أسئلة عائد إلى حيفا

بقلم: ديمة ونوس
"على الأقل، ستعودون!"، هذا ما تكرّره صديقتي الفلسطينية رائدة طه، كل مرة نتحدث فيها عن الثورة في سوريا وعن التعب والضجر والإنهاك. وفي كل مرة، أشعر بالخجل أمام جملتها هذه. وفي الوقت ذاته، أخاف. القضية الفلسطينية التي عرفها جيلي باكراً جداً، القضية التي علّمت جيلي قبل الأوان معنى العدالة والحق والأرض والهوية والرائحة، صارت ملموسة. لم تعد فكرة الاحتلال والقتل والتهجير والفقد، مجرّدة. السوريون يواجهون مصيرهم كل يوم، كل لحظة. وذلك المصير الذي بات يقارن مع ما عاشه الفلسطينيون واللبنانيون، يبدو في أحيان كثيرة، أكثر بشاعة. وجملة رائدة تلك، اختلف وقعها اليوم عن السنة الفائتة. يتساءل الكثير من السوريين: "هل حقاً سنعود؟".
هذا ربما، ما يحمّل رواية "عائد إلى حيفا" للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، التي مسرحتها لينا أبيض للمرة الأولى العام 2010، أكثر مما تحتمل رواية رائعة كُتبت العام 1969. الثورات العربية، غيّرت واقعاً وقلبت أفكاراً. ثمة موت وحياة وتشريد وحكومات متعاقبة وثورات على الثورات وخوف وترقب. كيف يمكن للرواية أن تبقى كما هي؟ نعم، القضية لا تزال مكانها، مثلما تركها كنفاني وغيره من المبدعين الفلسطينيين والعرب الذين حاولوا جاهدين إحداث تغيير ما، كل بطريقته. إلا أن الزمن تغيّر وجيل الثورات العربية الذي حمل القضية الفلسطينية باكراً، بات يدافع عن مطالبه متخففاً من عبء الإيديولوجيا والخطابية. طرق التعبير اختلفت، والرأي لم يعد مغلفاً بالتأويلات والاستعارات. لم يعد ثمة متسع للاستعارة. في بعض الأحيان، لا يكون الوفاء للنصّ الأصلي موفقاً. وربما يتساءل المتفرّج عن الأسباب التي جعلت المخرجة اللبنانية المتميزة، لينا أبيض، تحتفظ بالنصّ حرفياً بعد أكثر من أربعين عاماً على صدوره.
تعيد أبيض الخميس افتتاح "عائد إلى حيفا"، على خشبة "بابل"، بعدما عرضتها في المكان نفسه قبل ثلاثة أعوام. الإخراج الرائع، والأداء الحرفي للممثلين، ينقذ العرض من وطأة الحوار المبني على تجربة الستينات. إضافة إلى أن "عائد إلى حيفا" بالذات، تبدو حاضرة أكثر من غيرها في مخيلة جيل الثورة، لما تحمله بعض عباراتها من معانٍ اتقدت على جدران الربيع العربي وصفحات "فايسبوك". تمّ اقتباس بعضها وتعديل بعضها الآخر حسب متطلبات اللحظة. "الوطن إيش يا صفية؟"، جملة يعرفها الكثيرون. والبعض لا يعرف أصلها ومن أي كتاب جاءت وأي كاتب خطّها وفي أي عام.
تلعب أبيض في مساحتها الإخراجية ببراعة، لتقدّم عرضاً سلساً، محبوكاً، مضبوط الإيقاع، يمسك بروح النص وبروح المتفرّج في الوقت ذاته. ذكريات سعيد وصفية، وصفهما للمدينة والحارة والبيت والدرج والوطن، تلك الاستعادة المملوءة بالحنين، تفلشها على الخشبة أمام المتفرج. الذاكرة تصبح من لحم ودم. عروس وعريس (عزّام مصطفى وسميرة الأسير) يقفان منتصف المنصة إلى الوراء، يستعيدان تلك الذاكرة. إنهما ذاكرة صفية وسعيد، الذاكرة التي تخرج من مساحة الوعي وتصيب العين بشرود والجسد بخدر والروح برعشة تمتدّ من جسدي صفية (رائدة طه) وسعيد (غنّام غنّام)، متسرّبة إلى الجمهور ببطء وهدوء.
النصّ الذي بني في مخيلة القارئ مدروزاً بالصراخ والألم، فقد ضجيجه على منصة لينا أبيض. لا تسمع أي صرخة. الحوار المتوتر بين سعيد وابنه دوف مثلاً، جاء بارداً، على عكس المتوقع. ثمة حكمة وصبر في أداء غنّام غنّام، في الوقت الذي يشعر فيه المتفرج بضرورة ترك كرسيه واعتلاء المنصّة والصراخ، ليس فقط من أجل الصراخ، بل من أجل إشباع ذاكرته عن النص.. القضية.
عليا الخالدي التي تمثل دور الإسرائيلية من أصل بولندي، وتقطن بيت سعيد وصفية وتربّي ابنهما ليصبح جندياً احتياطياً في الجيش الإسرائيلي، لعبت الدور بمهارة عالية وبأداء رائع. لهجتها، انحناءة جسمها، نظرتها إلى سعيد وصفية وذلك الحذر المفرط والقلق المغلف بإحساس مخادع بتأنيب الضمير، كلّها تفاصيل، تستطيع عليا إيصالها إلى المتلقي كما هي دون زيادة أو نقصان.