بيت صغير بكندا"

بقلم: 

لأول مرة أسمع تلك الكلمات رغم أن عمرها 37 عاما!
أين كانت هذه الأغنية؟ بل أين كنت منها؟
كنت شاهدا على بداية فكرة لوحة الفنانة رانية العامودي، وهي قادمة من تفكير اجتماعي وجودي وانساني، كانت قد اسمعتني اغنية فيروز بيت صغير بكندا، فتاثرت بالاغنية مثلها، فرحت أكتب، اما هي فقد راحت تفكر في التعبير الانساني فنيا من خلال خطوطها والوانها.
الأغنية ثم المقال، فاللوحة وغير ذلك من الاشكال الفنية والاجناس الادبية هي للتعبير عن عمق الإنسان المسالم الباحث عن الاستقرار والهدوء والحب والسلام، حتى ولو كان في اخر الدنيا في بلاد باردة ربما تكون بالحب دافئة ربما تكون الاغنية واللوحة والادب مستوحاة من المعنى الانساني الواحد المتعدد احتمالات واقتراحات التعبير.
هذه المرة أسمع الأغنية، وأشاهد اللوحة التي سميت باسمها، حيث حاولت الفنانة التعبير عن مواصفات البيت، وأي بيت مسالم بعيد عن الأذى، حيث تطل إنسانة البيت من نافذة تشكل حيزا كبيرا من البيت بلونه الذهبي، وقد بدت النافذة حرة بدون حواجز وبدون قضبان معدنية، تجعل من الشبابيك سجونا.
في اللوحة حطت الطيور على القرميد، بكامل الطمأنينة، في حين تعانق اخضرار النبات مع الأزرق والأبيض، مانحا المشاهد راحة وهدوءا. وقد استخدمت الفنانة الكرات اللونية من مستويات الأزرق والزهري والأبيض، إضافة لدوائر الأشجار الصغير الخضراء الأربع.
في هذا العالم المتنازع والمتصارع، وعلى أرضا القريبة هنا بما مكث فيها من قلق وخوف وتبعثر، رحت أعيد الاستماع لفيروز وهي تشدو بها بشعور داخلي كمن تتمنى الإقامة في ذلك البيت البعيد بكندا.
بيتي صغير بكندا ما بيعرف طريقه حدا
قرميده مغطى بالتلج وكل المرج
شجر وعصافير كتير بتغط بترتاح وبتطير
ع قرميد بيتي الصغير بكندا
كل ما بتثلج بنطر يدوب الثلج
كل ما تغيم بنطر يرجع ربيع
تلك إذن مواصفات ذلك البيت الصغير الدافئ بكندا أو في بلاد أخرى بعيدة أو قريبة، فهو ينجو من تدخل الآخرين وتطفلهم، وعصافيره لا يزعجها أحد، وتعيش على أمل تتابع الفصول.
في العالم، وفي العوالم الصغيرة، النزاع فيها يسطو على المشهد!
من الصغير للأكبر فالأكبر، فالكون: نزاع نفسي داخلنا، واجتماعي ما بيننا، سياسي وفكري، اقتصادي، ونزاعات أخرى تستخدم الدين واللغة واللون!
سلام في البيت يعني سلام في العالم، يعني الكثير، لعله كما عبر عنه الزعيم التركي مصطفى كمال، وهذا يعني أن من الروعة أن تقيم في بيت سلام ولو في بيت صغير وبعيد في كندا.
وكمال المفكر والسياسي والعسكري هو من بلد كاظم حكمت الذي قال يوما:
إن أجمل البحار ذاك الذي لم نذهب إليه بعد.
وأجمل الأطفال من لم يكبر بعد.
وأجمل أيامنا التي لم نعشها بعد.
وأجمل ما أريد قوله لم أقله بعد.
وناظم حكمت الذي عانى ما عانى كإنسان ومواطن ظل يمتلك الأمل، حتى ولو مات غريبا عن وطنه، بعد أن ذاق مرارة السجن.
تحدى الظلم الاقتصادي والسياسي في بلاده، والذي لاقى هوى من الرأسمالية المتحكمة في العالم في تلك الأربعينيات والخمسينيات. كان وطنيا وإنسانيا في آن واحد، مما جعل القراء في العالم يتعاطفون مع مشاعر شعره كأنها مشاعرهم، وسبب ذلك هو أنه كتب عن النجاح والانكسار، لقد صوّر الحياة بما فيها.
وناظم حكمت وإن قال يوما "ان أجمل ما سمعته من أصوات صوت طفل يسأل عن النجوم، وهو ينام على ركبتي في ليلة صيف" هو نفسه الذي التزم تجاه وطنه والإنسانية باحثا عن دور يصنعه لا ليتحدث عنه فقط!
عندما جمع شمله بأسرته بعد طول فرقة بسبب النفي، تمنى أن يصبح زوجاً وفياً وأباً صالحاً، ورب بيت عاديا كسائر أرباب البيوت، فخشيت زوجته على التزام زوجها الشاعر الكبير تجاه العالم، فعادت إلى تركيا، لتظل جذوة الشعر الإنساني وقّادة، ربما أصابت الزوجة-والحبيبة لقاء، وربما أخطأت.
أما هو فآمن بدور الإنسان!
وكما قيل عنه: لقد عاش ناظم حكمت الحياة بكل عمقها ورفض أن يقرأ التاريخ وهو يتشمس ويتطلع من بعيد، فأي التزام إنساني أكثر عمقا ونبلا!
ما الذي يمكن أن تفعله الكلمات، المشاعر والأفكار، لتحيل النزاعات إلى حلول ذكية من أجل الإنسانية، من أجلي وأجلك ومن أجل من حولنا من نحب ومن لا نحب؟
ما الذي يفعله الإنسان الذي يود العيش بهدوء ولو في بيت صغير في كندا؟
بيتي الصغير بكندا من حوله كل المدى
بابه ما اله مفتاح بالي مرتاح
بيتي صغير بكندا وحده صوتي والصدى
لا فيه اصحاب ولا جيران القمر سهران
بفكّر فيك وباشتقلك بحزن  وباستفقدلك
البيت بفضائه، تلك مواصفات أخرى لريما ابنة فيروز، وهو حرّ، وهو بيت راحة البال كنز الكنوز.
"العيش شيء جميل يا صاحبي" هكذا يقول ناظم حكمت، أو الحياة حلوة بس كما غنى فريد الأطرش. الحياة حلوة بس نفهمها..
بس نفهمها!
أحب العيش الهادئ والمسالم، له ولأبناء بلاده والعالم.
لذلك تصبح للتضحية في سبيل البيت الصغير المسالم والسعيد بكندا معنى:
على باب بيتي الصغير بكندا
بشعل النار بنطر ترجع حبيبي
تبقى حدّي وما تتركني غريبي
الحب وطن إذن، أو هكذا غنت فيروز ذات يوم.
أتنقل ما بين كلمات ريما ابنة فيروز وبين كلمات الشاعر الكبير ناظم حكمت، فأشعر أن عمق بساطة كلمات "بيتي صغير في كندا" تعانق العمق الإنساني في كل مكان وزمان.
وكثير من الشعراء من تغنى بالبيت وكثير من الرسامين من رسموه، في واقعية ورمزية للوطن والعالم.
بيتي الصغير بكندا ما بدّي يزوره حدا
الا  اللي قلبي اختاره وقلّه اسراره
لشوفك بجي بهالكون
وبشوف السعادة هون
بقلب بيتي الصغير بكندا
هو البيت الذي يعيش للحب، إذا حضر كفّى ووفّى، وإذا لم يحضر، فإن العالم كله لا يغني عنه.
جميلة الأغنية والبيت الصغير بكندا.
ومما زاد من جمالها الشعور الإنساني في أسلوب غناء فيروز الذي نعهده، في ظل عمق  لحن لوي غاستي.
أما "أجمل أيامنا التي لم نعشها بعد" فعلينا صنعها ولو في بيت صغير في كندا!
أزعم أن الفنانة الفلسطينية نجحت في التعبير عن حاجتنا جميعا للسلام في ظل ما نشهده من صراعات ونزاعات، من خلال هذه الشفافية الفنية، للإيحاء بقيمة السلام وللتنفير من الحروب التي تسلب البشر طمأنيتهم.
للفن التشكيلي أن يعانق الغناء في نداء السلام الإنساني، وللأدب كذلك.