قبل فوات الأوان...!!
في تاريخ البشرية منذ آدم عليه السلام حتى اللحظة قضت التجربة أن أي جهتين ينشب بينهما خلافٌ ما فإن هذا الخلاف لا يمكن أن ينتهي بفرض جهة معينة رأيها كاملاً على الجهة الأخرى حتى ولو كان ذلك بالقوة، ففي الحرب العالمية الأولى مثلاً كانت الشروط التي فرضها المنتصرون على المهزومين سبباً مباشراً في نشوب حرب عالمية ثانية واستمرار الصراع الدموي لسنوات، حيث أنه وفي كل صراع يفرض فيه القوي شروطه على الضعيف كان لا بد أن يتحيّن الضعيف أي فرصة للانقضاض على الطرف الآخر للانتقام منه أو استرداد ما يعتقده حقاً مسلوباً.
لا ينطبق هذا الحال على الصراع بين الدول فحسب ولا ينطبق على الصراعات الدموية فقط بل ينطبق أيضاً على الصراع بين الجماعات وحتى الأفراد، فقد حاولت الأقلية البيضاء الاستبداد بحكم جنوب أفريقيا وثرواتها لسنوات طويلة، ورغم امتلاكها القوة ودعم القوى الامبريالية والاستعمار الغربي إلا أن إرادة الحرية والانتصار تجلت على يد الشعب الأفريقي بقيادة الثائر العالمي (نيلسون مانديلا) حيث سقط نظام الأبارتهايد وزال إلى الأبد بعد انتخابات 1994 والتي أوصلت قادة ذوي البشرة السوداء إلى سدة الحكم في بلادهم.
وفي مجال النضال النقابي العالمي شهدت ألمانيا عام 2014 إضراباً كان الأطول في تاريخها حين أضرب سائقو القطارات وموظفو سكك الحديد، فيما شهدت فرنسا عام 2015 أطول إضراب في تاريخها أيضاً والمتمثل بإضراب موظفي إذاعة صوت فرنسا، وأما على الساحة الفلسطينية فقد كاد إضراب طلبة جامعة بيرزيت عام 2014 مثلاً أن يودي بفصل دراسي كامل فيما خاض المعلمون الفلسطينيون إضراباً مزلزلاً عام 1997 أدى إلى انشقاق في صفوفهم بين (لجان التنسيق اللوائية لمعلمي المدارس الحكومية) والاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين انتهى بحل وسط بعد تدخل الرئيس الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات شخصياُ، حيث أمر بالافراج عن قادة الاضراب وأمر كذلك صرف علاوة لكل معلم كانت مجزية في حينه وقد عاد المعلمون إلى مدارسهم وتم إنقاذ العام الدراسي آنذاك.
لقد ظل المعلم الفلسطيني يعاني الفقر وسوء الحال زمن الحكم العسكري التابع لإدارة الاحتلال الصهيونية، وقد توسم خيراً بقدوم السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 حيث توقع كل معلم فلسطيني أن تعوضه قيادته الوطنية سنوات العوز والحرمان، وقد عملت السلطة الوطنية بدون أدنى شك على إحداث نقلة نوعية في التعليم على صعيد المناهج إلى حد ما مقارنة بزمن الحكم العسكري الصهيوني كما أنها حاولت رفع الضيم عن كاهل المعلم الفلسطيني، إلا أن استحقاقات تحسن الوضعين المهني والمادي للمعلم لم يصلا إلى حد الرضا والقبول من جانب المعلم الفلسطيني، ما أدى إلى تحرك مطلبي في أكثر من مفصل كان آخرها إضرابات خريف 2013 والتي انتهت بالتوقيع ما بين الحكومة الفلسطينية واتحاد المعلمين الفلسطينيين على صرف علاوة 10% تم صرف 7.5% منها حتى الشهر الفائت وبدون أثر رجعي ما اعتبره المعلمون الفلسطينيون تمادياً في الغبن والإجحاف من قبل الحكومة الفلسطينية.
وفي الأسبوع الماضي انطلقت فعاليات المعلمين الاحتجاجية بدءاً بإضراب بعد الحصة الرابعة لثلاثة أيام متبوعة بإضراب شامل يومي الأربعاء والخميس ثم إضراب شامل صباح اليوم الأحد الموافق لتاريخ 21/2/2015 هذا إلى جانب الفعاليات الاحتجاجية شبه اليومية من اعتصامات أمام وزارة التربية والتعليم العالي أو أمام مجلس الوزراء ومديريات التربية والتعليم في المحافظات.
لقد اجتمعت الحكومة مع ممثلي اتحاد المعلمين الاسبوع الفائت واستعدت الحكومة لصرف علاوة الـ 2.5% المتبقية من الـ 10% الموقعة عام 2013 والمستحقات السابقة بأثر رجعي عن 23 شهراً وفي مدة أقصاها قبل نهاية هذا العام ما اعتبره المعلمون اجتراراً لاتفاق تم توقيعه سابقاً والتنصل منه لاحقاً.
إن ما يزيد الأمر تعقيداً أنه وبعد هذا الاجتماع أخذت فعاليات المعلمين الاحتجاجية منحىً تصعيدياً بإعلان الإضراب الشامل أيام الأربعاء والخميس من الاسبوع الفائت وكذلك اليوم الأحد فيما لجأت الحكومة إلى وسائل شتى منها الدعوة لفك الاضراب والتوجه للدوام عبر مكبرات الصوت في مساجد الضفة الغربية، إلى جانب خروج وزير التربية والتعليم العالي الدكتور صبري صيدم إلى شاشات التلفاز كان آخرها تلفزيون فلسطين للدعوة إلى التوجه للمدارس ولكن دون جدوى.
وفي تأمل للواقع المأساوي الذي وصلت إليه الأمور حيث أن التوجيهي يتهدده الهدر على صعيد الحصص الدراسية إن لم نقل الخطر الداهم، فإن الصفو الدراسية الأخرى ليست أقل خطورة حيث إهدار مئات آلاف الحصص أسبوعياً على طلبة الصف الأول الذين لا يعرفون رسم الأحرف، حيث جاءوا إلى المدرسة ليتعلموها، في الوقت الذي لا يمكننا أن نحمّل طرفاً واحداً هذا الواقع الصعب بل يدعونا لتحميل المسؤولية لثلاثة أطراف:
أولاً : المجتمع المحلي بكافة فعالياته المؤسساتية والأكاديمية والحزبية والاجتماعية التي لم تقدم أي بادرة وساطة بين الحكومة والمعلمين الغاضبين وخصوصاً أن الخلاف وصل إلى طريق مسدود وبدأ يأخذ منحىً تصعيدياً في ظل إصرار كل طرف على موقفه ما يحتّم التدخل من أطراف أخرى واقتراح حلولٍ وسط يرتضي بها الطرفان.
ثانياً: تتحمّل الحكومة الفلسطينية ليست الحالية فحسب وإنما الحكومات السابقة أيضاً لعدم بتّها في إيجاد حلول جذرية للعديد من قضايا المعلمين أهمها : التعيين، والمفصولين، والمواصلات، والإجازات، والعلاوات التي تأخذ جانب القسيمة الأيسر وتتبخر عند التقاعد وتتأكل عند أول غلاء معيشي إلا جانب فتح الدرجات وإقرار علاوة غلاء معيشة سنوية منصفة، والاعتراف بالتعليم كمهنة وغيرها من مطالب شرعية لكل معلم ومعلمة.
ثالثاً: يتحمل زملائي المعلمون ركنا أساسياً من المسؤولية ليس بسيطاً حيث أن أن الفعاليات المطلبية تفتتح ببيان تحذيري يوجه للجهات المعنية وهذا ما لم يتم، كما أن الفعاليات المطلبية تفتتح بالتدريج وهذا ما لم يتم أيضاً حيث أخذ التصعيد أوسع نطاقاته منذ الأسبوع الأول، هذا إلى جانب عدم الثقة المتبادلة الذي سيطر على متزعمي الاحتجاجات حيث بدأ التشكيك في قادة الاضراب ممن تبوّأوا مواقع قيادية في اتحاد المعلمين سابقاً، كما أن الارتجالية تجلّت وفي أكثر من مناسبة حيث أن صفحات الفيسبوك والتي تعتبر الواجهة الأعلى لتسيير الاحتجاجات تشهد بذلك.
في الختام لا أستطيع في مثل هذه العجالة أن أستوفي قضيتنا المطلبية العادلة جميع جوانبها ، حيث أن رسالة ماجستير لزميلي الأستاذ عمر عساف أجيزت في جامعة بيرزيت مطلع انتفاضة الأقصى خصصت لمحراك العلمين الفلسطينيين النقابي ما كانت لتكفي ربما للإطلالة على جميع جوانب حركة المعلمين المطلبية رغم ثراء هذه الرسالة وأهميتها.
آمل كمدير مدرسة وكوليّ أمر لطالب في الثانوية العامة وكمواطن فلسطيني يفرح لما يفرح به شعبنا الفلسطيني المناضل ويتأسى لما يتأسى له كل مواطن فلسطيني أن أرى طرفاً ثالثاً وازناً يدخل على خط الأزمة ويقدّم حلاً منصفاً للمعلم الفلسطيني المظلوم وللحكومة المثقلة بهموم الوطن والمواطن