي للتقدم للدراسة العليا فهو مقياس معترف به دوليا، ونتيجة لضعف الامكانات المادية وان البدائل التي سبقتها بعض الدول العربية كانت نتائجها سلبية (الشخشير، 2015). يدلل هذا التصريح من اعلى المستويات ايضا بان بعض النخبة في سلك التعليم ما زال يعتقد جازما بأهمية النظام وان الخوض في تفاصيل تغييره ما هو ألا امر خطير اذ لا يعقل ان تناقش الامور دون طرح البديل.

تشهد الاعوام الاخيرة اصوات تتصاعد وبوتيرة عالية تطالب بتغيير نظام التوجيهي لأسباب معروفة للجميع وأهمها عدم ملائمة مخرجات النظام مع التغييرات الكبيرة التي تجري في جميع انحاء العالم ولعدم تلبية مخرجاته مع المتطلبات التنموية للخروج باقتصاد منتج وبالخروج بمجتمع يعتمد في حياته على قيم انسانية ونظام سياسي واجتماعي يوفر حياة كريمة لإفراده.

وهنا نطرح السؤال التالي: هل نحن حقيقة نعتبر هذا التوجيهي ابنا شرعيا للنظام التربوي والتعليمي؟ ان تشبث المؤيدين او الداعيين لبقاء الوضع القائم هو فقط الذي جعلني اصنف التوجيهي كابن شرعي اذ لا يعقل ان يتخلى الاب عن ابنه في هذا الزمن. تركّز جميع الابحاث والمقولات التي تنادي بنسف التوجيهي على عدم الموائمة ولا يلبّي معايير الجودة ولا يشجع على الابداع والإنتاج الفكري ولا يعتمد إلا على التلقين مهملا معظم مهارات الحياة وأهمها التفكير الناقد والنهج التحرري وبالتالي لا يساهم بتاتا في تحرر الفرد وخلاصة القول بان التوجيهي فقد كل مقومات الشرعية والكيميائية المزعومة وحتى الارتباطات بما ينتمي اليه ولا توجد فيه روح الدهشة والتي تمثل مفتاح البحث وإيجاد المفقود وتلبية الحاجة وتعزيز الكفاية.

سأقولها لمن يرى في هذا النظام مبررا للالغاء بأنني مع عدم الغاء التوجيهي فيما يتعلق بكونه اداء عامة وطنية تقيس قدرات الطالب وتحثّه على البحث وتدعم اتجاهاته وميوله وقدراته لكنني ارفض وبشدة طريقة تعاطينا مع التغيير كما ذكرت سابقا فانا لا ارى التغيير في جزئية التوجيهي ولا حتى بعمليات التجميل بل يتعدى ذلك ليشمل جميع مراحل النظام برمّته. لا يعقل ان ارى نظام القياس فقط كأنه نظام قياس لتعطي مؤشر فقط عن كمية المعلومات التي تم تخزينها ولا ارى اية مساحة لقياس المهارات وحجم ممارستها ما بين الفئة المستهدفة ولا ارى ايضا مساحة للحديث عن الاتجاهات والقيم وممارستها يوميا اذ لا يمكن لي ان ارى المدرسة مستودعا فقط لتخزين المعلومات وإنما بيئة فاعلة توفر الكثير للطفل لينمو وتجعله يشعر بذاته وتعزز قدراته ويكتمل نمو معرفته وشخصيته في هذا المكان الدافئ الحاضن لجميع الفوارق الفردية. اذا ما كان كل ما سبق ذكره مفقودا منذ اللحظة الاولى من حالة التعليم، فلماذا التمسّك بفكرة الابن الشرعي اذن؟

4. ماذا نريد من النظام التعليمي في فلسطين؟ وكيف له ان يحقّق طموحات وكفايات الشعب الفلسطيني؟
لا يمكن لنا ان نرى المدرسة سوى كما قال خليل السكاكيني عنها مكانا للتربي والتعلّم وليس للتربية والتعليم وحتى هذا التصنيف لم يعد ينطبق على الوضع الحالي لهذا النظام اذ اراه خليّة للتربيط والتقليم اثبتت الاعوام المنصرمة عدم نجاعته على كثير من المستويات. هناك امر يحيّرني مصقول في ثقافتنا يتمثل في تحمّل سنين كثيرة من اجل تجريب نظام او تقييم برنامج او حتى اجندة وطنية. لنعط لأنفسنا وقتا كافيا لكنّه محددا من اجل ان تنضج عملية التقييم والتجريب وليس الانتظار لإشعار اخر حتى يتم التحقق من اثرها.  
ببساطة القول رغم تعقيد الترجمة، ولسهولة العمل رغم ضعف الإمكانات وكثرة التحديات، ولتعظيم الاثر رغم وجود مفاعيل عديدة، ما نبتغيه من نظام التعليم ينعكس في الاتي:
نريد نظاما لا يقف سدا للتدفق الفكري،
نريده مستودعا للتحرر العقلي مغمسا بالحس الوطني وامتدادا للبعد العربي والعالمي.
نريده ايضا موجّها لتعددية الخيارات وتوجيهيا للاختيار،
نريده صيرورة تنبعث منها رائحة القيادة والبحث والابتكار،
نريد نظاما يعيد بناء المنظومة القيمية والوطنية والأخلاقية والإنسانية،
نريده نافذة على العالم ومنافسا لرفقائهم في مدارس الابداع،
نريد نظام تم استيفاء جميع متطلبات الانتقال من مرحلة دش المعلومات الى إعمال العقل وصنع الافكار،
نريده نظاما جامعا يصبح الطفل فيه محور العملية التعلمية وصانع قرار،
ما نريده يجب ان يزيد من منسوب الوعي الاجتماعي والثقافي والمعرفي والسياسي وإكساب المتعلّم قيما وأفكارا وتصورات واتجاهات يستطيع من خلالها بلورة وعيه وتؤهله لان يكون مشاركا ومبادرا ومنتجا ومساهما في بناء الانتاج الفكري والمعرفي ليس فقط على الصعيد المحلي بل يتعدى ذلك حدود الوطن.
وكما قال وزير التربية الحالي د. صبري صيدم نريد اسقاط النظام القائم اذ ان الشجرة التي لا تثمر حلالا قطعها واستبدالها بنبتة محسنة تهيئ الفرص وتعرّض جميع عناصر التعلم ليكونوا ممتلكين لأدوات حديثة تمكنهم من احداث الاختلاف الجذري لنصل الى التنمية الشاملة لشعب يستحق نوعية التعليم.
وعليه، ومن خلال تقسيم سنوات التعليم الى ثلاثة مراحل، اقدّم تصّور عملي لا يمكن تجزئته ويعتبر بمثابة خارطة طريق مدتها فقط اربعة سنوات للوصول الى ما نريد من النظام المذكور اعلاه:

 في العام الأول: 2015/2016
o التصور ذات بعدين
 مستوى السياسات
o اقرار ومصادقة على نسبة 22 % كحد ادنى من الموازنة العامة للحكومة تكرّس للتعليم
o اقرار ومصادقة على اعلى المستويات السياسية لرفع وضع المعلمين ماديا ومعنويا.
o اقرار ومصادقة على مرحلة ما قبل المدرسة لتشمل اعمار (4-5) لما لها من اثار ايجابية على الطفل وكذلك فرصة للكشف المبكر على جميع حالات الاعاقة وذوي الحاجات الخاصة يسهل تتبعها لتصبح مرحلة اصيلة من مراحل التعليم بإشراف الوزارة.
o تشكيل لجنة عليا لمراجعة المنهاج اعضاؤها خليط من الخبراء ما بين الاطار الرسمي وغير الرسمي وممثلون من المجتمع المدني ومن طاقم المعلمين والطلبة ضمن معايير تحدد لاحقا على ان تقتصر عملية المراجعة والإصلاح على المرحلة الاساسية الدنيا فقط (1-4).
o تصميم نظام اوزان يحتوي العديد من العناصر في تقييم اداء الطلبة وليس الاعتماد على الامتحان فقط.
o عقد مؤتمرات وورشات عمل في مجالات مختلفة من قبل الاطراف المعنية في اصلاح التعليم لتقديم تصورات تقدم الى اللجنة في مواعيد محددة لدراستها ومن ثم دمج ما له علاقة مباشرة في التطوير والإصلاح.
o تضمين المنهاج الجديد ثلاثة ابعاد رئيسية وهي المعرفة والاتجاهات والقيم والمهارات بحيث يتم اعادة توزيع نسبة التركيز بطريقة متساوية ما بين المرتكزات الثلاث مستندين الى برامج التأهيل.
o الخروج بمنهاج للمرحلة الاساسية الدنيا(1-4) يتبعه مباشرة دليل للمشرفين الميدانيين
 مستوى التنفيذ
o تطوير وتأهيل جميع معلمي /ات تلك المرحلة من اجل تطبيق التعليم التفاعلي وتطبيق النهج التشاركي بدلا من توطينهما فقط في الخطة الاستراتيجية للوزارة.
o عقد ورشات عمل شهرية من قبل المشرفين الميدانيين للتحقق من سير عملية التأهيل ضمن الخطة الجديدة
o مراجعة ربعية من قبل المشرفين عن سير عملية التأهيل وتقديم تغذية راجعة للجنة العليا.

 في العام الثاني: 2016/2017
o البدء بتطبيق المنهاج الجديد للمرحلة الاساسية (1-4) من قبل المعلمين/ات.
o مراجعة شهرية لسير العملية من قبل المشرفين الميدانين وتقدم تقارير تقييمية للجنة العليا.
o مراجعة منهاج مرحلة الصفوف من (5-8) والخروج بمنهاج لتلك المرحلة يتبعه مباشرة دليل للمشرفين الميدانيين مهّمتهم الرئيسة بعد تدريبهم ما يلي:
 تطوير وتأهيل جميع معلمي /ات تلك المرحلة من اجل تطبيق التعليم التفاعلي وتطبيق النهج التشاركي بدلا من توطينهما فقط في الخطة الاستراتيجية للوزارة.
 عقد ورشات عمل شهرية من قبل المشرفين الميدانيين للتحقق من سير عملية التأهيل ضمن الخطة الجديدة

 في العام الثالث: 2017/2018
o البدء بتطبيق المنهاج الجديد للمرحلة الاساسية (5-8) من قبل المعلمين/ات.
o مراجعة شهرية لسير العملية من قبل المشرفين الميدانين وتقدم تقارير تقييمية للجنة العليا.
o مراجعة منهاج مرحلة الصفوف من (9-12) والخروج بمنهاج لتلك المرحلة يتضمن بعض المواد والأدوات التي تساعد في الانتقال الى منهاج المرحلة الثانوية ذو الاختيارات المتعددة يتبعه مباشرة دليل للمشرفين الميدانيين مهّمتهم الرئيسة بعد تدريبهم ما يلي:
 تطوير وتأهيل جميع معلمي /ات تلك المرحلة من اجل تطبيق التعليم التفاعلي وتطبيق النهج التشاركي بدلا من توطينهما فقط في الخطة الاستراتيجية للوزارة.
 عقد ورشات عمل شهرية من قبل المشرفين الميدانيين للتحقق من سير عملية التأهيل ضمن الخطة الجديدة.

 في العام الرابع: 2018/2019
o البدء بتطبيق المنهاج الجديد للمرحلة الاساسية (9-12) من قبل المعلمين/ات.
o مراجعة شهرية لسير العملية من قبل المشرفين الميدانين وتقدم تقارير تقييمية للجنة العليا.
o يتميز هذا المنهاج بتعدد الخيارات والاختيارات.
o مراجعة نقدية شاملة لجميع المراحل.

امل ان تكون قد ساهمت هذه الورقة في القاء الضوء على الحالة العامة لنظام التعليم في المدارس الفلسطينية وكذلك التوقف عند مجموعة من التصورات المقترحة تسترشد يها اللجنة العليا لمراجعة وإصلاح المنهاج للولوج الى التحوّل المنشود نحو نظام تربوي شامل يبدأ من مرحلة ما قبل المدرسة وينتهي بنظام قياس لا يهمني ما نسمّيه وإنما يعمل على خلخلة ومن ثم هدم التربيط والتقليم المرتبط بشكل عضوي في اذرع النظام ليبدأ بعدها مشوار بناء الفرد محمّلا في طياته جل ما يحتاجه من اجل حياة مستقرة متحررة من نير الاحتلال وعصرية قابلة للتعايش والانخراط مع من وما حوله وطنيا وإقليميا وعالميا.

المراجع:

References:

 Affounah, Saida. (2011), 40% of Fourth Graders in the Palestinian Schools are not Good at Writing and Compute. Sama Media.
 Hindi, Khalil. (2013), The Dilemma of the Higher Education in Palestine. Birzeit University Blogs
 Freire, Paulo. (1970), Pedagogy of the Oppressed. New York. Continuum
 Jarbawi, Tafeeda. Nakhleh, Khalil. (2008). Empowering Future Generations; Palestinian Education Under Oppressive Conditions. Muwatin –The Palestinian Institute for the Study of Democracy. Ramallah.
 Obaydat, Thuqan. (2015). Analytic Study: ISISISM in the Textbooks and Curriculum. Al-Ghad Al-Urduni, Jordan.
 The Ministry of Education & Higher Education. (2014). Palestine Strategic Plan 201-2019. Ramallah.
http://timssandpirls.bc.edu
www.mohe.gov.ps
 An-Najah University. (2012). The University organizes an open seminar on Tawjihi. Nablus.
 Dunia Al-Watan. (2015). No Change on Tawjihi System 2015-2016. Ramallah.