هاني أبوأسعد: عدتُ لفلسطين

أجرى اللقاء: هوفيك حبشيان
"عمر" يعيد هاني أبو أسعد إلى الصدارة بعد ثمانية أعوام من الغياب القسري طارد خلالها الحلم الأميركي المخيب. المخرج الفلسطيني الذي طار صيته عالمياً مع "الجنة الآن" ("غولدن غلوب" أفضل فيلم أجنبي 2006)، يعانق مجدداً تلك الشؤون التي يعرفها جيداً في فيلم "لمّاح" لا يقول كلاماً سياسياً: مناطحة العدو الإسرائيلي في الأراضي المحتلة من خلال طائفة من الشخصيات لا ترشق دائماً بالورود. عمر (آدم بكري) الذي يقفز فوق الجدار العازل ليلتقي حبيبته نادية قبل أن ينضمّ إلى صفوف مقاومة هزيلة تقف في مواجهة الجبروت، هو الذات الأخرى لسينمائي يعيش حيرة مزمنة، لكنّها لم تضيّع بوصلته أبداً، لا أخلاقياً ولا سينمائياً. نال الفيلم جائزة التحكيم في قسم "نظرة ما" في مهرجان "كانّ"، قبل أن يحطّ في كارلوفي فاري (تشيكيا) ومنها سيشق طريقه قريباً إلى الشاشات العربية.
وهنا حوار مع المخرج:
• ما سبب غيابك منذ العام 2006، علماً انك صورت فيلماً أميركياً اسمه "البريد" لم يُعرض في الصالات؟
- ليس لديّ دائماً ما أحكي عنه . بعد "الجنة الآن"، كان من الصعب أن أخوض تجربة جديدة. نجاحه يوازي صعوبة إنجازه. استهلكتُ طاقتي في أفلام لم تُنجز، ثم أنجزتُ فيلماً لم أكن راضياً عنه في أيّ من الأحوال. هذا إلى جانب أشياء جانبية أخرى عرقلت مسيرتي.
• لماذا لم تكن راضياً عن "البريد"؟
- هل شاهدته؟
• نعم.
- لا أعتبره فيلماً. كانت تجربة سيئة إذ لم يكن لديّ خيارات. لم أختر الممثلين والفيلم برمته كان خارج إرادتي. أيُّ تغيير بسيط في السيناريو كان يحتاج إلى موافقة عشرة منتجين. إلا أن الفيلم ساعدني على فهم ما ينبغي علي أن أبدأ بالعمل عليه سريعاً من دون أن أضيّع وقتي، وهو فيلم "عمر".
• كيف ولد "عمر"؟
- دمجتُ حكاية فيلم "الكرنك" لعلي بدرخان بحكاية حقيقية عاشها صديق لي، عندما راحت المخابرات الإسرائيلية تصرّ عليه ليتعاون معها بعدما وضعت يدها على سرّ من أسراره. على مستوى الأسلوب، أردتُ أن أضيف إلى هذا كله قليلاً من أنماط الوسترن والثريللر، مع الحرص على أن تكون قصة الحبّ جزءاً من الفيلم. عندما انتهيتُ من كتابة السيناريو، وجدتُ نفسي أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن ألجأ إلى الإنتاج المشترك مع جهة أوروبية، وإمّا أن أعثر على رجل أعمال فلسطيني وأقنعه بتمويل الفيلم. فانضم إلى المشروع الأخوان زعيتر بعدما أسّسا شركة لهذا الغرض ودخل إليها العديد من أصدقائهما، واستطاعا جمع نحو مليوني دولار.
• هناك قضايا عدة متفرعة من الفيلم، من المقاومة غير المجدية لإسرائيل إلى مسألة العمالة معها... الخ.
- هناك أيضاً موضوع الثقة الذي لم تشر إليه. الثقة إحدى ركائز الحبّ والصداقة في حياتنا اليومية. أردتُ طرحاً آدمياً أكثر منه إنسانياً. في الواقع، هذا أقل أفلامي تضميناً للسياسة. الشقّ السياسي الوحيد فيه يتجلّى في طرحه للسؤال عن كيفية مقاومة الاحتلال. عندما يترك القياديون الفلسطينيون الكفاح المسلّح في يد عناصر لا تملك أي تجربة، حينها لا بدّ من أن تتحول المقاومة إلى مصيبة. أصحاب التجربة تركوا مَن هم أصغر منهم سناً وخبرة يتخبطون أمام العدوّ. أقول هذا ولا أشك في أيّ لحظة من اللحظات بضرورة أن نستمر بالمقاومة. هذا شيء خارج النقاش. في "الجنة الآن"، كنتُ لا أزال أسأل عما إذا كان الانتحاري مقاوماً، أمّا هنا فتجاوزتُ هذه الهواجس. اليوم، أؤمن أن كل الطرق مشروعة، لكن إياكم أن تتركوا الشباب يتخبطون!
• لكن، في المقابل، أنت لا توفر الفلسطينيين من نقدك في الفيلم، خصوصاً عندما ترينا كيف سيقاتل الفلسطينيون بعضهم البعض لأسباب لا علاقة لها بالاحتلال...
- هذا ما يحصل عندما تتغيب القيادة الحكيمة، خلافاً للحال في المقاومة اللبنانية. المقاومون الحقيقيون سلمّوا سلاحهم وارتدوا بيجاماتهم وتركوا الساحة للهواة. بالنسبة إلي، لبنان نموذج مهم، لأنه حافظ على تجربة مقاومة عمرها أكثر من ثلاثة عقود، لذلك نجد أن الأخطاء أقل بكثير.
• ماذا عن قصة الحبّ التي لا تستوفي شروط الواقعية في عصرنا الحالي؟ وجدتها مفتعلة بعض الشيء، كأنها تجري في زمن آخر غير زمننا الراهن. مجرد سؤال: هل هذا ممكن في فلسطين اليوم؟
- ما الذي وجدته غير مستوف لشروط الواقعية في قصة الحب؟ ثق بي، هذا كله يمكن أن يحصل. يتوقف الأمر على الطبقات الاجتماعية. لكن، مَن يعيش في المخيمات والقرى البعيدة لا يزال يعيش الغرام "تحت الشباك". الحبّ البريء والنقيّ لا يزال موجوداً.
• هناك خضات مفاجئة أيضاً على مستوى الحبكة...
- كون موضوع الفيلم هو الثقة والبارانويا، فهناك حتماً تحولات كبيرة كما تقول، ولن يعرف المشاهد في أيّ من اللحظات أين هي الحقيقة من الكذب. كنتُ أريد أن أضع المُشاهد في حالة ضياع...
• ميدانياً، كيف جرت عملية التقاط المَشاهد؟
- في الحقيقة، لم نواجه أيّ مشكلة. شعر الإسرائيليون أن في مصلحتهم أن يتركوننا وشأننا، خشية أن نأتيهم بدعاية سيئة في حال تم قمعنا.
• هناك بعض المشاهد التي يصعب تصديقها وأخذها على محمل الجدّ: فهل من المعقول مثلاً أن يسلّم ضابط إسرائيلي سلاحه لمقاوم فلسطيني!؟
- قد لا تصدق، لكن حصل هذا ثلاث مرات. وللمناسبة، دائماً يتم تسليم السلاح إلى العملاء. فائض ثقة الإسرائيلي بنفسه يجعله يعتقد أنه متفوق على الفلسطيني ولا مشكلة في أن يسلّمه السلاح، كون الأخير لن يتجرأ على قتله.
• هل تتماهى مع عمر أكثر مما تتماهى مع شخصيات أخرى في الفيلم؟
- ربما. مشكلة عمر أنه مبدئيّ، وكرامته فوق كل اعتبار. أشعر أن في إمكاني أن أعيش ما عاشه، وأن أتعرض لما تعرض له. فأنا شخص لا يمكن أن يقبل الإهانة. أرفض أن يرى الآخر جانبي الضعيف. كلنا ضعفاء، ولكن بعضنا يرفض إظهار ضعفه. كان لي عمّ مصاب بالسرطان. كان يحتضر، ولكن عندما تسأله عن حاله، كان يجيب بأنه في أحسن الأحوال. هذا شيء سلبي وإيجابي في آن معاً، إلا أننا لا نستطيع توجيه اللوم لأحد، لأن مقاربته للأمور تتوقف على الظرف الذي هو فيها.
• ماذا تعني لك مشاركة فيلمك في مهرجان مثل "كانّ"؟
- ما رأيك أنت؟ هذه أول مرة أحضر فيها إلى "كانّ". أدهشني أن ينتظر الناس في طوابير طوال ساعات لمشاهدة فيلم ناطق بلغة لا يفهمونها. الفرنسيون مستعدون لهذه التضحية لمشاهدة فيلم أجنبي. لكن هذا أمر أصبح نادراً في العالم. فرنسا متفرّدة في احترامها لفيلم "المختلف" و"الآخر" إذ تفسح له في المجال ليحقق النجاحات ويشق طريقه إلى الجمهور. ويبدو أن مَن يحصّن هذا التراث ليس الدولة فحسب بل الناس. مع كل دهشتي من حجم مهرجان "كانّ" الذي يشعرك بأنك لا شيء داخل هذه المعمعة، لكنّ هذا المهرجان لا يزال من أشد المدافعين عن السينما المختلفة.
• هل نستطيع القول أن تجربتك الأميركية كانت مخيبة؟
- النتيجة مخيبة لكن الطريق كانت غنية بالمعرفة.
• ألم تحاول انجاز أفلام عن فلسطين مموّلة أميركياً؟
- التمويل الأميركي يشترط عليك أن يكون الفيلم تجارياً. كيف يُمكن أن أنجز فيلماً تجارياً في أميركا باللغة العربية؟! وإن لجأت إلى اللغة الإنكليزية، فسيكون شيئاً مفتعلاً ومزيفاً. بصراحة، حاولت ولم أنجح.
• الآن، هل رجعت من أميركا؟ وماذا عن مخيلتك، هل هي مملوءة بالحكايات؟
- نعم، عدت من أميركا. أعيش في فلسطين حالياً لإنجاز أفلام عن فلسطين، الأفضل أن تكون مقيماً في فلسطين.
• هذا يعني أنك صرت أقرب إلينا، إلى بيروت...
- بالعكس، صرت أبعد منكم. في الماضي، عندما كنت مقيماً في أمستردام كنت أحتاج إلى أربع ساعات لآتي إلى لبنان، أما الآن فأحتاج إلى نهار بأكمله، لأنني لا أستطيع أن أستقل طائرة متّجهة مباشرة إلى بيروت.