مارسيل خليفة: ‘سقوط القمر’ تحية لمحمود درويش

لندن ـ  الامر بالنسبة لمارسيل خليفة، جردة حياة، شاعر، موسيقى، تاريخ، أمكنة، حاجة ملحة إلى أن يقول كل شيء ليتخلص من ثقل أشياء عدّة ترمي بثقلها على الذاكرة، كما على الجسد والروح، يشعر بان كأن سنوات الحياة تهرب ويحاول أن يلتقطها، أن يستوقفها، يستدعي كل شيء مجدداً.
كل تلك السنوات التي عاشها مع شعر الفلسطيني الراحل محمود درويش تجعل عنده رغبة في نقل الأحداث والتواريخ والانطباعات، ورواية قصص تلك الأيام على نحو مفتوح، لا يطمئن ولا يستقر، ويبحث كل يوم، عن جديد في شعر درويش. لا يحب أن تبقى الأشياء على هيئتها، عشق المغامرة، لا يجيد السباحة، ولكنه غاص عميقاً في التجارب معه. مشحون بالتناقضات، رقيق مع الريح التي تلوي أغصانه، وحدها الموسيقى تحميه من القلق، شعر درويش عصيّ على الامّحاء، إذ إنه يستطيع أن يتجدد ويعيد تأليف نفسه مع الموسيقى، وتحويلها إلى أغنية، حسب وصفه.
انه مارسيل خليفة الذي بحث مع درويش عن أغنية تقودهما إلى المستحيل، تُرشدهما إلى الدروب المجهولة ليبلغا سرّ الفرح، يقول انه لايستطيع أن يشرح ما كتب من موسيقى لقصائد وأغنيات، نداء شعر درويش تشرّد في أعماق قلبه الذي دُقّ بوحشية ولا يعرف كيف يهدّئه. يبحث ويحاول القبض على الأغنية كيلا تفلت منه، إنها لعبة عبثية، صراع من أجل المستحيل، ظل وراء الاندهاش، بحث في الظلام بالنسبة له، يوماً بعد يوم تأتي القصيدة لينسجها من ألحان جديدة، مثل تنهيدة، مثل همسة، في ‘سقوط القمر’، مثلاً، يحمل قصيدة درويش في شفاه قلبه، يسدل بلذّة وشاح الصباح الندي.
‘القدس العربي’ حاورت مارسيل خليفة، الذي يحل ضيفا على العاصمة البريطانية لندن في 29 حزيران (يونيو) بقاعة الباربيكان، ليهدي روح الشاعر الفلسطيني محمود درويش البومه الجديد ‘سقوط القمر’، وسالته عن هذا العمل، فأجاب:
ألبوم ‘سقوط القمر’ هو تحية لمحمود درويش بعد غياب أربع سنوات، حاولت في البداية أن أكتب له شيئا ما، لكن فكرت أن أترك هذا الوقت لاحقا، وبعد أربع سنوات ارتأيت أن أكتب هذا العمل، وكنت أحييه من قصائده ومن موسيقى كتبتها عن القصائد وليس فقط أغنيات، هو نوع من التحية العميقة لصديقي الذي ذهب بعيدا ولكن بقي معنا شعرا. لم يولد ‘سقوط القمر’ من نزوة طائشة، خرج على منوال إيقاع الحب من نار لا يوقدها حطب البراري، من نقر على وتر القلب، من غفلة صوت مبحوح، من شرشف تضرّج بالدمّ القاني، من دمعة شاهدة على الولادة. نحن نعبث لينطلق المستحيل ونكتبه على ألواح الحياة. نعبث لئلا يضيع منا الجميل وينكسر. نبحث من جديد عن المعنى. يطيب لنا الشعر كما يطيب النبيذ. إن ‘سقوط القمر’ هو وترٌ في العود تُعذّبه النغمات، يبحث عن بياض ليهتدي بلحظة عذبة كالأغنية. وحده الحب في هذا العالم كان يفهمنا، يُقيم فينا، يُنادينا، يبني عشّه تحت حواجبنا، يحمينا من فضول المساء ومن بخار البن في الفنجان. إنه جوع إلى ليل الشهوة والنشوة والجمرة والحسرة ولسعة الريح في المساءات الشتوية. نرى أوراق التوت تتساقط عن جسد العالم. ولم نكن نشكّ في قمر الحب الذي سقط وغمر ليلنا الدامس بالفضة الصريحة. 
وحول شعور محمود درويش لو كان بيننا اليوم فماذا كان سيقول عن ‘سقوط القمر’، اجاب، ‘ربما كانت روحه ستعانق أوتار عودي كما غمرته ولا زلت أغمره في كل قصيدة’. 
وعن واقع الاغنية العربية الان ومستقبلها يرى مارسيل خليفة ان ‘الأغنية العربية في وضع صعب، جاء غزو الفضائيات العربية التي تروج لهذا الشيء التجاري الكاسح ومؤسسات المال التي تدفع لتهميش العالم، علينا أن نحاول الانتصار بالموسيقى لأن في ذلك تفوقا حضاريا وثقافيا مهما. والحضارة تصنعها لحظة تمرّد في مكانٍ ما، وهذا التمرّد مقترن بشروط المجتمع، بالمعنى الثقافي والإبداعي والاقتصادي والفكري. إذا لا ريب في أنّ الحراك الشعبي في العالم العربي سيترك أثراً ما’. 
اما عن ‘الكونشيرتو العربي’ الذي يقدمه ومدى جهوزية المستمع العربي لهذا النوع من الموسيقى وتقبلها، قال ‘في الكونشيرتو العربي فتح لحوار موسيقي بين الشرق والغرب وفيه تحديق في راهن الموسيقى العربية من خلال مرآة المستقبل، حيث الآلات العربية، كالعود والقانون والناي والبزق والرق، تمرح في حرية باسلة مع الاوركسترا السيمفونية، وتستعيد فضولها، وهي بالأساس صادرة عن انعكاسات تفجر الأعماق الإنسانية. الموسيقى تأخذ من كل الأمكنة بذورها، والموسيقى العربية جزء من موسيقى العالم. واذا اردنا تفكيك مكونات الكونشيرتو، فإننا نقوم بذلك بتفكيك صورته الفسيفسائية التي تتغذى من روافد متنوعة: روحية الشرق القديم، التراث الديني البيزنطي المتدفق، اللمسات الساحرة للموسيقى الفارسية، شجن العراق الغابر التي عرفت فيه المقامات، إيقاع الصحراء العربية، نشوة الباشراف التركية، الموسيقى الرجولية للأغاني الجبلية، والرقي الزخرفي لمدينة حلب، والنسيم العليل المنساب من الجنان الاندلسية المفقودة. وبالتأكيد أن هذا التنوع والزخم يغري مسمع أي إنسان وهذا ما حصل حين قدمت الكنشرتو العربي في قطروفي دار الأوبرا في دمشق’. 
وحول علاقته بنجليه رامي وبشار، اجاب، ‘بين رامي وبشّار وبيني علاقة إنسانية تخطّت الإطار التقليدي الذي يجمع بين الأب وأبنائه. إنّها علاقة مبنية على الحوار والبحث عن الجديد والمغاير. رامي وبشار يملكان مشروعاً موسيقياً هامّاً. التقينا فنّياً وتكاملت أدوارنا، فكان التقاء مشروعي ومشروعهما، ونحاول دائماً أن نطوّر لغتنا الموسيقية وأدواتنا متجنّبين مطبّ التكرار. هما ابنا هذا العصر الذي أجدني منجذباً إلى نبضه، ويستهويني الانخراط فيه أكثر فأكثر. يعيان أهمّية مشروعي الملتحف بالذاكرة والذي حفر فيها في الوقت نفسه، وقد رافقتْهما أغنياتي منذ نعومة أظفارهما. لا يمكن الفصل حالياً بين ما أقدّمه وبين ما يقدّمه رامي وبشار. نشترك في صناعة الحدث وتركيبه، إنْ على مستوى الكتابة الموسيقية أوالتأليف أو الأداء. نحضن آلاتنا بحنوّ وحميمية وحماسة، ونتعامل مع البيانو والعود والإيقاعات والآلات الكهربائية بطريقةٍ وأسلوبٍ جديدين. لكي تتبلور معالم هذه التجربة أكثر يجب أن ننتظر حتّى تنضج وتصدر في عملٍ مسجّل. 
وحول ما تشهده المنطقة من حروب وثورات واختلاط المفاهيم بين الثوري والاصولي، وما حققته الثورات العربية والصعود الاسلامي في دول الربيع العربي وتأثيره على الفن، قال ‘لم أنتظر الحدث كي أصنع مشروعا ثقافيا أو فنيا فلي إرث غنائي رافق الحراك الشعبي العربي في أوج وهجه ولي أيضا من الأعمال التي تتغنى بالحرية’.
واضاف ‘علينا أن ندرك خطورة الخطط المعاكسة للثورات المضادة التي تخترق ذلك النبل الذي يتحلّى به الشباب العربي. النظام العالمي الجديد هو نظامٌ موغل في القِدَم ويعيدنا إلى التوسّع الاستعماري مذكّراً بالعصر الحجري حيناً والقرون الوسطى حيناً آخر. التيّارات الأصولية المدمّرة موجودة في كلّ الأديان: اليهودية، والمسيحية، والإسلام… يجب أن نتخلّص من تلك الأصوليات. طريق النضال لا تخلو من العراقيل والمشاقّ. أحزن لرؤية هذا المشهد وأبحث عن منفذٍ، عن ضوءٍ يلوح في أفقٍ بعيد. ينبغي الاشتغال على ثقافة الحرّية والديموقراطية، للحرّية قواعد وأسس ولا بدّ من تكريسها. والفن بدون حرية يستحيل أن يكون له وجود، و الفنان الذي لا يكون حرا، لا يمكن أن يكون فنانا على الإطلاق’. 
وقال لجمهوره العربي والغربي الذي ينتظر اعماله دائما بفارغ الصبر ‘أريد أن أقول إن وجودي بينكم يمدني دائما بحافز جديد للحياة والعطاء لنواصل معا صياغة سعادتنا بأعمال متجددة تنبض بالحب والحرية’.