ربيحة ذياب: الانتماء والوعي

بقلم: 

تمثل هذه المناضلة ظاهرة مهمة في حياتنا الفلسطينية والعربية، بل والعالمية، بما اختطته من نهج عقلاني راق يدمج بين الخط الوطني والخط الاجتماعي بجامع استحقاق التحرر، فهي تستطيع بما تملك من صدق إنساني أن تجعل الهم الوطني اجتماعيا، كما تستطيع جعل الهم الاجتماعي وطنيا. وأظنها بذلك امتلكت مقومات القيادة السياسية والفكرية والاجتماعي، حيث جمعتنا جميعا رجلا ونساء، في حياتها على الإصرار على إنجاز التحرر الوطني، وإنجاز التحرر الاجتماعي، وجعلت كل منهما رافعة للأخرى، كقائدة من القائدات اللواتي نفخر بعطائهن في مجال النضال النسوي والمساواة والعدالة، بدءا من النضال الوطني ضد الاحتلال، وليس انتهاء بنشاطها الحيوي داخل مجلس الوزراء انتصار لقضايا المرأة الفلسطينية، من أجل إنصافها وتقدير دورها ومشاركتها.
لقد طبقت تلك الروافع، من خلال رؤيتها التاريخية لدور المرأة في الثورة واستمرارها، حيث اطمئن المقاومون بأن وراءهم امرأة مناضلة ترعى الأسرة وتحافظ على الأرض، وتحافظ على التماسك الأسري في أصعب الحالات وترعى الذاكرة والتاريخ والهوية وتربية الأجيال عليها.
ولنا أن نتأمل، من خلال رؤيتها العملية -الإستراتيجية، والوطنية -التنموية، كيف أنها في الوقت الذي كانت واعية فيه على استحالة تحقيق تنمية مستدامة في ظل الاحتلال، فإنها كانت تؤكد على دور المرأة في أية عمليات تنموية، من خلال الشراكة وانتهاج مبدأ العدالة.
وتلك هي فعلا حاجات النوع الاجتماعي وطنيا وعالميا، فعين تنتبه وتقدر ما هو قائم من منجز وتبني عليه، وعين أخرى على ما نطمح إلى تحقيقه مستقبلا. ويتكامل فهم هذه الحاجات مع فهم البعدين الوطني والتنموي، بما يجمعهما من هدف تحرري، فما التنمية في أوسع تجلياتها إلا تحريرا لطاقات الفرد والجماعة.
وفي ظل التحولات الاجتماعية والسياسية، وتطور العمل النسوي، باتجاهات معاصرة من خلال إدماج النوع الاجتماعي في العملين الوطني والحكومي، فقد عملت ربيحة ذياب من خلال عضويتها في مجلس الوزراء على الانطلاق من النظر إلى قضايا المرأة كقضية جزئية تخص المرأة، إلى ما هو أكثر رحابة، أي النظرة من منظور النوع الاجتماعي، وما كان مرسوم رئاسة الوزراء بشأن تأسيس وحدات النوع الاجتماعي في الوزارات والمؤسسات الوطنية، إلا تجليا واضحا وتنويريا لهذا الاتجاه.
وانطلاقا من وعيها بأنه لم تكن ترى هناك تناقضا بين العمل الوطني والعمل الاجتماعي، فقد نظرت إلى النوع الاجتماعي كمتمم ومكمل للعمل النسوي الحقوقي، فكانت ممن عملن وعملوا على توطين هذا المفهوم، والذي يتفق مع تراثنا وقيمنا، وتغيير كل ما هو سلبي في عاداتنا والمحافظة على تراثنا الإيجابي بما فيه من عادات وتقاليد حافظت على وجودنا، لذلك فقد ركزت خلال رحلتها على استهداف الرجال والنساء في عمليات التوعية والتخطيط والتمكين.
ولأجل ذلك، فقد أدركت أهمية تأصيل هذه الأبعاد والمفاهيم في العمل التربوي، من خلال العمل مع وزارة التربية والتعليم العالي، لمراعاة تربية النشء على مفاهيم النوع الاجتماعي، بما ينسجم مع استراتيجيات بناء مجتمع  متقدم تسوده العدالة والشراكة، فإدماج النوع الاجتماعي في عمليات التربية والتعليم، هو أداة لتحقيق هدف إدماجه في المجتمع، كونها مفاهيم تأتي في سياق التربية الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، حيث يندمج هنا العمل التربوي مع العمل الحقوقي باتجاه مأسسة المجتمع المدني في بلادنا.
وجود الأخت ربيحة ذياب وزميلاتها ورفيقاتها في العمل الشعبي والحكومي كصانعات قرار، دلالة على أننا هنا في فلسطين المستنيرة قد قطعنا مشوارا هاما في جسر الفجوات بين الذكور وإناث في مجتمعنا، وعلينا أن نستلهم من مشوار المناضلة ذياب ما يقوينا، لنوسع قاعدة المساواة والعدالة، من خلال تنشئة الأجيال تنشئة ديمقراطية ترى في المرأة شريكا كاملا في البناء والعمل والإنتاج والإبداع.
لقد منحتنا ربيحة ذياب القوة الإيجابية وحنانها، رغم انشغالها بتراكم الإنجازات الوطنية والاجتماعية. ولكل منا مواقف إنسانية خاصة نستذكر من خلالها عظمة هذه الإنسانة وتقديرها للآخرين.
سيرة حياة خصبة، ملآى بالشجر بالمثمر..
الوطني والاجتماعي والإنساني، دوائر ثلاث تكاملت في هذه الإنسانة الفريدة من نوعها.
وهذا المنطلق، والذي يمثل مفتاح شخصيتها، سرّ إبداعها، وهو ما يفسّر الإجماع الذي حظيت به.
وفي البدء كان الهم الوطن وتلبية استحقاقات هذا الهم من اهتمامات وعمل وتضحية، وهي بما أقدمت عليه من شجاعة واستبسال وطني عال، إنما أكدت على قدرة المرأة في العمل العام والوطني، والقدرة على المشاركة السياسية الفاعلة، تتويجا للدور الإنتاجي للمرأة الفلسطينية.
لقد استمر إبداعها وعطاؤها بعد خروجها من الحكومة، لقد ظلت بيننا تؤكد على أن الدور لا يتوقف على كون المواطن/ة وزيرا/ة.
تأمل شخصيتها القيادية في الاجتماعات التي كانت ترأسها، يفسّر إبداعها، فقد كانت تقوم بعدة أدوار في آن واحد، فهي السياسية، وهي الخبيرة في قضايا المرأة، وهي المناضلة الساعية لتحقيق حلم التحرر.
لذلك فهي شخصية ثرية، ومبدعة، وقائدة فكرية وتنموية ووطنية، استطاعت أن تفعل ما يصنعه المايسترو في العزف على هذه الأوتار، وصولا لتحقيق حالة انسجام وطني واجتماعي وإنساني.
لقد شهد لها العدو قبل الصديق، بصلابتها أثناء التحقيق، وكيف أنها صمدت أمام الغزاة، مستهينة بما تتعرض له من إيذاء، حبا وفداء لفلسطين.
هذه الإنسانة الفدائية، والمحاربة سياسيا واجتماعيا ونسويا وحقوقيا، مثال ومجال للتفكير برحلتها، بل وتنوير المجتمع الفلسطيني والعربي على معنى أن تكون فلسطينية.
وفي البدء كان الوطن، وسيظل.