الصحراء الليبية متوحشة اكثر من أي وقت مضى

بقلم: تسفي بارئيل

كل سبت يبث فيلم في النادي الثقافي ‘أريتي’ في طرابلس العاصمة الليبية. قبل اسبوعين كان هذا دور ‘كيرمر ضد كيرمر’، وفي الاسبوع الماضي تعرف بضع عشرات من مواطني طرابلس على الممثلين الاسرائيليين صالح بكري ومنشه نوي في فيلم ‘الزمن المتبقي’، الذي أخرجه الياهو سليمان. لا توجد دور سينما في ليبيا، فقد أغلقت قبل عشرات السنين بأمر من القذافي، ونادي ‘أريتي’ الذي فتح أبوابه في تشرين الاول/اكتوبر الماضي، هو شرارة اولى في الحياة الثقافية الحديثة، زاوية من سواء العقل، في دولة من الصعب ان نعرف فيها اذا كانت العيارات النارية تصدر من الشاشة ام من الشارع المجاور. وحتى عندما يتبين أن الرصاص هو رصاص حي حقيقي، من الصعب معرفة من ضغط على الزناد الجيش، الشرطة ام المقاتلون الذين ينتمون الى نحو300 ميليشيا مسلحة تعمل في الدولة.

ليست دور السينما وحدها تنقص في ليبيا، فالجهاز القضائي المرتب وذو الصلاحيات هو الاخر لا يؤدي دوره، ولا أيضا الحكومة، الجيش والمؤسسات المالية. بعد سنتين من اسقاط وقتل القذافي، في اكتوبر 2011، لا توجد لليبيا بعد صيغة دستور ولا توجد ايضا لجنة متفق عليها لصياغته، وحتى القانون الذي يفترض أن يرتب انتخاب مثل هذه اللجنة لم يقر في البرلمان بعد.

رغم التعقيد السياسي الذي نشأ في مصربعد الثورة، فان ليبيا، التي كانت قوات الناتو جزءا فاعلا في ثورتها، يمكنها أن تحسد جارتها من الشرق: فالمؤسسات المصرية تعمل على الاقل، الجيش منظم وفي شوارع القاهرةلا تتجول ميليشيا مسلحة. وكانت ليبيا مستعدة حتى لان تكون في وضع تونس، التي نجح الحكم فيها، مع كل انشقاقاته في فرض النظام.

حتى عندما يكون هناك توافق على تشريع مبدئي في ليبيا، يتبين أنه قد يضر الدولة أكثر مما ينفعها. هكذا مثلا قانون منع تشغيل المسؤولين الكبار في نظام القذافي. هذا قانون جاء ظاهرا لتصفية حسابات الماضي من دون سفك دماء. ولكن عندما لا يميز المشرع بين من عمل بتصميم على اسقاط القذافي ومن خدمه بولاء، قد تخسر ليبيا كفاءات ادارية وسياسية كثيرة تحتاجها جدا. وهكذا اضطر رئيس البرلمان الجديد، يوسف المكريف، الى ان يستقيل من منصبه لانه تولى في السبعينيات منصبا كسفير ليبيا في الهند. وحقيقة أنه منذ 1980 كان عضوا كبيرا في ميليشيا عملت على اسقاط القذافي وحاولت اغتياله، وحقيقة أنه نفي على مدى ثلاثين سنة الى الولايات المتحدة لم تجده نفعا. فجأة، القانون هو قانون.

نحو 6.5 مليون مواطن في ليبيا ينتظرون ان يحصل شيء ما فيتمكنون على الاقل من التجول في الشوارع من دون خوف من رصاصة طائشة أو مقصودة. في الاسبوع الماضي قرر سكان في بنغازي ملوا نشاط احدى الميليشيات المسلحة وتدعى ‘درع ليبيا’ فهاجموا قاعدتها في المدينة. 31 شخصا قتلوا في هذا الاشتباك العنيف، الذي اصيب فيه المواطنون ضمن امور اخرى بعيارات مضادة للطائرات، قبل ان يأتي الجيش ويفرض النظام. وفي الشهر الماضي حاول الجيش اغلاق قاعدة ميليشيا، تتبع بالمناسبة رئيس الاركان نفسه، من دون نجاح.

تعمل بعض من هذه الميليشيات في المناطق النائية، واخرى تعمل في المدن الكبرى. بعضها يتشكل من مجرمين ليس الا، واخرى تنتمي الى وزارة الداخلية، وزارات حكومية اخرى، حركات اسلامية او لرئيس الاركان وتعمل كقوة ردع ذات صلاحيات واسعة يحدد قادتها حجمها. والموضة الجديدة هي اختطاف صحافيين ينتقدون نشاط الميليشيات، ارسال كتب تهديد او المس بهم مسا مباشرا. كما أن مواطنين عاديين يجدون أنفسهم ملقى بهم على مدى أيام في غرف اعتقال اعدت على عجل. فلا يعرف أهاليهم أين هم، أما عن التمثيل القانوني فلا يمكن الحديث.

هذا الاسبوع قرر رئيس الوزراء، علي زيدان اصدار مرسوم يأمر بحل كل الميليشيات في الدولة، حتى نهاية السنة. وقد اقال رئيس الاركان يوسف منروش، كي يهدئ غضب المواطنين، ولكن احدا لا يتعاطى بجدية كبيرة مع هذا المرسوم. وحتى قادة الـ12 ميليشيا ‘المقرة’ (من قبل السلطات) لم يتوصلوا هذا الاسبوع الى اتفاق على ذلك، وتوجد مئات اخرى من العصابات والميليشيات التي تحتفل في الدولة. وبدون حل الميليشيات وفرض مرجعية الدولة في كل ليبيا، فحتى انفاذ القانون يعد مهزلة. بضع محافظات أعلنت منذ الان ‘استقلالها’ وهي تدير شؤونها بمؤسسات محلية لا تخضع للحكومة.

يؤثر انعدام الامان الشخصي بشكل دراماتيكي ايضا على قدرة اعادة البناء الاقتصادي للدولة. صحيح أن ليبيا تتمتع بدخل من تصدير النفط، ولكن التقدير هو أن مصادر النفط ستنفد بعد 77 سنة، واقتصاديون ليبيون يحاولون العثور على سبل لتنويع مصادر الدخل واجتذاب مستثمرين يطورون فروع الصناعة أيضا، بما فيها السياحة. ولكن السياح لا يأتون الى ليبيا، والمستثمرون الاجانب او المحليون لا يسارعون الى استثمار أموال في دولة مستقبلها السياسي والامني محاط بالغموض.

المال لا ينقص في ليبيا، حسب تقارير مؤسسات تمويلية، البنوك الليبية وبعضها بملكية حكومية، تحوز أكثر من 54 مليار دولار، ولكن هذا مال لا يعمل من اجل الجمهور، فالبنوك لا تسارع الى اقراض المال للمواطنين او للمستحدثين الخاصين الصغار، إذ ليس لديها ضمانات لتسديد القروض. وعندما يكون جهاز انفاذ القانون والقضاء لا يعمل، فلن يكون هناك من يحرص على فرض العقود التي توقعها هذه البنوك مع زبائنها.

مشكلة اخرى هي انه ليس في ليبيا جهاز لجمع المعلومات عن الزبائن، كما هو في الغرب يمكنه ان يوفر للبنوك الادوات لاستيضاح ما اذا كان هذا مقترضا طيبا أم خطيرا.

ولكن الاسوأ من ذلك هو أن الزبائن الخاصين يجدون صعوبة في تقديم ضمانات حقيقية للقروض شققهم مثلا لان تسجيل الملكية على الشقق مشكوك فيه بسبب الطريقة التي انتهجها القذافي.

فالاخ القائد المفكر القذافي قرر في حينه ان تأجير شقة هو‘برجوازية ظالمة’ وفرض الحظر عليه. وكانت النتيجة هي انه في أربعين سنة من حكمه سيطر عشرات الالاف، وربما مئات الاف الغزاة على شقق فارغة، باعوها واشتروها من دون وثائق او تسجيل.

اما الان فليست لديهم الوثائق التي تشهد على ملكيتهم. وفي ظل عدم وجود الوثائق، لا توجد قروض يمكنها أن تطور طبقة وسطى تجارية فاعلة. وعليه، تواصل الحكومة كونها رب العمل الاكبر في الدولة، ولكن البطالة الرسمية تقدر بـ15.5في المئة.

ومع ذلك، توجد في ليبيا أعمال اخرى مدرة للدخل التجارة بالسلاح مثلا. بعد الثورة، اصبحت ليبيا مركزا لنشر السلاح من كل نوع ولكل غرض.مئات الاف قطع السلاح الليبية تصل الى مصر وسيناء، الى دول في افريقيا، وفي السنة الاخيرة أيضا الى الثوار في سورية. جمع السلاح هو مهمة سهلة بالنسبة للثوار، وعلى حد قول أحد تجار السلاح الكبار، عبدالباسط هارون، في مقابلة مع ‘رويترز′ فانه هو نفسه بعث بارساليات سلاح عديدة الى سورية، عبر الجو، عبر الاردن وتركيا.

وهذا الشهر يعتزم اطلاق ارسالية كبيرة اخرى. ويروي هارون بانه يتلقى تخفيضات كبيرة لان المساعدة للثوار في سورية تنال العطف حتى في أوساط اصحاب السلاح غير القانوني. هذه الارساليات، بالمناسبة، تتم تحت سمع وبصر الجيش الليبي.

ليبيا اليوم هي دولة عالقة، بخطر التحطم، بعيدة جدا عن تحقيق تطلع الثوار الذين اسقطوا القذافي. ولكن يمكن للمرء أن يشاهد فيها فيلم يوم السبت.

حرره: 
م.م