العرب وحدهم بلا مشروع في الأفق

بقلم: 

تخطت إيران سنواتها العجاف، وسجلت بتوقيعها الاتفاق مع مجموعة 5+1 عددا من النقاط في ذات الوقت، إذ تستعد المنطقة اليوم لاستقبال لاعب محوري جديد،  ودع مؤخرا حدود المعادلة الصفرية التي قيدته طويلا في علاقته مع الغرب، متسلحا بمئات المليارات المحررة، والقادرة على إنعاش اقتصاده، في ظل دخول اقتصاديات الدول المجاورة مرحلة الانكماش، نتيجة انخفاض أسعار النفط لمستويات دنيا، إذ تدخل إيران حديقة المجتمع الدولي من بوابتها  الأمريكية، وستتمكن وفق تقديرات البنك الدولي من تحقيق نمو في الناتج المحلي الإجمالي يصل إلى 5% في الفترة 2016-2017.

كما أنها تخطت عقدة التهديد العسكري الأمريكي االتي واكبتها خلال السنوات الماضية، واستنزف ميزانيتها العسكرية والأمنية، وتستطيع إطلاق أجنحة اقتصادها المتمثلة  بشركات النفط والغاز والطيران  والبنك المركزي من جديد، بعد سنوات من الحظر، وأن تنعم  بالتكنولوجيا المتقدمة التي حرمت منها خلال السنوات السابقة.

إلا أن الأبرز في هذا الاتفاق أنه يعيد إحياء مشروع " تصدير الثورة"، ومد النفوذ الإيراني والفكر الشيعي الاثنا عشري، القائم على السيطرة على الحوزة والمرجعية الشيعية، وولاية الفقيه على الفرد والدولة والمجتمع، بل ويتعداها للولاية على الفقه نفسه، وإحداث تغييرات جذرية فيه، هذا المشروع الذي ولد مع الثورة الإيرانية، وتعثر بسبب الحرب مع العراق، ومآلاتها على الصعيد الداخلي والخارجي، وما أفرزته من بعثرة لأولويات ايران، التي لا تخفي مشاريعها  التوسعية في المنطقة، كما أن الدستور الايراني يشير بشكل جلي  إلى عالمية أهداف الثورة ، ونصرها للمستضعفين والمحرومين، وما نلمسه اليوم من بصمات ايرانية جلية في الملفات العراقية والسورية واللبنانية والبحرينية، واليمنية، بالإضافة إلى احتلالها لأراض عربية، ما هو إلا جزء من المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة، ومن سعي ايران إلى توسيع رقعة نفوذها، وتأثيرها،  والذي من المتوقع أن يزداد خلال الفترة القادمة.

على الجانب الآخر  من المشهد، هناك المشروع الصهيوني التوسعي الاستعماري، والذي يتقن النفاذ والتموضع واستغلال الفرص،  سواء من خلال لعب دور الوكيل الحصري لمصالح الغرب، أو الشريك الاقتصادي للدول المتعثرة، أو الساعية للحصول على التكنولوجيا والأسلحة الإسرائيلية، أو استغلال الصراعات الإقليمية، من خلال استخدام فزاعة التهديد الإيراني، واستغلال حالة الرعب التي تجتاح الأنظمة المناوئة للتمدد الإيراني، أو استغلالها للقضية القبرصية للتغلغل في كل من تركيا واليونان، ولخلق موطىء قدم لها في مناطق جديدة، كان مجرد ذكر اسم إسرائيل بها يعتبر خيانة ونوعا من المحظورات، هذا المشروع الذي نسجته الحركة الصهيونية مبكرا، وتسير به بخطى عنصرية متصاعدة، مقتلعة كل ما يواجه مشروعها من بشر وشجر وأرض، مستمرة في عملية تزوير التاريخ، وفرض أمر واقع جديد، دون أن تواجه تحديات حقيقية تهدد مشروعها الاستعماري التوسعي.

 فمنذ بناء مستوطنة "ريشون لاتسيون" عام 1882 ومخطط الحركة الصهيونية القائم على معادلة "أرض اكثر وعرب أقل "  يتواصل ويحقق نجاحات متصاعدة، في ظل عجز عربي عن التصدي له،  حتى غدت المستوطنات الصهيونية على أبواب قرانا، ومخيماتنا، ومدننا، وغرف نومنا،  كما أن وجود خطة واضحة المعالم، ومشروع محدد الأهداف والآليات، وإن كانت عنصرية وانتهازية، يفتح لإسرائيل بوابات دول كانت تمثل  حليفا تاريخيا  للشعب الفلسطيني، والقضايا العربية، ومن الأمثلة عليها الهند واليونان وتركيا، والعديد من الدول الإفريقية ودول أمريكا اللاتينية.

ولتركيا كذلك مشروعها الخاص في المنطقة، والذي تحدده مصالحها القومية والوطنية، والنزعة التوسعية لرئيسها الذي ما فتىء يكرر حلمه  باستعادة أمجاد أجداده العثمانيين، مستثمرة موقعها الجغرافي المميز، الذي يجعل منها جسرا بين أسيا وأوروبا، لبناء علاقات تحتكم الى لغة المصالح، والتوازنات، إذ استطاعت تركيا بناء علاقات اقتصادية متزامنة مع  إيران وإسرائيل، على الرغم من تباين مواقفها مع الجانبين في العديد من القضايا، لعل أبرزها الملفين السوري والكردي  مع ايران، وحصار غزة مع إسرائيل، إلا أن وجود مشروع  تركي محدد المعالم، والأهداف، يجعل من تركيا قادرة على إدارة دفة علاقاتها الإقليمية والدولية في ظل أمواج التغيير التي تجتاح المنطقة، ورياح العنف والطائفية التي تعصف بها.

للقوى الكبرى  مشاريعها التي تحاول رسم مستقبل المنطقة بما يخدم مصالحها، فتقرب ايران وتبعد السعودية، تضعف النظام السوري، وتقوي داعش، تخلخل دعائم سيطرة النظام العراقي على أراضيه، وتعمل على إدارة الصراعات في ليبيا واليمن، تحمي التغول الاستيطاني والجرائم الصهيونية في فلسطين، وتحيي النزعات الطائفية في لبنان، وتتدخل في مالي، والسودان، وتشجع عدم استقرار مصر، وتلوح بالعصا الإيرانية لدول الخليج، كل ذلك لخدمة مصالحها، وتحقيق مشاريعها، القائمة على جعل وطن العرب ساحة لتجريب أدوات قتلها، وسوقا لأسلحة الدمار الشامل المنتجة في مصانعها، وموردا مضمونا للنفط الرخيص والطاقة ، ومصدرا للشباب المحبط، والفاقد للأمل، ليكون لاحقا ضحية لأي فكر ظلامي تكفيري يستغل نقاءه، وطيبته لتحويله إلى حطب يحرق ويحترق في ظل  جنون الاقتتال والصراعات الداخلية المقيتة، ويشكل مبررا للمزيد من التدخل الغربي في المنطقة.

العرب هم الوحيدون من يفتقر إلى مشروع واضح المعالم، وإلى رؤى سديدة قائمة على معرفة المآلات، وتحديد الخيارات العقلانية، والأقل تكلفة،  والأكثر فائدة، فسلوكنا في فلسطين، واليمن، وسوريا، وليبيا، ومصر، والبحرين، وفي جميع القضايا التي تهدد الأمن القومي العربي، والسيادة القومية للكثير من الدول، لا يتجاوز ردود الفعل، والتعويل الساذج على حبل العلاقة مع الغرب، الذي انقطع مؤخرا لينسج حبالا مع ايران بعد توقيع الاتفاق النووي، ومع تركيا بعد أزمة اللاجئين وتدفقهم على اوروبا عبر الأراضي التركية، ومع اسرائيل التي تتقن تماما لعبة المصالح، وموازين القوى.

فيما لا زلنا في وطن العرب، نمارس السياسة، بمنطق المراهقين السذج، ونمارس الحكم برومانسية الحالمين، ونتعاطى مع التحديات بأسلوب الملاكم الفاشل، الذي يتلقى اللكمات المتتالية دون أي قدرة على المناورة أو التسديد،  رافضين أن نتعلم من تجارب الماضي، أو أن نحدد خطواتنا بناءا على معايير واضحة، ورؤى علمية قائمة على تلمس الفرص والتحديات، وإتقان لعبة المصالح التي تحكم العلاقات الدولية، إذ اننا في ظل غياب مشروع عربي مشترك، يرتقي لحجم التحديات التي تحيق بالأمة، سنبقى سقائين حطابين على أبواب أصحاب المشاريع، مهما بلغت قدراتنا الخطابية، وإمكانياتنا في تجييش الجماهير، والهاب حماسهم، مما يهدد بتقسيم المقسم، وتمزيق الممزق، واستحداث دول جديدة تقام على أسس طائفية وإثنية، وفقا للرؤية الامريكية القائمة على مشروعي القرن الامريكي، والشرق الاوسط الكبير، إذ أن ما سيحدد قدرتنا على مواجهة هذه المشاريع وغيرها، هو مناعتنا وقدرتنا على التأثير في المعادلة الإقليمية والدولية، من خلال إتقان لعبة المصالح والتوازنات، لا الخطابات  واستجداء عطف الغرب، فلو كانت الخطابات العرمرمية، ودعاء الضعفاء دون العمل يحقق نتائج، لما وصل العرب إلى هذا المستوى المخجل من التراجع والانهيار،  حتى صدق فينا قول محمد الماغوط " كل طبخة سياسية في المنطقة أمريكا تعدها وروسيا توقد تحتها وأوروبا تبردها وإسرائيل تأكلها والعرب يغسلون الصحون"  .