تشفير قناة البراعم

بقلم: 

ما أجمل أن ترى حفيدا لك في الثالثة من العمر أو أقل، إن كنت تقترب مثلي من السبعين، أو ابنا، إن كنت شابا في مقتبل العمر، يقول وقد أسرعت به دراجته وخشي السقوط "توقف! توقف"!. أو ينادي وقد علق على حافة المنضدة وخشي السقوط "أنقذوني...أنقذوني"! أو حين يحتج صبي في السادسة قائلا "هذا ليس عدلا"، وقد حولت التلفاز رغما عنه عن قناة "براعم" كي تشاهد الأخبار، كما حدث مع صديقي شحاتة من قناة الجزيرة.

أرجوكم أخبروني كم من الناس الذين درجت ألسنتهم على العامية، كل يرطن بلهجته فلا يفهم أحد أحدا، أخبروني كم من هؤلاء يستطيع أن يأتي بجملة عمر ابن شحادة الاحتجاجية تلك "هذا ليس عدلا" صحيحة وفصيحة رغم تقديم اسم ليس على خبرها؟

أتدرون من أين تعلم حفيدي آدم، ولما يبلغ الثالثة بعد، أن يخاطب دراجته بالفصحى وأن يطلب المساعدة بالفصحى؟ أو تدرون كذلك من أين وكيف تعلم عمر ابن شحادة كيف يحتج بالفصحى، وكيف استوعب فكرة العدل في هذه السن المبكرة؟ أم تدرون من أين تعلم "عزم"، ابن صديق هاني، كيف يضع مفردة "صفحة" في جملة، فور سماعها من أبيه حين قال له "صفحة" وجمعها صفحات، فقال الصبي ابن الخامسة "صفحات من حياة السلف"؟

من قناة "براعم" يا سادة! واليوم يقولون لنا بل يعلنون أنها "ستشفر" أي ستلجم عن أطفالنا، فلا يصل إليها إلا من كان قادرا على الدفع، وأنا أحدهم في الوقت الراهن على الأقل، حتى لا يقولن قائل هذا يضن بماله تعليم أحفاده.

تالله ما أنا بمنازعٍ أحدا أن يتصرف بماله كيف يشاء، لكن تعالوا معي نجري الحسبة التالية. فلو فرضنا أن شبكة "بي أن" ستتقاضى عشرة دولارات في الشهر مقابل الاشتراك، فهذا يعني 120 دولارا في السنة. مبلغ زهيد في نظر كثيرين، ولكن فقيرا في حواري الدار البيضاء أو في مخيمات اللجوء، وما أكثرها في وطننا العربي هذه الأيام! سيقول بالتأكيد إن الخبز واللباس الذي يستر العورة أولى من الاشتراك التلفزيوني.

وأنا بما أقول زعيم, وكما قال الله عز وجل "ولا ينبئك مثل خبير" يحمل الكاميرا ويسافر في كل الدنيا ويسأل الناس وخاصة فقراءهم عن هموم اللقمة واللباس، ويرى في عيونهم الضنك وعزة النفس.

اليوم، وقبل أن تلجم براعم يا سادة، يدير ابن الفقير تلفاز الأسرة القديم ويجد براعم، فيتعلم منها كيف يقوم لسانه وكيف ينطق الفصحى، فيفهم الفقير في أقصى المغرب العربي ما يقوله الفقير في أقصى المشرق، ثم يفهم الغني بدوره عليهما، مع أني أعلم أن أهل هذا الطفل الغني يرسلونه إلى مدارس أجنبية ويتباهون أن ابنهم يتقن الإنجليزية أكثر من العربية!

لقد كانت قناة "الجزيرة" حين انطلقت من الدوحة قبل 20 عاما مفخرة لقطر ومأثرة. وأنا المنتمي إليها منذ يومها الأول لا أقول هذا نفاقا ولا تزلفا، بل أدرك ما كان لهذه القناة، التي أحب وأعشق، من أثر في عودة الوعي العربي بعد عقود من الغيبة في دهاليز الاستعمار والاستبداد والهزائم.

فلماذا لا تكون "براعم" و"جيم" سبقا قطريا آخر، أو قل مأثرة؟

فإن كانت الجزيرة أحيت الوعي فإن "براعم" تحيي اللسان الفصيح الذي ينتشر به الوعي ويتقوى. وما أحوجنا اليوم للسان يجمعنا بلا لهجات ولا رطائن! وما أحوجنا اليوم لما يقوي شعور أجيالنا بالهوية العربية الجامعة، إذ تتداعى علينا الأمم من الشرق ومن الغرب، فنعجز كالخراف عن رد الضيم.

ذات زمن أيها السادة كان قساوسة أوروبا وعلماؤها يسعون إلى الأندلس لانتهال العلوم بلسان "براعم"، فاتركوه بلا لجام لأطفال فقرائنا، علنا يوما ما في قادم زمن، نتعلم كل العلوم من طب وفيزياء وفضاء وفلك وتكنولوجيا ورياضيات وكيمياء بالعربية، ونفوز بالجوائز كما يفوز الكوريون واليابانيون والروس في أولمبياد الرياضيات وقد تعلموها بألسنة أمهاتهم.

 

المصدر: 
الشرق القطرية