محمود درويش أمير الكلام

بقلم: سمير الزبن
(مقدمة كتاب: محمود درويش يكسرُ إطار الصورة ويذهب ـ مراثي )
«من سماء إلى أختها يعبر الحالمون»
(محمود درويش، لماذا تركتَ الحصان وحيدًا؟)
من حسن حظّ التجربة الملحمية الفلسطينيةـ إذا كان للمآسي حظّ ـ أنْ وَجدتْ مُنشدَها وراويَها في محمود درويش. فالحقّ أنه لم يُتح للتجربة الفلسطينية أن تجد راويَها في ديوان العصر، أي الرواية، لسيولةٍ في تتابعها التاريخي لم يعطِ للفلسطينيين فسحةً في تأمل تجربتهم، تجعلهم يدوّنون مأساتَهم في فنّ الرواية، ولنقصٍ في المواهب الروائية لم ترتقِ إلى القمم العالية للتراجيديا الفلسطينية. فكان على درويش أن يحمل المهمةَ شعرًا، وأن يروي التجربة شعرًا، وأن يضيف إلى فلسطين بعدًا جماليّاً لهويتها، ما كانت لتكون دونه. فقد دوّن التجربةَ محطةً محطةً، وأعلاها إلى مستوى النشيد الملحمي. ولم ينتظر ما ستُسفر عنه التجربةُ كي ينشدها، بل أنشدها والتجربةُ في طريقٍ لا أحد يعرف نهايتَه؛ فكان «الطريقُ إلى البيت أجملَ من البيت».
أعمالُ درويش موصولةٌ بخيطٍ سريّ من حرير، حيث العملُ ليس ابنَ لحظته بل يتّكئ على سابقه ويَحْبل بالقادم: إنه برزخٌ بين عملين. فرغم القطائع الواضحة في شعر درويش، فإنها ليست قطائعَ نهائيةً وانعطافية، بل قطائعُ تكميلية باتجاه الارتقاء بالشعر إلى لغة الشعر الخالص، دون قطعه عن واقعه، أو عن التاريخ، وفي الوقت ذاته، دون جعله أسيرَ هذه اللحظات حتى لا يموت معها. ورغم أهمية هذه المهمة التي لعبها درويش في التجربة الفلسطينية على مدى أكثر من أربعة عقود، فإنّ من الظلم اختصارَ تجربته بوصفها تدوينًا للملحمة الفلسطينية الحديثة فحسب. فللتجربة الشعرية لدرويش وجوهٌ متعددة أخرى؛ فعلى مستوى آخر مثلاً، تمْكن قراءةُ التجربة الدرويشية بوصفها واحدةً من التجارب الكبرى في تأمّل الوجود والقلق الإنساني. والحال أنّ وجوه درويش المتعددة لا يمكن فصلُها: فهي مجدولة كضفيرة، بين الشخصيّ والعامّ والإنساني والوجودي...الخ ما يجعل من الصعب تفكيكُها وعرضُها بحثيّاً. وبالتأكيد، فإنّ كلّ عمل نقدي للأعمال العظيمة هو خيانةٌ لها، لأنه يفكّكها ويعيدها إلى مصادرها الأولى، ويفقدها وحدتَها وانسيابَها ولحظةَ التماعها. لا نقل هذا لنُفْقد النقدَ معناه ووظيفته؛ على العكس، إذ لا نصّ فوق النقد مهما كان عظيمًا. ولكنْ لأنّ النقد «نصٌّ على نصّ،» فإنه يقتات على النصّ الأصلي المنقود. ولأنّ نصّاً منقودًا بقامة نصّ درويش عالي المكانة والجمالية، فإنّ نقده يُقصّر من قامته، بما في ذلك الكلماتُ التي أكتبها.
الشعر لحن الحياة
كتب محمود درويش شعرًا من لحم ودم، شعرًا قادمًا من الحياة، معجونًا بتجربة البشر وبتجربته الشخصية. لم يكتب شعرًا آتيًا من المعاجم وبلغة مقعّرة كي يدلّل على قاموسه اللغوي الغني؛ على العكس: قاموسه اللغوي فقير، على عكس قاموسه الشعري الغنيّ والعميق. ولأنّ شعره لا يأتي من المعاجم، فهو يغتني بتجارب الحياة. يقول درويش في مقابلة طويلة له مع جريدة الحياة عام 2005 أجرها معه عبده وازن: «كلُّ ما أكتبه في الحبّ أو في سواه ناجمٌ عن تجارب حيّة.» لذلك نجد أنّ التحولات الفنية لدى درويش ارتبطتْ هي نفسُها بتغيّرٍ في الواقع المحيط به، أو بتجاربَ شخصيةٍ كان لها وقعُ الانعطافة.
فقد جاء التحوّل الفني الأول بعد خروجه من فلسطين، وكان عنوانَه قصيدتُه «سرحان يشرب القهوةَ في الكافتيريا.» والتحول الثاني جاء بعد الحرب الأهلية اللبنانية في قصيدته «أحمد الزعتر.» والتحوّل الثالث جاء بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في القصائد التي تلت قصيدتَه «مديح الظل العالي.» أما تحوله الفني الأخير، الذي أدخله مرحلتَه التأملية، فقد جاء عقب التدخل الجراحي الثاني في القلب عام 1998 التي كتب بعده «جدارية» وتتوجت هذه المرحلة في كتابه، «في حضرة الغياب»، الذي استخدم درويش لتحديد جنسه الأدبي تعبيرَ «نص»: فلم يقل إنه شعر، ولم يقل إنه نثر. وهي مرحلته العليا والأجمل والأعمق في تجربته، والتي اختطفه الموت في ذروتها، وعنها قال: «أعتقد أنني الآن في مرحلةٍ أحاول فيها أن أنظّف القصيدة مما ليس شعرًا.» لقد كان حريصًا في المقابلات الصحفية التي أجراها في السنوات الأخيرة على التأكيد أنه «لو أتيح لي لحذفتُ نصف أعمالي.» ولكنّ النصف الثاني من أعماله ما كان ليكون دون النصف الذي يرغب في حذفه. ولأنّ أيّ شاعر أو كاتب لا يمكن أن يكتب أعمالَه على سويةٍ واحدة، فإنّ الكتابة تعلّمٌ من الآخرين وتعلّمٌ من الذات. وكان درويش تلميذَ الآخرين، وتلميذَ ذاته؛ وقبل هذا وذاك، كان تلميذَ الحياة.
منذ بداياته الأولى التي أعطته صفةَ «شاعر المقاومة الفلسطينية» (وهي صفة لم يكن يحبها)، لم تكن قصائده شعاراتية. وإذا كان كثير من قصائده يملك نبرةً خطابية وتفاؤلاً قد يكون ساذجًا في بعض الأحيان، فإنها لم تخلُ من تفاصيل الحياة، ومن التعابير الجمالية عنها. ففي حين كتب: "يا داميَ العينينِ والكفين/إنّ الليَل زائلْ/لا غرفةُ التوقيفِ باقيةٌ/ولا زردُ السلاسلْ!/نيرون مات ولم تمتْ روما/بعينيها تقاتلْ!/وحبوبُ سنبلةٍ تموتُ/ستملأُ الوادي سنابلْ!"... فإنه في الفترة ذاتها كتب أيضًا: "كلامُك، كالسنونو، طار من بيتي/فهاجر بابُ منزلنا وعتبتُنا الخريفية/ وراءك، حيث شاء الشوق..."
إنّ الحياة تفرض شروطَها، وتفرض ذاتَها على الشاعر وعلى قصيدته، فيقول في قصيدةٍ عكس ما قاله في أخرى أحيانًا. ذلك أنّ الأحوالَ تغيّرتْ، والمواقعَ تبدّلتْ، والبلادَ لم تعد البلاد، وعليه أن يقول ما كان لا يحبّ قوله. فعندما كان على أرض الوطن كتب: "آه يا جرحي المكابرْ/وطني ليس حقيبة/وأنا لستُ مسافر..." ولكنّ الشاعر في مكانٍ آخر وفي زمانٍ آخر، يجد نفسه يكتب، في منفاه وفي رحلته ورحلة شعبه إلى منفى آخر، كلماتٍ أخرى لواقعٍ جديدٍ وتجربةٍ جديدة، فلا يحرص على الانسجام مع ما قاله في الماضي. ولو كان التناقض هو العنوان الواضح، فإنه شكليٌّ في الواقع لا غير. فما قاله بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان مناقضٌ لما قاله عندما كان في الجليل لأنّ الواقع هو المتناقض، لا جرس الكلام الذي يصنعه الشعر معبراً عن الحياة: "وطني حقيبة/وحقيبتي وطنُ الغجر/شعبٌ يخيّم في الأغاني والدخان/شعبٌ يفتّش عن مكان/بين الشظايا والمطر!"
الحب والشعر
لا يمكن فصلُ شعر درويش عن الحبّ، كما لا يمكن فصلُه عن الموت؛ فكلاهما يخترق أعمالَ الشاعر من بدايتها حتى القصائد الأخيرة. ويمكن اعتبارُ درويش شاعرَ الحبّ بامتياز (وهنا أقول "شاعر الحب" لا شاعر الغزل). ففي قصائده الكثيرُ مما عبّر عن الحبّ بأكمل حالاته الإنسانية، الحبّ الذي يسحرنا ويتركنا مذهولين أمام وقعه وتحوّله إلى كلماتٍ تقولنا دفعةً واحدة: "أعدّي لي الأرضَ كي أستريح/فإني أحبُّكِ حتى التعبْ.../صباحُكِ فاكهةُ الأغاني/وهذا المساءُ ذهبْ/.../وأنتِ الهواءُ الذي يتعرّى أمامي كدمعِ العنبْ/وأنتِ بدايةُ عائلة الموج حين تشبّث بالبرِّ/حين اغتربْ/وأني أحبُّكِ، أنتِ بدايةُ روحي، وأنتِ الختام." وهذا ما يقوله الرجل لحبيبته، لا تشبيه ولا مجاز فيه. المرأة هنا لا تعبّر عن الوطن أو الأرض، بل هي المرأة الإنسان من لحم ودم، المرأة الحبيبة بعينها. أما المرأة الحبيبة فتقول في القصيدة ذاتها: "وحين ينام حبيبي أصحو كي أحرس الحلم مما يراه/وأطرد عنه الليالي التي عبرت قبل أن نلتقي/وأختار أيامنا بيدي/كما اختار وردة المائدة."
كتب درويش تنويعات كثيرة على الحب، تصل إلى مستويات استثنائية في مقاربة المشاعر الإنسانية المشتركة بين كلّ البشر. فنداءُ الحب ليس خاصّاً بلغة معينة، ولكنّ أدوات تعبيره تمتنع عن كلّ المحبين، أما هو فيقطفها لهم كالنجوم تنير سماءً مظلمة: "... دقي بكعب حذائك/أيقونةَ الكون تهبط إليك الطيورُ. هناك/ ملائكة... وسماءٌ مُدرَّبة فاصنعي ما تشائين!/ دقّي القلوب ككسِّاره الجوز/يبزغ دمُ الأحصنة!"
وللحب وجوه، وليست العلاقة بين الحبيب والحبيبة إلاّ أحدها. بل هناك الكثير في هذه الحياة يحتاج إلى الحب حتى يكون، والأم واحدة منها. وقد كتب درويش أجمل قصائده إلى أمه. ففي قصائد بدايته كتب: "خذيني، إذا عدتُ يومًا/ وشاحًا لهُدبِكِ/وغطّي عظامي بعشبٍ/تعمَّدَ من طهرِ كعبِكِ/وشُدّي وثاقي/بخصلةِ شعرٍ/بخيطٍ يلوّح من ذيلِ ثوبِكِ/عساني أصيرُ ألهًا/إلهًا أصير/إذا ما لمستُ قرارةَ قلبكِ!" وبعد حوالى ثلاثة عقود عاد ليكتب لها «تعاليم حورية» وهذا لا يعني أنّ أمّه، أو الأمّ، غابت من قصائده الأخرى، بل على العكس فهي لازمة من لوازم شعره. ولكنّ هذه من القصائد التي دارت حولها تحديداً: "فكرت يوماً بالرحيل، فحطَّ حسون على/ يدها ونام. وكان يكفي أن أداعب غصن/دالية على عجل... لتدرك أنّ كأس نبيذي/ امتلأت. ويكفي أن أنام مبكراً لترى/ منامي واضحاً، فتطيل ليلتها لتحرسه."
الموت وجه الحياة
الموت هو وجه الحياة. ولأن الأشياء تتعرّف "بضدّها،" فإنّ الموت هو ما يعطي الحياةَ المعنى. وقد تأمّل درويش الموت، وتأمّل موته الشخصي، الذي كان دائمًا قريبًا منه. ورثى الكثيرين من أصدقائه على مدى تجربته الطويلة، وخاف أن لا يجد من يرثيه رثاءً لائقًا، فرثى ذاته قبل أن يموت! وكانت كلماتُه التي كتبها بحبر غرابه من أقوى ما استُخدم في رثائه بعد رحيله.
رثى نفسه بكلماته قبل موته ورسم «جداريتـ»ـه الكاملة. ولأنّ أحدًا لا يستحق كلماته أكثر منه، فقد نظر إلى نفسه «في حضرة الغياب» ليكتب نصّه المطلق، النصَّ الأعلى. والكتاب كلُّه رثاءُ الذات في أجمل صوره الممكنة وأنصعها، يصوِّر الرحلةَ النهائية إلى العدم. يخاطب نفسَه: «سطرًا سطرًا أنثركِ أمامي بكفاءة لم أوتِها إلاّ في المطالع.» يقوم بهذه المهمة منتظرًا موعدًا مع الموت تأخّر إلى اليوم: «فلأذهبْ إلى موعدي، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه غيرُ أسلافي، بشاهدةٍ من رخامٍ لا يعنيني إنْ سقط عنها حرفٌ من حروف اسمي، كما سقط حرفُ الياء من اسم جدي سهوًا.» لقد انتظر العدم الذي آخذ آخرين، وكانت الدواوينُ التي أصدرها في السنوات الأخيرة مشغولةً دائمًا بسؤال الموت ومتحدّيةً له، فيها يتأمّل الشاعرُ أناه ويحاورها في لحظةٍ كأنها البرزخُ بين الحياة والموت: «فأنت مسجّى أمامي/ كقافيةٍ غيرِ كافية لاندفاعِ كلامي إليك/ أنا المرثيُّ والراثي/ فكّني كي أكونَك/ قمْ لأحملَك/ اقتربْ مني لأعرفك/ ابتعدْ عني لأعرفك!»
في المسار إلى قبرٍ بشاهدةٍ متواضعة، يتأمّل درويش الموت من خلال تجربة الحياة. والتجربة الشخصية ليس منفصلةً عن التجربة العامة التي طبعتْ حياةَ الشاعر وحياةَ شعبه بخاتمها: «بمذبحةٍ أو اثنتين، انتقل اسمُ البلاد، بلادِنا، إلى اسمٍ آخر. وصار الواقع فكرة، وانتقل التاريخ إلى ذاكرة.» من هذه التجربة يولد الشخصي والخاص، ولا يمكن عزلهما الواحد عن الآخر: «وعشت لأنّ يدًا إلهية أنقذتك من حادثة، عشت في كلّ مكان كمسافرٍ في قاعة انتظار في مطار يرسلك، كبريدٍ جويّ، إلى مطار.. عابرًا عابرًا بين اختلاط الهنا بالهناك، وزائرًا متحرّرًا من واجبات التأكد من أيّ شيء.»
في أمسياته في السنوات الأخيرة التي أقامها في العالم العربي، قرأ مقاطعَ من جدرايته، وهي القصيدة الأكثر اكتمالاً في تجربته لأنها تأتي من ذروة التجربة مع الموت ومن ذروة التأمل في الحياة والحب والفنّ. إنها البيان الشعري الملحمي الختامي لدرويش الذي طلب في نهايتها قبرًا، وقبرًا فقط. هذا التأمل العميق للتجربة مع الموت جعل الشاعر ينتصر على الموت بالفن، أو بمراوغته وترويضه. وبقراءته لمقاطع من الجدارية في كلّ أمسية كان كأنه يوزع جداريته على المدن التي أحبَّها وأحبّته. ففي هذه القصيدة الملحمية، تأمل الشاعر موته الشخصي: "مثلما سار المسيح على البحيرة/سرت في رؤياي، ولكنني نزلت عن/الصليب لأنني أخشى العلو، ولا/أبشّر بالقيامة. لم أغير غير/ إيقاعي لأسمع صوت قلبي واضحًا."
في ديوانه لماذا تركتَ الحصان وحيدًا يكتب درويش سيرته الذاتية شعريّاً. وهو الديوان الذي صاغه ببنية روائية أكثر من صياغته كديوان شعر، وطرح فيه العديد من التساؤلات، وصوّر فيه تناقضات فيها من خصوصية التجربة الكثير الذي يرفعها إلى مرتبه الأسطورة، يخاطب عدوه: «سلّم على بيتنا يا غريب./فناجين/ قهوتنا لا تزال على حالها. هل تشمّ/ أصابعنا فوقها؟ هل تقول لبنتك ذات/الجديلة والحاجبين الكثيفين إنّ لها صاحباً غائباً،/ يتمنى زيارتها، لا لشيء.../ ولكن ليدخل مرآتها ويرى سره:/كيف كانت تُتابع من بعده عمره/بدلاً منه؟ سلم عليها إذا اتسع الوقت...»
سؤال الموت، سؤال ملح في التجربة الشعرية الأخيرة لدرويش، ليس بوصف الموت حالة من العدم، بل بوصفه كاشفاً لجماليات الحياة، فإن الموت يدفع إلى اكتشاف جماليات التفاصيل في حياة تهرب من أيدينا، دون أن ننتبه إلى أنفسنا. ولأن الموت يأتي دائماً في الوقت غير المناسب، ولأن البشر دائماً عالقين في شبكة من الأسر والمشكلات على كل المستويات، فإن الموت يجعل للحياة معاني أخرى، تدفع إلى الاحتفال بالتفاصيل: «الآن، في المنفى... نعم في البيت،/ في السّتين من عمر سريع/ يوقدون الشمع لك/ فافرح، بأقصى ما استطعت من الهدوء،/ لأن موتاً طائشاً ضلّ الطريق إليك/من فرط الزحام... وأجّلك»
ولأن سؤال الموت هو سؤال الوجود، فإن الشاعر يبحث عن موته في كل مكان، حتى في جنازات الآخرين، فجنازات الآخرين هي جنازاتنا المؤجلة بالصدفة، وإن لم نشغل هذا التابوت سنشغل الذي يليه، ولكننا نحيا بمحض الصدفة، أو لأمر الهي، أو لخطأ في القصيدة:
«فالموتى سواسية أمام الموت.. لا يتكلمون/ وربما لا يحلمون.../
وقد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي/ لكنّ أمراً إلهياً يُؤجلها/ لأسباب عديدة/ من بينها خطأ كبير في القصيدة!»
وفي مواجهة أسئلة الحياة نحتاج إلى المواربة، ولأن البشر يخسرون دائماً معاركهم مع الزمن، الذي لم يربح أي بشري المعركة معه. فإن الالتفاف على الوقت أو محاولة تأجيله، ولو كان ذلك أسئلة ضد البداهة، ولكن ما يمنع الشعر من طرح كل الأسئلة. فالحياة تستحق ذلك، وتستحق أن تخطر على بال البشر، أفكار ضد الوقت، تحاول وقفه: «أمشي خفيفاً، فأكبر عشر دقائق،/ عشرين، ستّين... أمشي وتنقص/ فيّ الحياة على مهلها كسعال خفيف./ أفكر: ماذا لو أني تباطأت، ماذا/ لو أني توقفت؟ هل أوقف الوقت؟/ هل أربك الموت؟ أسخر من فكرتي،/ ثم أسأل نفسي: إلى أين تمشين/ أيتها المطمئنة مثل النعامة؟ أمشي/ كأن الحياة تعدّل نقصانها بعد حين./ ولا أتلفت خلفي، فلن أستطيع/ الرجوع إلى أي شيء، ولا أستطيع/ التماهي»
يحاور درويش نفسه في قضايا الذاكرة والتاريخ والوجود والمعنى والاستعارة والمنفى والشعر والوطن وغيرها من القضايا التي طالما أرقت الشاعر في تجربته الشعرية، التي حاول أن يجد لها معادلاً إبداعياً شعرياً، معادلاً يقول التجربة الحياتية الخاصة لشخص خاص ولشعب خاص، ليس بالمعنى الجيني، بل بالمعنى التاريخي، لتشظي شخص، كان معادلاً لتشظي وطن، وليقوله وليقول تجربته في نص شعري على مدى أكثر من أربعة عقود، مكثفاً القول الجمالي والتاريخي لتجربة فيها من الخصوصية بقدر ما فيها من الألم. في المنفى يكتوي الشاعر في الطريق المؤدي إلى لا هدف كما طريق الغجريات، والمنفى هو تجربة التعامل مع الأشياء من داخلها ومن خارجها في ذات الوقت، تأمل في الذات والآخر «في المنفى تدريب على التأمُّل في ما ليس لك، وإعجاب بما ليس لك. فالمنفى يهذّب الجسد، يفتنك جمال الشكل، ولو كان المعنى ناقصاً، فالكمال هو وعي النقصان» ففي المنفى يسكن الشاعر، والمنفى لا عودة منه، ولأن «التدريب الطويل على الألفة هو ما يجعل الحياة ممكنة» فالمنفى يحتاج إلى تدريب من نوع خاص «إن أوجعك المنفى ولم يقتلك أرجعك إلى مهد الخيال وقوَّاك وساواك بمن يسهرون على تدجين الغامض».
يعود درويش في تأملاته لتجربته الخاصة إلى السؤال الجارح: «لماذا نزلت عن الكرمل؟ وفي نفسك الأمّارة بالحيرة جواب مبهم: كي أتعلم المشي على طريق لا أعرفها» والطريق التي لا يعرفها أرسلته للمنفى الذي استهلك عمره الباقي، ليعود إلى بقايا وطن، دون أن يكف عن كونه منفي. وفي نهاية الرحلة الطويلة يتصالح الراثي والمرثي يتصالح الشاعر مع نفسه في لحظة الموت «أعلى وأبعد. وأرى طائراً يحملني ويحملك، ونحن جناحاه، إلى ما وراء الرؤيا، في رحلة لا نهاية لها ولا بداية، لا قصد ولا غاية. لا أحدثك ولا تحدثني. ولا نسمع إلا موسيقى الصمت» بهذه الكلمات يختم «في حضرة الغياب».
شعر درويش ليس احتفالاً بالموت. على العكس: إنه احتفال بالحياة، وسخرية من الموت. يقول درويش في أمسيته الأخيرة في حيفا: «فماذا يفعل الشعر في زمن المحنة الطويل؟» ويجيب: «إنّ الشعر هو المرافعة النوعيّة المجانية للدفاع عن الحياة وعن حقّنا في أن نحيا حياتنا كما نريدها، ببداهة وحرية وسلام. وهو دفاع عن الروح والذاكرة الجمعية والهويّة، دفاع عن الحبّ والجمال وعمّا في أعماقنا من موسيقى خفيّة وفرح. وهو مقاومةٌ لكلّ ما يجعل الحياة عبئًا على الأحياء، ومقاومةٌ لكلّ ما يعيق حرية الإنسان وتطبيع علاقته مع ذاته ومع وجوده الإنسانيّ. إنه البحث عن الأمل، أو هو اختراع الأمل.» هذه وظيفة الشعر كما جاءت في بيانه الشعري في زيارته الأخيرة لحيفا. الشعر ليس مترفّعًا عن الحياة، أو موازيًا لها، بل قادمٌ منها ومجبولٌ بها، وصاعدٌ جماليّاً من آلام البشر وأوجاع الحياة.
الحاجة إلى النثر
في رسائل تبادلها درويش مع سميح القاسم في منتصف الثمانينات على صفحات جريدة «اليوم السابع» التي كانت تصدر في باريس، نصح درويش القاسم أن لا ينزّع الجملة الشعرية من النثر ويوفرها للقصيدة القادمة، لأن النثر يحتاج إلى الكثير من الشاعرية. في كثير من المرات وجد درويش ثوب الشعر أضيق من أن يعبر عنه، لذلك كان يهرب منه ليكتب نصوصاً نثرية باهرة، بدأ ذلك مع كتابه «يوميات الحزن العادي»، ولم تكفيه رائعته الشعرية «مديح الظل العالي» للصعود بتجربة حصار بيروت إلى مستوى النشيد، فقد بقي هناك ما هو ناقص في التجربة، وحتى تكتمل الصورة، تألق الشاعر في نص نثري حمل عنوان «ذاكرة للنسيان» لا يقل جمالية عن نصه الشعري، وقد توج النثر بأجمل نصوصه «في حضرة الغياب».
المراثي من بين أجمل النصوص النثرية التي كتبها درويش ولم يتم الاهتمام بها في تجربته الكتابية، رثى أصدقاء فقدهم، لأن التجربة الفلسطينية متلازمة مع الموت ومجدولة به، ولأن درويش الابن البار للتجربة، سطر قلمه نصوصاً خلّد الأصدقاء الذين رسموا التجربة الفلسطينية بدمهم.
كتب درويش النص الرثائي البليغ الأول عندما فجع باغتيال غسان كنفاني: «والموت دائما رفيق الجمال. جميل أنت في الموت يا غسان. بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر. لقد انتحر الموت فيك. انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة. اكتمل الآن بك، واكتملت به. ونحن حملناكم ـ أنت والوطن والموت. حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. ولم نعرف من نرثي منكم. فالكل قابل للرثاء.» وأضاف: «لا يكون الفلسطيني فلسطينياً إلا في حضرة الموت. قولوا للرجال المقيمين في الشمس أن يترجلوا ويعودا من رحلتهم، لأن غسان كنفاني يبعثر أشلاءه ويتكامل. لقد حقق التطابق النهائي بينه وبين الوطن.»
روى محمود درويش أن كمال ناصر جاءه غاضباً، بعدما نشر رثاء غسان كنفاني في «الملحق» وسأله: «ماذا ستكتب عن موتي، بعدما كتبت كل شيء عن غسان؟» ضحك محمود درويش من الإصرار الفلسطيني على الاحتفال بالموت، ونسي الحكاية، واعتبر أن ما قاله كمال ناصر مجرد دعابة، ولكنه فجع باغتياله في «عملية فردان» مع كل من أبو يوسف النجار وكمال عدوان بعد تسعة أشهر من استشهاد غسان. كتب يرثيه: «أخيراً فعلها ومات. صدقه الموت لأن الموت لا يمزح... كان يصر على أنه حامل الموت. كيف نمت فيه هذه الحاسة ولم نشعر. وهل مات ليقنعنا بأن الحدس فيه لا يخطئ.» وتتالت بعدها نصوص الرثاء، الأصدقاء يتساقطون الواحد بعد الآخر، لقد كتب نصوص عن أقرب الناس له الذين فقدهم في مسيرته الطويلة، قادة: مثل ياسر عرفاتـ، جورج حبش، أبو جهاد الوزير، أبو يوسف النجار، ماجد أبو شرار... شعراء: مثل راشد حسين، معين بسيسو، ممدوح عدوان، خليل حاوي، نزار قباني، توفيق زياد، محمد الماغوط، فدوى طوقان... وأصدقاء: أميل حبيبي، جوزيف سماحة، سمير درويش، سمير قصير، حمادة الصيد...
لم يكتب درويش مراثي بكائية، رغم شحنة الألم والحزن القوية التي تختزنها النصوص، كان الموت في تجربة درويش يُلقي ضوءاً كاشفاً على الحياة، فلا يمكن الاحتفال بالموت، الموت الذي يكشف الحياة وينيرها وينير حياتنا وحياة من رحلوا، نراهم بعيون مختلفة عن تلك التي كنا ننظر لهم بها وهم على قيد الحياة ونستطيع الرجوع إليهم بعد حين. أما الموت فهو سفر نهائي لا حوار بعده، بعده نتكلم بلساننا ولسان من ودعنا. كتب ينعي الشهيد أبو جهاد الوزير: «... تلك عادات البطل التراجيدي: على الأسطورة أن تكتمل بتدخل مباغت من قدر لا يعمل إلا بشروطه الخاصة الساخرة. إذ ليس من حق البطل أن يشهد ختام النشيد.» وبعد سنوات طويلة كتب في وداع ياسر عرفات: « ومن فرط ما ناوش الموت ونجا, امتلأ لاوعيٌ فلسطيني خرافي بشعور ما بأن عرفات قد لا يموت! وهكذا لامَسَت أسطورته حدود الميتافيزيقيا... لم يفاجئنا هذه المرة. فقد أعدَّنا لوداع لا لقاء بعده. خرج المحاصر من حصاره ليزور الموت في المنفى, وليزوِّد الأسطورة بما تحتاجه من مكر النهاية. لقد منحنا الوقت ليتدرب الحزن فينا على أدوات التعبير اللائقة, ولنبلغ سن الفطام التدريجي.»
ترتقي كثافة النص الإنسانية وجمالياته بالرثاء الدرويش إلى بلاغة شاعرية عالية، لذلك لا يكرر النص الدرويش نفسه، رغم أن الموت واحد، لكن للموتى تجارب إنسانية مختلفة وعلاقتهم بالراثي مختلفة. في جميع الحالات، يكتب درويش مراثيه بحب من يرثيه، ويختصر مآسي شخصية تعبر عن مآسي عامة. فعندما كتب عن موت معين بسيسو كثَّفَ الآلام الفلسطينية عبر آلام معين: «انظروا إلى تألب معين بسيسو على الأمكنة التي لا مكان له فيها، لتروا غربة الروح في شكل لا يوافقها. إن سيرة المنافي والزنابق كما عاشها، ورواها، وأنطقته الوضوح الحاد، والغرابة الخشنة، وجعله أحد المعبرين، بامتياز، عن لعنة المكان الفلسطيني، هي سيرة الانتقال المعاكس للبطل التراجيدي من النص إلى الواقع. سنقترب، عما قليل، من صدمة عالية: ليس من حق الحالة الفلسطينية أن تختار مهداً لولادة. نولد كيفما اتفق، وحيثما اتفق. ولكن، مضى علينا عمر طويل وموت كثير لنعرف مأزقاً آخر، إذ ليس لأحد منا قبر.»
يكتب درويش عن عدد من الذين أثروا في حياته الأولى بعد سنوات طويلة نصوصاً ساحرة. كتب راثياً أميل حبيبي: «الآن وأنت مسجّـَـى على صوتك. ونحن من حولك، رجوع الصدى من أقاصيك إليك. الآن لا نأخذك إلى أي منفى، ولا تأخذنا إلى أي وطن. ففي هذه الأرض من المعاني والجروح ما يجعل الإنسان قديسًا منذ لحظة الولادة، وشهيدًا حيًّا مضرّجًا بشقائق النعمان من الوريد إلى الوريد.» أما عن توفيق زياد فيكتب عنه: «كان يقود قطيع أحلامه المشتت إلى مرعاه المحاصر بالجفاف. ولكن حفنة من الحلم في قبضة يده كانت كافية لأن يغمض عينيه على ختام النشيد الدامي.. نشيده الطويل.»
الجرح العميق الذي أصيب به درويش، كان اللغط الذي دار حول علاقة له باغتيال ناجي العلي، واتهامه بما يمس ليس بشاعريته وحساسيته فحسب، بل يمس بإنسانيته، ينسف تاريخه الشخصي ويدمره، بأن هناك مكالمة تلفونية هدده فيها ناجي العلي. لذلك كتب رثاءً لناجي العلي فيه الكثير من المرارة الشخصية: «وحين استبدل عبارتي بيروت خيمتنا الأخيرة بعبارته اللاذعة محمود خيبتنا الأخيرة، كلمته معاتبا: فقال لي: لقد فعلت ذلك لأني احبك...
...
اذكر تلك المكالمة، لأن صناعة الشائعات السامة قد طورتها من عتاب إلى تهديد، طورتها ونشرتها إلى حد الزمني الصمت، فلقد ذهب الشاهد الوحيد دون إن يشهد أحد أنه قال ذلك، على الرغم من إن إحدى المجلات العربية قد نشرت على لسانه إنني عاتبته، وعلى الرغم من أنه أبلغ رئيس تحرير القبس بأنه ينوي كتابة رسالة مفتوحة إلي يشرح فيها عواطفه الايجابية، على الرغم من كل ذلك فإن صناعة الشائعات مازالت تعيد إنتاج الفرية، التي لا املك رداً إزاءها غير التعبير عن الاشمئزاز مما وصل إليه المستوى الأخلاقي العام من قدرة على إبداع الحضيض تلو الحضيض.
حين استشهد ناجي العلي، سقطت من قلبي أوراق الأغاني لتسكنه العتمة، الاختناق في الحواس كلها، لا لأن صديقا آخر، صديقا مبدعاً، يمضي بلا وداع فقط، بل لأن حياتنا صارت مفتوحة للاستباحة المطلقة، ولأن في وسع الأعداء إن يديروا حوار الخلاف، بيننا إلى الحدود التي يريدونها ليعطوا للقتيل صورة القاتل التي يرسمونها وليتحول القتلة إلى مشاهدين.»
لا يمكن اختصار نصوص درويش الشعرية أو النثرية واختزالها، فهي نصوص متعددة الطبقات والمعاني، ومتعددة القراءات، في الصفحات التالية نقدم مراثي محمود درويش الشعرية والنثرية، لعلها تلقي مزيداً من الضوء على التجربة الفذة للشاعر الذي كان له الفضل في الارتقاء بذائقتنا الشعرية والثقافية.
غاب درويش بعد أن علّمنا جمالياتٍ ما كنّا لنصل إليها بدونه، كتب يوماً: «من يكتب حكايته يرث/أرض الكلام، ويملك المعنى تمامًا!» لقد كتب درويش حكايته/حكايتنا. امتلكها، وأورثنا أرضَ الكلام العالي، مخلّدًا ضياعَنا وتيهَنا، الذي كان مرشدنا فيه إلى الجمال والمعنى والطريق لقد امتلك المعنى تمامًا، تركه لنا لنبقى نتأمله. ولكنه أخذ أسراره معه، أسرارَ صنع الأدب الجميل.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: محمود درويش يكسرُ إطار الصورة ويذهب ـ مراثي
تحرير: سمير الزبن
دار كنعان ـ الطبعة الأولى