دولة تعيش بروحين !

بقلم: بن – درور يميني
في لحظة ما تُطلق صافرة الذكرى، وما أن تمر حتى تجدنا ندق طبول الاستقلال. هذه هي قصتنا. قصة ازدواجية. قد نكون دولة واحدة، ولكن مع روحين. لمعظم الاسرائيليين موقف غريب من الدولة التي يعيشون فيها. موقف حب وكراهية. نحن أبطال العالم في التذمر. وفي الوقت ذاته بالضبط نوجد أيضا في مكان عالٍ في سلم السعادة: المرتبة الثامنة في العالم. غاضبون وسعداء في آن. ينبغي لنا أن نسمي هذا الوضع باسمه. نحن في حالة انفصام في الشخصية. هذا لا يعني أنه يوجد هنا معسكران – متذمرون مقابل سعداء. الروحان موجودتان في كل واحد منا. المفاجأة هي أن هاتين الروحين تتدبران أمرهما معاً. هذا وضعنا الوجودي. هذا وذاك ايضا. يهودية وديمقراطية في الوقت ذاته. الدولة الاكثر تشهيرا في العالم (في صحبة سيئة مع ايران وكوريا الشمالية) وكذا الدولة التي مساهمتها للبشرية، بالنسبة لعدد أفرادها، هي الاعلى في العالم. احيانا ليس فقط بالنسبة لعدد أفرادها. في نطاق التكنولوجيا العليا، تحلية المياه، منظومات الري، الانواع الزراعية الخاصة – اسرائيل هي دولة رائدة. فريدة من نوعها. الصادرات الإسرائيلية الأغلى، حسب الوزن، هي بذور أحد أنواع البندورة. وهي أغلى من الماس.
في يوم الاستقلال الماضي كتبت في هذه الصفحات بان ليس لاسرائيل اي حاجة لمسيرة عسكرية، من النوع الذي كان متبعا في الماضي. لديها حاجة الى مسيرة لتطوير الأدوية والبندورة. نعم، لدينا ما يدعونا إلى الافتخار. وقبيل يوم الاستقلال الحالي، فحصت مرة اخرى وضع اسرائيل في المجالات الاساسية – المنشورات الاكاديمية، الاستثمارات في البحث، تحلية المياه، تطويرات التكنولوجيا العليا والادوية. لا يوجد ما يمكن تغييره، لا يوجد ما يمكن تجديده. هذه السنة ايضا تواصل اسرائيل تصدر مسيرة الانجازات. من المجدي أن ندع المشاكل للحظة وهي غير صغيرة وغير بسيطة. مسيرة انجازات اسرائيل ليست مصادفة. وليست لمرة واحدة. كما أن لنا سبباً يدعونا الى الاحتفال.
يجب أن نتذكر نقطة البداية. لم يكن لدينا شيء. دولة خراب خرجت بالكاد من حرب رهيبة وفظيعة. 6373 من اصل 600000 ، واحد في المائة من السكان، قتلوا في تلك الحرب. ثمن لا يحتمل. والتتمة لم تكن أفضل بكثير. لا توجد دولة اخرى تلقت كمية هائلة جدا من اللاجئين الذين وصلوا إليها كإسرائيل. لم يأتِ جميعهم كي يجسدوا الحلم الصهيوني. الكثيرون جاءوا لانه لم يكن لديهم خيار آخر. ولكن هذه كانت خلاصة الفكرة الصهيونية. دولة لليهود. ليس لانه كان ثمة خير في اماكن اخرى. بل لانه لم يكن هناك خير. هذا لم يبدأ بخير. كانت هناك اخطاء رهيبة وفظيعة. بعضها بنية مبيتة. اعداد كبيرة من السكان أُلقي بهم من الشاحنات نحو بلدات أشباح على الجبهة. آخرون ارسلوا الى مخيمات لاجئين. وقد اسميت هذه في الماضي معابر. وبقوا هناك سنوات. كان يخيل أن اسرائيل تنهار. هذا لم يحصل. خرجنا من هذا.
ما كان يمكن لاي مساعدة خارجية، وكانت كهذه، ان تشرح ما حصل منذئذ، النمو الهائل لاسرائيل. نحن منشغلون جدا بالتذمرات بحيث يصعب علينا فهم حجم الانجاز. هيا نعترف. لو كان اليوم قبل 65 سنة وادعى احد بانه ذات يوم ستكون اسرائيل قوة عظمى عالمية في مجالات الزراعة، الادوية، التكنولوجيا العليا، منظومات الري وتطهير المياه – لأرسل الى المستشفى. هذا ليس فقط حصل، بل ان اولئك الذين لم يتجرأوا على الحلم في تلك الايام يحظون بفرصة أن يروا ما لا يصدق يحصل امام ناظريهم.
نعم، أسعار الشقق عالية. الرواتب في الحضيض. الاحتجاج الاجتماعي ولد من أزمة حقيقية. ليس فقط للضعفاء بل وحتى لاولئك الذين كان يخيل انهم أقوياء. ولكن من جهة اخرى، فان اسرائيل مباركة باحد أجهزة الصحة الاكثر فخرا في العالم بشكل عام وفي العالم الغربي بشكل خاص. متوسط العمر في اسرائيل أعلى بكثير من مكاننا في جدول السعادة. نحن مرة اخرى في العشرية الاولى.
كيف حصل أنه مع كل الحروب و"الارهاب" والتوتر الوجودي ننجح في أن نعيش اكثر من اولئك الذين يعيشون مثلا، في قلب المشاهد الرائعة للريف في فرنسا، بين كروم العنب والحدائق التي تصدر عنها كل يوم روائح الجنة؟ ضحكنا في الماضي على صناديق المرضى بشكل عام وعلى صندوق المرضى للهستدروت بشكل خاص. يجب طلب المغفرة. كان هذا أحد المشاريع الاكثر نجاحا للدولة.
خلق الطريق الملتوي عدداً لا يحصى من التشويهات. تعسف سلطوي، تمييز، توزيع غير عادل للمقدرات بشكل عام وللاراضي بشكل خاص. المقربون حصلوا على اكثر. الاخرون لم يحصلوا على شيء. حتى الان يعاني المجتمع الاسرائيلي من ندوب نشأت في تلك العهود. كليات كاملة في الاكاديمية تعيش اليوم على التشويهات ذاتها. تلك كانت عهود اولى مع خطايا اولى. وبشكل عام، هاتوا لنا دولة واحدة لم تولد بالمخاض والخطايا الاولى. لا يوجد كائن كهذا. المخاض صعب دوماً. وهو دوماً مليء بالعذابات والخطايا. ولكن لا توجد أي خطيئة أولى، وهناك كثيرة كهذه، أن تلقي بظلالها على حجم الإنجاز. بل العكس. كيف حصل، يجب أن نسأل، أن وصلنا الى ما وصلنا اليه رغم كل هذه التشويهات؟
ثلاثمائة وأربعة وستون يوما في السنة ونحن ننشغل بالكشف عن التشويهات. هذه هي مهمتنا، هنا في الصحافة. قصص التطويرات والانجازات الهائلة تدحر الى الصفحات الأخيرة. السائق الذي رفض حمل مسافر من اصل أثيوبي، بالمقابل، يحظى بالنشر في الصفحات الاولى. رغم أنه واحد من ألف أو من عشرة آلاف. هذه قصة الصحافة في العالم الحر. ولكن يجدر بنا أن ندقق. عندنا الحقنة أكبر. نحن مدمنون على النقد الذاتي الذي يصل حتى التضليل الذاتي.
لا نحتاج الى الصحافة كي نكون أبطال العالم في التذمر. ولكن الصحافة تساعد على التشويش. هكذا بحيث يجب ان نضيف ملاحظة تحذير دائمة: رجاء خذوا الامور بتوازن. رجاء اعرفوا ان السائق العنصري الذي كتبنا عنه لا يمثل الافاً من رفاقه في العمل، بل يمثل نفسه فقط.
هذه السنة حصل شيء آخر. كانت لدينا انتخابات. خلافا لكل التوقعات، اسرائيل لم تتوجه يمينا. اسرائيل توجهت نحو نفسها. الى الوسط. هذه بالتأكيد بشرى طيبة. لانه يوجد هنا فرصة للاصلاح. لسنوات طويلة عانت اسرائيل جدا من تشويهات خطيرة للغاية في مجال الحكم. بدلا من الديمقراطية تلقينا اقلتقراطية (حكم الاقلية). حكم مجموعات ضغط فرضت نفسها على الاغلبية. ليس بعد اليوم. الائتلاف الجديد هو نقطة انعطاف. ليس واضحا اذا كان التغيير الكبير سيأتي. ليس واضحا اذا كانت اسرائيل ستكون متساوية وسوية العقل اكثر. ولكن هذا يعني أنه نشأت فرصة. وهذا أيضا شيء ما.
ماذا عن الاحتلال؟ المستوطنات؟ السيطرة على شعب آخر؟ هذه أسئلة ممتازة. نحن نحاول أن نتصدى لها في كل ما تبقى من أيام السنة. لا يوجد إجماع. في هذا الموضوع لا يوجد لنا فقط روحان. يوجد آلاف. لكل اسرائيلي رأي. هذا لا يقلل من خطورة المشكلة. بل اليوم، بين أسى الذكرى وفرحة الاستقلال، من المسموح أن نعنى بامور اخرى. من المسموح أن ننظر الى الوراء بافتخار. من المسموح أن نرى ليس فقط التشويهات بل وحجم الانجازات ايضا. نعم، يوجد لنا ما يدعونا الى الافتخار. عيد استقلال سعيد.