ماجد كيالي: الفلسطينيون وصراع الأمل... البديل

بقلم: أحمد جابر

كتب ماجد كيالي «الثورة المجهضة» (صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر) فاختار البداية منذ زمن انبعاث «الكيانية الفلسطينية»، الذي هو زمن انطلاق الكفاح المسلح، ووضع نقطة الختام مع اقتراح البديل الوطني العام، الذي لمّا تتوافر ظروفه المادية، لكن توافرت كل الأسئلة التي تدفع باتجاه ضرورة إيجاده. من الصعود إلى الأفول، قطعت حركة التحرر الوطني الفلسطينية سنوات صاخبة وعميقة الدلالات، وكانت تجربة الشعب الفلسطيني، داخل أرضه التاريخية وفي الشتات، تجربة حافلة بالدلالات والخلاصات، يستوي ضمن هذه التجربة زمن الصراع العسكري الدموي، وزمن الانتفاض الشعبي بشقيه، المدني الخالص وذاك الذي زاوج بين السلمية والعسكرة، وزمن التفاوض الذي سبق والذي تلى، تلك الأحداث الفلسطينية، التي لامست المصير «الوطني» العام، في كل محطة من محطاتها.
يلح على الكاتب موضوع تشكل الهوية الوطنية، والكيانية الفلسطينية، فيشير إلى انكسار هذه الهوية عندما عادت لتعرف ذاتها بذاتها، أي من دون تعريفاتها الإسلامية والوطنية، ومن خارج المحيط الأشمل، الذي ظن الشعب الفلسطيني أنه ينتمي إليه. لكن تفسير الانكسار بهذه العبارات ليس كافياً، والحديث عن تأسيس الهوية الفلسطينية قد يجد مستندات له في التاريخ الأسبق على زمن النكبة عام 1948. وفي هذا المجال لعله من المفيد لفت الانتباه إلى أن شعور الاستهداف الذي خالج الفلسطيني منذ بدء الهجرة اليهودية، هو إحساس أولي بخطر ما على «الكينونة الاجتماعية» ذاتها، وإلى الهجرة يضاف تعسف الانتداب البريطاني وقمعه، الذي آزر اليهود المقبلين والمقيمين، وضيق بإجراءاته الشديدة على حياة الشعب الفلسطيني. لا بديل من القول إن الفلسطيني فسر ما يتعرض له بأدوات وطنية أولية، مفادها أنه مستهدف لأنه فلسطيني.
هذا المرور السريع، ومن دون عودة إلى العقد الثاني من القرن العشرين، هو للقول إن الكفاح المسلح الذي أطلقت شرارته حركة فتح، هو التعبير المدوي عن رفض بقاء الهوية الفلسطينية هوية غائمة، على المسرح الدولي، ورفض إبقائها هوية معلقة ومؤجلة، ضمن أروقة النظام العربي العام. باختصار «إرهاصات» الهوية كانت موجودة، ووليدها الذي كان يدبُّ فوق أرض الأوطان المختلفة، شبَّ «فجأة» وهو يمتشق بندقيته، فأعلن من خلالها استعادة قرار قتاله في سبيل أرضه، من أولئك الذين كانوا يقاتلون من أجل التحرير... بالوعود.
لقد بلغ الكفاح المسلح مداه، وكانت له نتائجه السياسية العامة المباشرة، على صعيد استقلالية الشخصية الفلسطينية، وإعلاء راية حقوقها، والمساهمة في فضح الشرعية الإسرائيلية، التي تتمسك بالخرافة، وتقتل باسم الأسطورة.
لكن مدى الكفاح المسلح انتهى فعلياً، بعد أن اجتاحت إسرائيل العاصمة اللبنانية بيروت، وبعد أن أخرجت منظمة التحرير الفلسطينية منها. هذه النهاية كانت موضع جدل، بسبب من تباينات الساحة الفلسطينية، وبسبب التدخلات الخارجية العربية، التي ناصبت القضية الفلسطينية العداء، أثناء وجودها الفاعل في لبنان، وبعيد خروجها منه. كان السؤال: إلى أين؟ ولأن المنطقة العربية كانت ضد السؤال، قبل أن تكون ضد الجواب، جاء الرد من الداخل، فكانت الانتفاضة الأولى بطابعها السلمي المميز، وبآثارها السياسية والمعنوية الملموسة، ثم كانت الانتفاضة الثانية، التي أضافت إلى السلمية عسكرة، ما لبثت أن أطاحتها، وما بين الانتفاضتين اتفاق أوسلو، الذي يصفه الكاتب بأنه كان مقامرة، ليقول في ختام بحثه إنه لا بد من إسقاط هذا الاتفاق، والبحث عن مشروع وطني ملهم يلامس القضية الفلسطينية في كل جوانبها، ويطابق بين الشعب وأرضه، وبين كينونته وهويته.
اتفاق أوسلو، صار من الأرشيف اليوم، لأن الواقع تجاوزه، ولأن إسرائيل أسقطته من جانب واحد، لكن لا بأس من القول إن القيادة الفلسطينية بزعامة عرفات، رأت يومها أن الاتفاق ينطوي على إبهام معروف، وأن تطويره نحو الوضوح يحتاج إلى موازين قوى إضافية. لقد كان الاتفاق المجحف حقاً، هو الخط الأخير الذي لا يمكن الفلسطينيين النزول أدنى منه، وكان الخط الأخير الذي لا يمكن إسرائيل الذهاب أبعد منه. هذا «الفهم» لحدود الاتفاق ترك تطويره للصراع، الذي جاء في غير صالح الفلسطينيين، بعد كل التطورات العربية والدولية، التي أسهب ماجد كيالي في الإشارة إليها، وبعد أن أضافت ثغرات الأداء الفلسطيني، القيادي والفصائلي، ثغرات معيقة كثيرة، لم يتأخر الكاتب في تعداد مظاهرها والإشارة إلى مطارحها، في مفاصل البنيان الفلسطيني.
ولأن الخطأ لا يقع كله على الخارج، فقد كان من الطبيعي أن تضيء مراجعة كيالي على العوامل المعيقة ضمن البنية الفلسطينية الموروثة والمستجدة، وأن تدل على مطارح تآكل النظام السياسي الفلسطيني، بسلطته وفصائله. لقد حصل ذلك، من دون اعتماد نفس عدمي ينعى كل ما قام به الشعب الفلسطيني، ومن دون وقوع في التبرير والذرائعية، بل لعل الكاتب «استرحم» لحركة الشعب الوطنية، عندما عاد مراراً إلى دور العوامل الخارجية، الدولية والعربية، وفي تصعيب مهمة الفلسطيني وتعقيدها، وعندما ركز على طبيعة الاحتلال الإسرائيلي، بخاصة في جانبه الاقتلاعي والإلغائي، ونفيه حدث نشوء الشعب الفلسطيني ووجوده من الأساس.
استعراض الإشكاليات الفلسطينية، والأزمة العامة التي تعصف بحركة التحرر الوطني، في ديار العرب وفي فلسطين، لم يشكلا مناسبة للدعوة إلى إلقاء السلاح الصراعي من جانب الفلسطيني، بل شكلت مناسبة للدعوة إلى إجراء مراجعة جادة عامة، تعين على تلمس المعضلات وتعيين الإخفاقات، وتفتح المجال أمام مروحة من الخيارات النضالية والسياسية، التي عرفت الأدبيات الفلسطينية بعضاً منها، من نوع الدولة الديموقراطية العلمانية الواحدة، فوق كل تراب فلسطين، بصرف النظر عن صحة الشعار هذا أو ذاك، يبقى أن الأهم هو قول الكاتب إن الهدف البعيد هذا، لا يتعارض مع أهداف سياسية أخرى، ولا مع كل الخطوات البرنامجية التدرجية، من نوع قيام الدولة المستقلة فوق جزء من أرض فلسطين. ما يدفع الكاتب إلى ذلك، هو اعتقاده بأن مشروع البديل المستقبلي لا بد أن تتوافر له شروط غير موجودة الآن، لكن ذلك لا يلغي النضال من أجله، لسببين أساسيين. أولها أنه يحفظ للفلسطينيين حقهم في الكرامة وفي العدالة، وثانيهما أنه يحرر الفلسطيني واليهودي من مسبقات تاريخية، من خلال عملية تحويلية، مجتمعية وثقافية وسياسية، تؤول إلى إلغاء الجوهر العدائي – الإفنائي للصراع، في منطلقاته البدئية.
حقَّ لماجد كيالي أن يراهن، وأن يتفاءل بالقدرة على ابتكار بدائل، وإن كان التفاؤل والرهان محفوفان «بأخطار» الحماسة اللازمة، خصوصاً بعد أن تكشفت «وعود الربيع العربي»، عن بروق ورعود، يخشى أن يكون سحابها الكثيف... زائفاً.

حرره: 
م.م