السلطة انهيار أم إسقاط

بقلم: 

منذ بداية تأسيس السلطة الفلسطينية كان البعض يتنبأ بسقوطها، والبعض الآخر ¬ وهو السائد آنذاك ¬ يرى أنها المحطة الأخيرة في الطريق إلى تحقيق الدولة، وبعض قليل صار فيما بعد أغلبية، اعتبرها مشروًعا إسرائيلًيا دولًيا لتمرير تسوية تجحف بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. وظل هذا الجدل محتدًما على صعيد المساجلات والحوارات النظرية، إلا أن إجماًعا نشأ على ضرورة الحفاظ عليها والاستفادة من وجودها، وكان ذلك حين قررت حركة حماس الدخول إلى مؤسساتها الرئيسية من خلال الانتخابات التشريعية.
وقد انتقل الجدل حول السلطة إلى عناوين أخرى.. مثل هل تكون أداة للمقاومة بشتى أشكالها بما في ذلك المسلحة منها؟ أم إنها ومن خلال التنسيق الأمني ستقوم بوظيفة الرادع للمقاومة جرًيا وراء مفاوضات بدت كما لو أنها غطاء لسياسة إسرائيلية هدفها المباشر تعزيز قبضتها على الناس والأرض فيماُسمي تكريس الأمر الواقع.
ولقد أفضى هذا الجدل الفلسطيني إلى خلاصة غريبة بعض الشيء، وهي إلى جانب إجماع الأمر الواقع بالتمسك بها ظهر إجماع بالتشكيك في جدواها فسادت مصطلحات من نوع سلطة بلا سلطة بالمقارنة مع وظائف الدولة الحقيقية، ثم مصطلح تسليم مفاتيحها إلى إسرائيل كي تتحمل الدولة العبرية مسؤولياتها تجاه الملايين الفلسطينية بوصفها دولة احتلال . ولكّن ظاهرة الإجماع على قبولها والإجماع على التشكيك فيها أبعدت عن الواقع المعيش جزًءا مهًما من الجمهور الفلسطيني عن الرهان عليها، وتزعزعت العلاقة بين مؤسسات السلطة والمواطنين الفلسطينيين في الضفة وغزة، وصار الحديث عن سلطة كمحطة أخيرة نحو الدولة مجرد أضغاث أوهام. 
في قراءتي لوصف حماس وفتح للسلطة، وتهديد جماعة رام الله بحلها أو تسليم مفاتيحها لإسرائيل، لم أشعر بأن في هذه الأقوال قدًرا مقلًقا من الجدية والمصداقية، بل إنها كانت في سياق ما يحيط بها من أحداث مجرد مناورات للضغط، إما للإسراع في تسليم مستحقات مالية محتجزة، وإما لخلق أسباب موجبة لاستئناف المفاوضات أو لتذكير إسرائيل بصعوبة الوضع في الضفة الغربية إذا استيقظت يوًما لترى شعًبا مجاوًرا ومتداخلاً معها بلا مرجعية تتحدث باسمه، وكانت إسرائيل فيما يبدو تعرف كم تنطوي الأقوال على مناورة بعيدة عن الجدية، لهذا كانت تصم آذانها عن كل ما تسمع ولا تتوقف ولو للحظة واحدة عن برامجها تجاه الفلسطينيين، وحتى لم تكن لتخفف عقوباتها على السلطة والناس، غير أن أموًرا جديدة تبعث على القلق، وهي أن إسرائيل هذه المرة هي من يتحدث عن احتمالات قوية لانهيار السلطة، ولم يقتصر الأمر عند الحديث، بل إنها عقدت عدة اجتماعات على أعلى المستويات لبحث احتمال الانهيار ووضع الترتيبات الإسرائيلية لمعالجة ما ينجم عنه
. ولقد أكثرت إسرائيل من الحديث عن الاحتمالات المتوقعة، مركزة على أن انهيار السلطة قد يتم على المدى القريب، مستفيدة من خبرُسّرب وتم نفيه من قبل السلطة حول الحالة الصحية للرئيس محمود عباس مما أثار شهية كثيرين لربط هذا الخبر بانعكاساته على واقع السلطة ووراثة الحكم فيها.

إن إثارة موضوع انهيار السلطة من قبل إسرائيل لا يمكن النظر إليه من زاوية محايدة أو موضوعية؛ ذلك أن إسرائيل وفي عهد نتنياهو بالذات، تريد سلطة فلسطينية تعمل بالحد الأقصى لمصلحة الأمن الإسرائيلي، وبالمقابل وفي نفس الوقت تعمل بالحد الأدنى من مقومات السلطة الحقيقية التي يمكن أن تفضي إلى دولة حقيقية، ولأن إسرائيل أكثرت من الشكوى على ما تصفه بتقصير السلطة الفلسطينية في حفظ الأمن لها، وعدم القيام بأي جهد لوقف أعمال الطعن والدهس المستمرة في مدن الضفة، والتي امتدت إلى داخل إسرائيل، فإنها والحالة هذه لا تطلق آراًء أكاديمية في أمر مصير السلطة، بل إنها ستضاعف أعمالها لضغط السلطة تحت أسقف الحد الأدنى، أي الإبقاء على هياكلها وموظفيها مع زيادة اعتمادها على التنفس من رئات إسرائيلية، ما يعني إسقاط هذه السلطة قبل أن تبلغ المحطة الأخيرة، أي الدولة.
الإسقاط هنا لا يكون بصورة مباشرة صريحة، فإسرائيل تدرك الأثر العكسي لذلك، بل إنها تريد إبقاء الوعاء ومصادرة الهدف.