وثائق اسرائيلية: اسرائيل عرضت على مصر المفاوضات قبل حرب العام 1973

بقلم: عوفر أديرت
في شهر حزيران/يونيو 1973، قبل نشوب حرب يوم الغفران بأشهر معدودات، زار اسرائيل مستشار المانيا الغربية، فيلي براندت. والتقى مع القيادة الاسرائيلية وفي مقدمتها رئيسة الوزراء (قبل اربعين سنة من اختراع هذا التعبير) غولدا مئير ووزير الدفاع موشيه ديان.
هل كانت تلك زيارة ‘تاريخية’، كما تسمى الآن، فيما ينشر أرشيف الدولة؟ أم كانت زيارة فاشلة لم تغير شيئا في العلاقة بين القوات؟ قد تكون الآراء في ذلك مختلفة لكن الوثائق التي يسمح أرشيف الدولة (الاحد) بنشرها، تُمكّن من نظرة اخرى في ما وراء ستار الدبلوماسية الاسرائيلية الاوروبية عن مبعدة آمنة تبلغ اربعين سنة.
تشتمل الوثائق الـ27 ، التي تنشر اليوم (امس) في موقع انترنت أرشيف الدولة، على شهادات من مجاميع أرشيف الدولة وأرشيف الجيش الاسرائيلي وجهاز الامن، وعلى رسائل وبرقيات وأحاديث مكتوبة وجلسات حكومة. ويُبين النظر في الوثائق أنه تم في 1973 تبادل رسائل سرية بين اسرائيل ومصر بوساطة المانية. ولم تكن تلك أول مرة أرسلت فيها اسرائيل مبعوثين من الخارج الى مصر، لكن استعمال وسيط الماني – وهذه قناة استُعملت كثيرا بعد ذلك مقابل جهات مختلفة يثير العناية في حد ذاته بسبب العلاقات المميزة بين اسرائيل والمانيا.
وتُبين الوثائق ان مئير نقلت الى حافظ اسماعيل، المستشار الأكبر لرئيس مصر أنور السادات رسالة عن طريق المبعوث الالماني غير المهم لوتر لهان. وتناول مضمون الرسالة اقتراح مئير ‘اللقاء معهم (مع المصريين) من اجل صلة شخصية أولى في كل مكان وزمان ومستوى’، وتظهر تفصيلات الرسالة في وثيقة ‘شديدة السرية’ مؤرخة بتاريخ 24 يونيو 1973.
وكان الرد المصري باردا، ‘أجاب حافظ بأنه يسجل الأمر أمامه. وهو غير متفاجئ. وهو يعلم أن هذا ما تريده اسرائيل… ولا داعي لمثل هذه الأحاديث، كما تقترح اسرائيل التي ليست هي أكثر من أحاديث عن أحاديث. ويوجد ما يدعو اليها فقط اذا كان يُعلم ما الذي يُنتظر في نهايتها. وما لم تكن اسرائيل مستعدة لاعلان أنها مستعدة للانسحاب، فلا داعي للقاء لأنه من الواضح ان المحادثات ستحصن الوضع الراهن فقط’. وأصر الوسيط الالماني لهان وقال لنظيره المصري إن مئير أكدت أمام المستشار براندت ‘استعدادها للمصالحة’. غير ان حافظ عرض في رده سؤالا إنكاريا: ‘أي مصالحة؟’.
وقد سبق البعثة الالمانية قبل نشوب الحرب بثلاثة أشهر توجه رئيسة حكومة اسرائيل الى مستشار المانيا الغربية في حديث ضمهما وحدهما، تم عند خروج يوم السبت في التاسع من يونيو 1973. وطلبت مئير اليه ان يعرض على السادات بدء تفاوض مع اسرائيل. ‘يستطيع ان يقول للسادات أنه، أي برانديت، على يقين من أننا نريد السلام حقا. لأننا لا نريد كل سيناء أو نصف سيناء أو أكثر سيناء. ويستطيع برانديت أن يُبين للسادات أننا لا نطلب منه بدء تفاوض علني، وأننا مستعدون لبدء تفاوض سري وما أشبه’ هذا ما كُتب في تلخيص جزئي للقاء بين الاثنين.
وبعد ذلك بيوم، في العاشر من يونيو، عُقدت جلسة حكومة أبلغت مئير فيها الوزراء تطورات الاتصالات بمصر بالوساطة الالمانية.
‘عاد وزير خارجية المانيا (وولتر شيل) من مصر وهو مقتنع، وعلى كل حال حصل لديه كما يقول انطباع مقنع كثيرا بان السادات كان يريد التوصل الى تسوية سلمية من دون حرب. وقلنا له هنا في ذلك الكلام التالي: ليس في هذا مشكلة؛ فنحن لم نقل الى الآن لعربي واحد ‘لا’ وإننا لا نريد اللقاء.
واذا كان المجتمع يريد حقا ان يؤدي هذا الدور من ترتيب لقاء فليتفضل. واذا كان عند السيد شيل هذا الانطباع عن السادات فليذهب الى السادات وليقل له إن اسرائيل مستعدة للقاء، وألا يضم نفسه الى كل اولئك المشتغلين بهذا الامر ويعرضون شيئا ما بدل لقاء مباشر’.
وأضافت مئير ايضا في تناولها للقائها لبراندت: ‘قلت له أمس بصورة صريحة: اذا كان عندك أو عند وزير خارجيتك أو المجتمع انطباع عن ان السادات يريد السلام فليُحادثنا. واذا كان يريد محادثتنا سرا فليُحادثنا سرا. لكنكم في كل وقت تدخلون فيه في وسط هذا الامر تؤخرون السلام… واذا منحتموه امكانية التهرب من مسؤولية مباشرة عن لقائنا ومفاوضتنا فسيكون ذلك عقبة اخرى في طريق السلام’.
وتشتمل الوثائق التي كشف عنها الآن، الى ذلك ايضا، على عدد من التصريحات تكشف عما اعتقدته مئير في الحقيقة في احتمالات الاتصالات بمصر. توجز احدى الوثائق إبلاغ مئير وزراء الحكومة إثر لقائها لبراندت. ‘أمس بعد أن تحدث عن توازن بيننا وبين العرب بشأن الشرق الاوسط، كان ذلك أكثر مما أحتمل وقلت كلاما قد يكون مجاوزا لما يجوز للمضيفة أن تقوله’، ذكرت مئير.
وفي مكان آخر وصف لقاؤهما في السابع من يونيو 1973 على النحو التالي: ‘(مئير) بيّنت لبراندت ان جذور المشكلة في ان العرب لا يريدوننا هنا’. وذُكر مع ذلك ايضا ‘أنها بيّنت ايضا المشكلة الفلسطينية وأن المعنى الحقيقي هو ان يحل الفلسطينيون محلنا’.
وتفصل وثيقة اخرى مضمون لقاء وزير الدفاع ديان والمستشار براندت. ‘يوجد تناقض بين حقيقة أننا جئنا لبناء البلاد وحقيقة أننا وجدنا فيها بشرا’، قال له ديان. ‘حارب العرب الصهيونية. وكانت حرب 1948 حربا صبيانية بمفاهيم وسائل القتال اليوم. لكن 700 ألف عربي أصبحوا لاجئين آنذاك. وجاء 800 ألف يهودي من البلدان العربية. ولذلك لم تعد هي اليوم فلسطين’.
وورد ان براندت، ‘فوجئ برؤيته كثيرا من الأعيان العرب في الحفل’ الذي دُعي اليه. وهدأ ديان نفسه بقوله له: ‘لا بأس فالجميع يأتون. نحن نلاقي العرب طول الوقت’. وأضاف: ‘توجد حياة صداقة في الحياة اليومية ويوجد فرق بيننا وبينهم في المسألة السياسية’.
ويمكن ان نستدل من الوثيقة التي لخصت زيارة براندت لاسرائيل على كلام يثير الاهتمام قاله محاولا ان يشجع اسرائيل ازاء عدم استجابة العرب لتوجهات مئير. وقارن براندت ذلك بالاتصالات بين المانيا الغربية والمانيا الشرقية وروسيا التي تميزت في بادئ الامر بالشك وعدم الرغبة في الحديث. ‘في جلسة العمل قال (براندت) إن موقف العرب، كما وصفته رئيسة الحكومة (أي رغبتهم في محو اسرائيل عن الخريطة) لا يجب ان يسبب اليأس. فقد أراد الروس والمانيا الشرقية ابتلاع برلين الغربية، لكنهم اليوم ليسوا مستعدين فقط للحديث، بل للاعتراف بوجود برلين الغربية المستقل. ولا تنبغي استنتاجات مبالغ فيها من حقيقة ان المصريين رفضوا استقبال أوراق مع عنوان ما. فقد تم في مدى فترة طويلة تبادل أوراق لم تكن تعتبر وثائق بين المانيا الغربية والمانيا الشرقية، ولم تكن مكتوبة بحسب قواعد الاعتراف بين الطرفين. وأفضت الموافقة المتبادلة على هذا الاجراء آخر الامر الى التحادث’، قال براندت.
حرر الوثائق التي نشرت الآن حغاي سوريف من أرشيف الدولة. ومن المهم ان نذكر ان الكشف عن الوثائق انتقائي بصورة لا يمكن منعها. ولا يقل عن ذلك اثارة للعناية أن نعلم أي الوثائق لم تنشر بعد ولماذا. ونذكر ايضا انه ما زالت توجد أجزاء حذفتها الرقابة في الوثائق التي نشرت الآن.
يرفض مؤرخون مثل الدكتور يغئال كبنيس الذي كتب كتاب ’1973 الطريق الى الحرب’ (اصدار ‘دافير’ 2012) التأثر إن لم نشأ المبالغة بهذه الوثائق، لأن كبنيس يعتقد ان الشهادات الأرشيفية تكشف عن جزء هامشي لا شأن له من الصورة العامة، وان حصر العناية فيها قد يخفي اسهام مئير في نشوب الحرب.
وتوجد في الوثائق التي نشرت الآن ايضا قضية اخرى لا تقل اثارة للاهتمام، هي قضية علاقات اسرائيل بالمانيا في 1973 بعد وقت قصير من الازمة التي عرفتها العلاقة بين الدولتين، على أثر مذبحة الرياضيين الاسرائيليين في ميونيخ، وفشل اجهزة الامن الالمانية في احباطها، وسلوكها الفاشل مع المخربين المختطفين ساعات طويلة. وكانوا في اسرائيل بعد أقل من ثلاثين سنة من انتهاء الحرب العالمية الثانية ما زالوا حائرين في كيفية تعريف العلاقات بالمانيا الغربية.