افضحوا الفضيحة

بقلم: 

    تبين  قبل أيام أن طفلا لم يتجاوز الثامنة من عمره تعرض لاعتداء جنسي في الحي الذي أسكن فيه،  تلاه ابتزاز ممنهج ومخطط يزيد عن سبعة أشهر من قبل الفاعلين، الذين تبين لاحقا أنهم قاموا بابتزازه وإجباره على تزويدهم بالأموال بشكل مستمر تحت التهديد تارة بالقتل، وتارة بالاختطاف، وتارة أخرى بالتلويح بالفضيحة التي سيتعرض لها حال إخبار عائلته بالأمر، مما اضطره إلى سرقة عائلته مرات عديدة لتزويدهم بالأموال، وبعد متابعة الحدث، تبين أن الحديث يجري عن مجموعة من الشبان، يقومون منذ فترة بتنفيذ جرائمهم، مستخدمين الطابق العلوي  لأحد المحال التجارية، كما تبين  للأسف أن هذا الطفل ليس الضحية الوحيدة لتلك المجموعة، إنما هناك عدد من الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات يتعرضون لذات الاعتداء والابتزاز الممنهجين، كادت القضية  أن تؤدي إلى شلال دم في نابلس، إلا أن عائلات الأطفال قررت منح فرصة للقضاء الفلسطيني للقصاص من المجرمين، فيما لا زال الضحايا من الأطفال  ينتظرون برنامجا تأهيليا نفسيا وصحيا  أظنه طويلا للغاية.

للأسف،  فإن نسبة كبيرة من مجتمعنا الفلسطيني يفضلون الصمت، والانطواء على النفس، والانسحاب السلبي، والمعاناة الفردية ، على نشر خبر اعتداء على طفل في العائلة، أو على وجود مدمن في البيت، أو مواجهة أحد مشاكله الاجتماعية، تحت مبرر " الخوف من الفضيحة"، مما يؤدي إلى دفن  مئات، وربما آلاف القضايا خلف جدران البيوت، دون إدراك عواقب السكوت والخوف من المواجهة، وأثره على المنتهكين والمعنّفين، إذ مثّل الموقف السلبي الانهزامي  للعديد من العائلات التي تعرض أحد أبنائها لانتهاك أو اعتداء، تحالفا مباشرا مع المجرمين، ومحفزا لهم للاستمرار في جرائمهم، كما أنه يؤسس لتحويل الضحايا إلى مجرمين مستقبليين، سواء كان ذلك بداعي الجهل، أو الخوف من ملاحقة المجتمع، ووصم ما حدث لطفلهم بالفضيحة،  ومن أجل ذلك، فإنني أرى أن من واجبي  كمواطن أولا، وكناشط شبابي ومجتمعي ثانيا، أن أكسر حاجز الصمت، وأن أتمرد على منطق " ثقافة الفضيحة" التي تجتاحنا كالطاعون، وتتسرب كالنمل في ثقافتنا اليومية، وتنخر عقولنا، ووعينا، فتسيطر على سلوكنا اليومي،  وتتحكم بقراراتنا، مما يراكم من أزماتنا، ويعمق من جرحنا المجتمعي، وهو الأمر الذي  ينذر بتفسخ الروابط الاجتماعية، التي هي ضمانة استقرار أي مجتمع، كما أن استسهال تجنب المواجهة، وتفضيل خيار عدم تلمس بعض الظواهر السلبية في مجتمعنا، وعدم مواجهتها ما لم تتكشف عن طريق الصدفة،  لهو تآمر على مستقبل جيل بأكمله.
تستوجب المسؤولية الاجتماعية والدينية والوطنية، مواجهة التحديات  التي تحيق بنا،  بكل وعي وجدية، واستمرارنا في محاولة الإنكار أو التجاهل، أو دفن رؤوسنا بالرمال، لن يلغي وجود المشكلة، إنما سيراكمها حتى تنفجر في وجه المجتمع بأكمله، إذ أن مجتمعنا كغيره من المجتمعات المحيطة،  لا يخلو من الظواهر السلبية، بما في ذلك الجرائم الجنسية بحق الأطفال، وتنامي انتشار المخدرات بشقيها تجارة أو تعاطي، وكذلك سيطرة  أنماط التدين الشعبوية، المليئة بالشعوذة والأكاذيب، والبعد عن جوهر الدين ورسالته السامية، ومن ممارسة كافة أشكال التمييز المجتمعي ضد النساء، بما في ذلك التحرش، والابتزاز، واستغلال ذكورية المجتمع في ترويعهن، وانتهاك حقوقهن،  ومن خطر سوء استخدام وسائل  الإعلام الاجتماعي، والمواقع الإباحية، التي أضحت تجتاح بيوتنا دون أذن، ولم يعد من الممكن منعها في ظل عدم وجود قانون يحظرها من جهة، وفي ظل استمرار الاحتلال بفرض سطوته على  شبكات التواصل الاجتماعي، رقابة وتأثيرا وتوجيها من جهة أخرى. 
      تواصلت مع مكتب الإحصاء الفلسطيني في محافظة نابلس، لأستفسر عن أي إحصاءات تتعلق بالتحرش الجنسي بالأطفال  في مجتمعنا، وكما توقعت، فإن جهودهم في هذا الإطار تصطدم دائما بحاجز الخوف من الفضيحة من قبل الأهالي، وتفضيل دفن هذه القصص خلف جدران البيوت، وكبتها في قلوبهم، على ما في ذلك من وجع وآثار نفسية غاية في الخطورة، إلا أن تقرير مسح الضحية الصادر عن الإحصاء الفلسطيني عام 2012، والذي يتعلق بالجرائم المرتكبة بحق المواطنين، يشي بالكثير من الخلل الذي يعتري مجتمعنا، إذ أن 56,6% من الأفراد الذين مورست ضدهم انتهاكات على اختلافها، لم يتوجهوا للجهات المختصة لتقديم شكوى بذلك، حيث أن ذلك يعود إما لعدم فعالية الإجراءات القضائية في فلسطين، وبطئ إجراءاتها، وعدم اتصافها بالحزم والقوة الكافية لردع المعتدين، وإما لخوف المعتدى عليهم من التوجه للمؤسسة الشرطية، تجنبا للماَلات المستقبلية أو الانتقام .
     إلا أن إشراع نافذة على  تجارة المخدرات التي تجتاح مدننا وبيوتنا قد يوضح ما يعتري مجتمعنا من علل،  إذ أن مقدار  ما تم ضبطه عام 2014 في جميع محافظات الضفة الغربية هو 65 كيلو من المخدرات بمختلف أنواعها، أما في العام 2015 فقد تم ضبط 700 كيلو غرام من مادة المرغوانا المجففة، و115 كيلو غرام من القنب، و13 كيلو من الحشيش المخدر، إضافة إلى كيلو واحد من الهروين، هذا عدا عن ظاهرة استنبات المخدرات التي تتركز في المناطق المصنفة "ج"، والتي تم اكتشاف العديد منها خلال الأشهر الماضية، في مختلف محافظات الوطن، أما في قطاع غزة، فإن الواقع لا يقل مأساوية، بسبب وجود الأنفاق التي تسهل نقل المخدرات عبرها إلى القطاع.
نجافي الحقيقة بالادعاء أننا نعيش في مجتمع استثنائي، أو أن شعبنا لا يعاني من المشاكل الاجتماعية التي تصيب كل الأمم، ونساهم في الجريمة ما لم نفضح الفضيحة، وما لم نواجه مَواطن الضعف المجتمعي، وهو الأمر الذي يتطلب جهدا تكامليا، فكما هو من الضروري وقوف المؤسسات الرسمية أمام مسؤولياتها في محاربة تلك المشاكل، فإن دور المساجد والكنائس، والمدارس، والجامعات، ووسائل الإعلام، ومؤسسات المجتمع المدني، التي يجب على الكثير منها إعادة النظر في أولويات برامجها ومشاريعها، والمثقفين الأحرار، والقوى والتنظيمات السياسية، لا يقل أهمية عن الدور الحكومي الرسمي في تدعيم الجدران الاستنادية للمجتمع، والتي يشكل المواطن  عمودها الأساسي، فلا قيمة لوطن مهما علت بنيانه المادية، وحقق مستويات متقدمة من النمو الاقتصادي، ما لم يرافق كل ذلك بناء للإنسان، ولقيمة المواطنة، القائمة على الحقوق والواجبات، كما أن على خطباء المساجد، ورجال الدين المسيحي والسامري، أن يقفوا أمام مسؤولياتهم، وأن يطرحوا كل القضايا المجتمعية بكل مسؤولية ووعي، وجرأة، بدلا من التركيز على قضايا فرعية، أضحت مستهلكة، ومكررة، كما أن المعالجة الحقيقية لتلك الآفات المجتمعية تبدأ من الأسرة، وتتطلب وجود علاقة قائمة على الصداقة والمصارحة بين الآباء والأبناء، وتمتع الآباء بالوعي الكافي للتعاطي بمسؤولية ووعي،  مع كل المواقف التي قد تعتري العائلة، دون  ارتجاف من المواجهة، أو خوف من  الفضيحة، لأن الحل يبدأ بنا، والخطوة الأولى تكمن في فضح  ثقافة الفضيحة،  ودفنها للأبد، وزرع ثقافة الثقة بالنفس، ومصارحة أبنائنا، بدلا منها.