عندما تتجدد صور فلسطين

بقلم: حسن داوود
لقد تغيّر مشهد الأرض المقدّسة عما كانه في أواسط القرن التاسع عشر، عندما صوّره فيليكس بونفيس. كان المصوّر الفرنسي الذي أقام استديو التصوير في بيروت العام1867 قد سعى، بتصويره مدن فلسطين وبلداتها وقراها، كما بتصوير مصر وسوريا وتركيا ولبنان، إلى ما اعتبره آنذاك إلتقاط ما يتميّز به عيش الناس لجهة أزيائهم وتقاليدهم وانسجامهم مع محيطهم المكاني قبل أن تغزوهم التأثيرات الغربية. في الصور الكثيرة التي نقل بها بونفيس حياة الفلسطينيين وعمرانهم، والمجموعة الآن في كتاب صدر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، نشاهد مدى زمنيا مديدا لم يكن قد انقطع حتى حينه. لم يكن قد حدث تغيّر يذكر على ما كان أقيم منذ مئات السنين، إلا ما كانت يد الزمن، الخفيفة الوطأة على أيّ حال، قد تركت بصماتها عليه.
الكثير من المعالم، الديني منها خصوصاً، كان يعاد ترميمه بين فترة زمنيّة وأخرى. كتاب "من الأرض المقدّسة إلى فلسطين" يبدو محطّة أخرى مستكملة لما كان بدأه بونفيس، لكن الزمن اختلف هذه المرّة. لم يعد "المشهد القديم" على حاله. في السنوات ما بين 1948 والآن، عبورا بالعام 1967، كان على ذلك العيش المكتنَف بعمرانه أن يتلقّى صدمات هائلة، حيث جرت مصادرة الأرض وما يقوم عليها من مواقع تاريخية، وهدّمت البيوت، وضيّقت الحدود على السكان، وامتدّت المدن والقرى بما يخالف تطوّرها الطبيعي الممكن، ولنضف إلى ذلك تقسيم الأرض قطعا أمنيّة تحرسها مراكز تفتيش، وتشتيت السكان وتضييق حركتهم تبعا للقوانين المختلفة الخاصّة بكلّ مكان على حدة، وأخيرا الجدار الضخم الفاصل بين ما كان في أيّام بونفيس أرضا واحدة لا عوائق أو حواجز بين نواحيها. في مقدّمة الكتاب التي كتبت بقلم ستيفان هسل نقرأ أن ما جرى من تغيير في الأرض المقدسة، خلال هذه الفترة الأخيرة من تاريخها الطويل، لم يماثله تغيّر في أيّ مكان من العالم.
الفكرة التي حفّزت العمل على إصدار الكتاب (ألآن باللغتين الفرنسيّة والإنكليزية، على أن يستتبع صدوره بلغات أخرى بحسب ما تعد مقدّمته) هي وصل ذلك الماضي الذي حفظته صور بونفيس بزمن فلسطين الراهن، وذلك بإعادة تصوير الأمكنة ذاتها التي في الصور القديمة، أو بما يمكن اعتباره تصوير الصور من جديد. المصوّر سيرج نيغري الذي قضى، شأن بونفيس، سنوات جائلاً في الأرض الفلسطينيّة، متابعاً توق أهلها إلى الحرية وديناميكيّتهم التي لا تكلّ، لم يكتف بالعودة إلى المواقع ذاتها التي صوّرها سلفه، بل أراد أن يأخذ اللقطة ذاتها، من الموقع ذاته، من دون أيّ انحراف حتى ولو لسنتمترات. كما أنّه بذل جهودا أخرى درس فيها مواقيت أخذ الصور، صباحا أو مساء على سبيل المثال، مستعينا بتبيّن الظلال، وذلك من أجل أن تتماثل الصورتان إلى حدّ أن تكونا صورة واحدة لا تغيير فيها إلّا كون إحداهما سبقت الأخرى بنحو مئة وخمسين عاما.
الصورة الواحدة، كما هي في الكتاب، تجمع الزمنين، قسم منها بالأسود والأبيض (وهذه صور بونفيس) وقسم آخر بالألوان التي عمل سيرج نيغري على ألّا يكون تناقضها اللوني صارخا مع الصور الأولى. التنقلّ بين صفحات الكتاب يبيّن أنّ كلّ صورة مندمجة من صوره جرى العمل عليها بمفردها بالنظر إلى الخصائصها المتفاوتة بين إحداها والأخرى. وذلك لا يتعلّق باللون وحده بل بالتشكيل أيضا، ذاك الذي تتعيّن بحسبه نسب التدخل بالصورة القديمة، كما بالتوافق بين الصور، خاصة تلك التي تنقل نساء ورجالا وليس أمكنة. إزاء بعض الصور كان ذلك اشبه بكولاج فنّي تحوّلت به الصور إلى لوحات.
الكتاب تأريخ للميراث التاريخي العمراني والبشري لأرض فلسطين. قراءة التعليقات على الصور، ألمأخوذ بعضها من كتّاب أوروبيين زاروا المنطقة مثل شاتوبريان ولامارتين وفلوبير وبيار لوتي، كما من محمود درويش وأدوارد سعيد وسلمى خضراء الجيوسي وفدوى طوقان... هذه التعليقات لا تكتفي بوصف الأمكنة كمواقع باقية، بل تضيف إليها تلك االقراءات التي تظلّل المكان وتقترح معاني جديدة لبقائه.
*كتاب "من الأرض المقدّسة إلى فلسطين" صدر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينية في 283 صفحة بالحجم التصويري الكبير.