«بيوت فلسطين» لروجرز.. يوميات النساء

بقلم: محمود شريح

ماري إليزا روجرز التي وفدت من لندن بحرًا إلى حيفا في صيف 1855 عبر بولونومرسيلي ومالطا والإسكندرية دوّنت تجربتها بدقّة وهي في فلسطين على مدى أربعة أعوام (1855-1859)، والمؤلفة هذه سيّدة إنكليزية خبرت بنفسها الحياة اليومية لمعظم شرائح المجتمع الفلسطيني في خمسينيات القرن التاسع عشر، عندما رافقت أخاها إدوارد توماس روجرز، الموظف الديبلوماسي الإنكليزي الذي خدم في عدّة مناصب قنصلية وديبلوماسية في البلاد العربية، وتحديدًا في القدس وحيفا وبيروت ودمشق والقاهرة، في العام 1855 لدى عودته إلى فلسطين لمزاولة مهام منصبه الديبلوماسي الجديد نائبًا للقنصل البريطاني في حيفا، فأقامت معه حتى 1859.

وحين سطّرت ماري إليزا روجرز كتابها «الحياة في بيوت فلسطين» (عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013)، ونشرته بالإنكليزية في 1865 بعنوان Domestic Life in Palestine فهي كشفت عن تفاصيل الأنماط المعيشية للفلسطينيين آنذاك، مركّزة في تدوينها على شمالي فلسطين، لا سيّما حيفا والبلدات والقرى الشمالية، إلا ان الكتاب غطّى معظم مناطق فلسطين وتحدّث عنها.

وها هو هذا الكتاب الثمين يبصر النور بالعربية في ترجمة نهض بها جمال أبو غيدا، الذي يقرّ في تمهيده بأن أمانة النقل والترجمة اقتضت منه إبقاء النصّ الأصلي للكتاب على ما هو عليه ما أمكن، لمساعدة القرّاء على التعرّف الى الذهنية الدينية الرومانسية التي دمغت آراء المثقّفين الأوروبيين عمومًا والإنكليز خصوصًا، حول «الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً» وشعب الله المختار والمضطهد في آن، قبل أكثر من 70 عامًا من صدور وعد بلفور، وحوالي 90 عامًا مما أنزله هتلر بيهود ألمانيا والبلدان التي احتلّها في أوروبا.

في مقدّمتها للكتاب، تلاحظ مي صيقلي المحاضرة في جامعة وين ستيت في ديترويت في ولاية ميشيغان، أن هذا الكتاب كنز من المعلومات عن مواضيع كثيرة كانت حاضرة في الذهن وفي الواقع وفي الحقبة التي دوّنتها الكاتبة، إذ إنها قدّمت للقارئ عادات المجتمع الفلسطيني وعلاقاته وجالياته وطوائفه وقضاياه الجدلية المتعلّقة بوجوده، مع إشارات المؤلفة إلى أسماء وذريّات العائلات في البلدات والقرى التي زارتها، أي ما يقدّم سجلا طيبًا للمؤرخين ويثري خزائن مراجعهم، في ترجمة عربية ممتازة ذات أسلوب رشيق وعبارات دقيقة وصياغة رائقة للعين واللسان، إضافة إلى أن الكتاب مصدر حافل بالمعلومات وشائق في الأسلوب.

الكتاب دلالة واضحة على أن السيدة روجرز اطلعت، خلال الأحاديث الحميمة التي كانت تتبادلها مع الذين عرفتهم من أهل فلسطين، على مؤشرات مهمة ودقيقة عن مقدار الوعي الفكري والسياسي المبكر لمجتمع فلسطين آنذاك، فمن الجليّ أن تلك الفترة شهدت بزوغ البدايات الأولى لنشوء الوعي القومي العربي، وما صاحبه من تنامٍ للإحساس بالعروبة كهوية قومية واضحة المعالم على المستوى الشعبي. إلاّ ان المحور الأبرز في مؤلف السيدة روجرز سردها للأنماط الاجتماعية لحياة النساء في كافة أطياف المجتمع الفلسطيني، مسلّطة الضوء على حياة النسوة الريفيات في قراهنّ وبلداتهنّ، وعلى سيدات المجتمع في المدن الأكبر والأكثر تعرّضًا للتأثير الغربي.

الكتاب هنا منطلق لمعرفة حقبة تاريخية بالغة الأهمية، وهي مرحلة لا تزال حيّة في الذاكرة الجمعية لأهل فلسطين في الوطن والمهجر.

حرره: 
م.م