غسان كنفاني وناجي العلي وعاطفة المقاومة

إبتدأ غسان نشاط المقاومة بالرسم، وليس بالكتابه. فحين كان ما يزال تلميذاً في المدرسة الثانوية، كان معروفاً بلوحاته الملونة التي كانت تعلق على جدران مدارس الفلسطينيين في دمشق، واللافتات التي كان التلاميذ يحملونها في المظاهرات في ذكرى وعد بلفور وذكرى التقسيم، و15 أيار السنوية. وأتذكر أنني، عندما تعرفت عليه أول مرة، قد بادرته على الفور بسؤالٍ عن نشاطه الفني، ففاجأني بالقول إنه يهتم بالكتابة أكثر من الرسم. وحين سألته عن السبب في ذلك، قال هو إنه يستطيع أن يعبر عما يريده بالكتابة أكثر من الرسم. وبعد بضع سنوات، اكتشف غسان من يستطيع أن يعبر بالرسم، وليس بالكتابة، عما يريد أن يقوله. ففي العام 1961، بعد سنة واحدة من مجيئه إلى بيروت، كان غسان يقوم بإحدى زياراته الدورية لمخيم عين الحلوة قرب صيدا، والتقى بشاب عرض عليه لوحاتٍ من رسمه. فأخذ غسان أربعاً من تلك اللوحات. وبعد أيام تفاجأ، ذلك الشاب بلوحاته منشورة في مجلة «الحرية» ضمن مقالٍ لغسان بعنوان « ينتظر أن نأتي». في هذا المقال وصف رسوم ذلك الشاب بأنها تتشكل من «خطوط حادة»، ولها «ألوان راعبة قاسية»، وتعبر «عن الذي يجيش في صدره بشكلٍ أكثر من كافٍ». وكما هو معروف فلقد افتتح هذا المقال بداية رحلة ناجي العلي. وهي رحلة شبيهة إلى حدٍ بعيد برحلة غسان كنفاني. فناجي مثله في هذا مثل غسان، ابتدأ نشاطه عضواً في حركة القوميين العرب، وفي العام 1963، سافر ناجي إلى الكويت وعمل هناك رساماً للكاريكاتور في مجلة «الطليعة» التي كانت تصدر عن حركة القوميين العرب في الكويت. وهي المجلة التي نشرت أول كتابات غسان كنفاني عندما كان يعمل أستاذاً في الكويت. وقد عاد إلى بيروت وعمل في الصحافة اللبنانية، وفي أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982، كان ناجي في زيارةٍ لأسرته في صيدا حين داهمها الجيش الغازي، وهناك أوقفه الغزاة مع من أوقفوهم من رجال المدينة، لبضع ساعات، اعتقلوا خلالها الشباب وأطلقوا سراح ناجي، مع من أطلق سراحهم ممن تجاوزوا سن الشباب، من دون أن يتعرفوا عليه، وبعد هذا تسلل ناجي إلى بيروت، عائداً إلى عمله داخل العاصمة المحاصرة، ثم سافر الى الكويت مرةً اخرى، وعمل هذه المرة في صحيفة «القبس». ثم جرى إبعاده في العام 1985 عن الكويت فاتجه إلى لندن وعمل مرةً اخرى في مكتب «القبس» الذي يشرف على طبعة «القبس الدولية». وفي تموز/ يوليو 1988 تم اغتيال ناجي على يد من تبين بعد ذلك أنه عميل مزدوج للمخابرات الاسرائيلية ولجهة أمنية فلسطينية. ومن الممكن أن نفهم رسوم ناجي العلي على أنها الاستمرار الطبيعي لكتابات غسان، خصوصاً بعد أن صارت هذه الرسوم، منذ أواخر الستينيات‘ ممهورةً دائماً بصورة «حنظلة». فهذا الصبي الذي صرنا نراه صباح كل يوم في رسوم ناجي، حافي القدمين، رث الثياب، معقود اليدين وراء ظهره، مديراً ظهره للقراء، كان يشكلُ في الواقع الوجود المادي المحسوس لمقولة إدوار سعيد عن دور العام 1948 في التاريخ العربي. فحنظلة في العاشرة من عمره، وهو عمر ناجي في 1948، وهو لا يكبر أبداً، كما أننا لم نر وجهه أبداً، وذلك تذكير بأن ما حصل في هذا العام، من انقطاع وتمزيق ما زالا على حاليهما.

التقيتُ ناجي العلي مرةً واحده في بيروت، لمدة دقائق فقط. جرى هذا اللقاء في أيار/ مايو من العام 1975. وقتها، كنت أزور بلال الحسن الذي كان يومها مديراً لتحرير الجريدة البيروتية الجديدة «السفير». ودخل علينا شاب أسمر نحيل، قال لي بلال إنه يرسم الكاريكاتير في «السفير» وأن رسومه تكتسب شهرةً متزايدة. وبعد أن تركنا ناجي، حدثني بلال أن قيادة منظمة التحرير متضايقه من التأثير الذي تحدثه رسوم ناجي الانتقادية، وأن هذه القيادة عرضت عليه أن ترسله في بعثة دراسية إلى روما.

بعد شهور من اغتيال ناجي العلي، كنت مع أحمد خليفة وأسعد عبد الرحمن في بيت بلال الحسن في باريس، حيث كان قد انتقل اليها ليصدر مجلة «اليوم السابع». وكان في ضيافة بلال نجما فن الكاريكاتير العربي المصريان جورج البهجوري وبهجت عثمان. وفي أثناء السهرة حدثنا بلال بأنه حدث في أواخر السبعينيات أن حضر بهجت من القاهرة إلى بيروت، وتوجه من المطار إلى دار جريدة «السفير»، ودخل على بلال وهو يحمل حقيبة السفر ويسأل: «أين ناجي العلي؟ أين ناجي العلي؟»، ثم نهض بلال وأخذ يمثل لنا كيف انحنى بهجت أمام ناجي العلي وراحتا يديه مضمومتان تحت ذقنه على الطريقة اليابانية، وكأنه يبايعه بإمارة رسم الكاريكاتير العربي. وعلى الفور، انتهزتُ الفرصة وسألتُ بهجت لماذا فعل ذلك؟ فأخذ هو وجورج بهجوري يشرحان لنا ما يعتقدان أنه كان اٌنجاز ناجي العلي التاريخي في فن الكاريكاتير العربي. فلقد كان الكاريكاتير العربي في مجمله، حسب رأيهما، امتداداً ومحاكاةً للكاريكاتير المصري الذي كان، بدوره، «كاريكاتير الفكرة» أي الكاريكاتير الذي يعبر عن فكرة ما، وليس بالضرورة أن يكون صاحب الفكرة هو الرسام ذاته، بل قد يكون رئيس التحرير أو أحد المحررين، حتى جاء ناجي العلي بـ«كاريكاتير العاطفة» الذي يحرك عواطف القراء والذي صارت له شهره جماهيرية لا يمكن لكاريكاتير الأفكار أن يحظى بها. وبعد أن استمعت لهذا الشرح من اثنين من رواد الفن الكاريكاتيري، تأكد عندي ما كنت أعتقده من أن ناجي العلي وغسان كنفاني يمثلان ظاهرة واحدة، ظاهرة عاطفة الفن التي يصبح لها وجود مادي قادر على التأثير والتغيير والتثوير. وفي هذا السياق، خطر لي أن المدة التي مارس فيها ناجي العلي الرسم الكاريكاتيري كانت حوالي 25 سنة، وأنه لو كان يرسم كاريكاتيراًً واحداً في اليوم، لكان قد ترك وراءه حوالي تسعة آلاف كاريكاتير، ولكنه ترك، في الواقع، حوالي أربعين ألف كاريكاتير، أي أنه كان يرسم أكثر من أربعة في اليوم الواحد، وذلك لإنه كان مسكوناً بعاطفة الرسم، كما كان غسان مسكوناً بعاطفة الكتابة، فالرسم كان بالنسبة لناجي تماماً كما كانت الكتابة بالنسبة لغسان، هذه التي وصفها إدوارد سعيد بإنها «عمل تاريخي» و «فعل مقاومة». لقد سار ناجي على طريق غسان: طريق المقاومة الكاملة، ولذلك كان عليه أن يواجه مصير غسان ذاته: الاغتيال.

(4)

ولكن، كان هناك اختلاف جوهري بين استشهاد غسان كنفاني، في العام 1972، وبين استشهاد ناجي العلي في العام 1988. ففي الحادثة الأولى، كانت أصابع الاتهام موجهة نحو إسرائيل فقط. ولقد تبين فيما بعد أن رئيسة الوزراء الاسرائيلي غولدا مايرسون (مائير)قامت بنفسها بالتوقيع على أمر اغتيال غسان. أما في الحادثة الثانية، فلقد كان الأمر مختلفاً، فلم تتوجه أصابع الاتهام نحو إسرائيل فقط، بل إنها أكدت تورط جهات عربية وربما فلسطينة أيضاً في العملية.

ومع مرور السنوات، اتضح أن اغتيال غسان كنفاني وناجي العلي كان فقط عبارة عن رأس جبل الجليد لعملية تاريخية كبرى تمثلت فيها مصالح إسرائيل وحلفائها من الأنظمة العربية (العلنيين منهم والسريين) وأشرفت عليها مؤسسات أميركية، وكان لها هدفُ واحد هو تحطيم «عاطفة المقاومة» في العالم العربي.

كان إسلوب القتل الذي تم اتباعه مع غسان وناجي هو المقدمة الافتتاحية المدوية لهذه العملية التاريخية الكبيرة. وبعد ذلك، أخذت العملية تتمأسس وفق إسلوب «متدرج»، و«ناعم»، يرتدي أقنعة «العقلانية» و«الحداثة» و«الثقافة».

يمكن القول إن الهدف النهائي لهذه العملية هو القضاء على «عاطفة المقاومة» في العالم العربي وإحلال «عاطفة العم توم» محلها، أي خلق مناخ سياسي - ثقافي عربي يكرس المقولة التي تؤكد أن استعادة الحقوق المغتصَبة لا ينجح بأسلوب مقاومة المعتدي ولكن بأسلوب استرضاء هذا المعتدي. ويمكن القول إن عملية تأسيس هذا المناخ في العالم العربي قد تقدمت بتأثير عاملين: الأول كان يخص أنظمة الحكم العربية التي أصبحت، منذ منتصف السبعينيات، أسيرة مصالح فئوية وعائلية وطبقية، ففقدت شرعيتها الوطنية، حتى سقطت في مستنقع الشرعية الأميركية التي تمنحها حكومة الولايات المتحدة للحكومات التي تقوم بتنفيذ إملاءاتها بشكلٍ كامل، والتي هي (في المنطقة العربية) إملاءات إسرائيلية. أما العامل الثاني فهو ظهور قوى سياسية لا تعارض الانظمة انطلاقاً من مواقف مبدئية، ولكن من منطلق الصراع على السلطة. وقد سقطت هذه القوى، هي الأخرى في مستنقع الشرعية الأميركية، حيث أخذت، وهي قوى معارضة، تصوغ مواقفها ومطالبها ورغباتها وفق ما هو مقبول أميركياً، اي ما هو مقبول إسرائيلياً. وهكذا، تأسست وتطورت ثقافة العم توم، ليس فقط بما هي، ثقافة معادية للمقاومة، ولكن بما هي ثقافة خارج حدود الكرامة الانسانية، أيضاً. فهي في الواقع ليست بعيدة عن نموذج «السيد والعبد»، وذلك لأنها ثقافة مبنية على أساس أن هناك «سيداً» في هذا العالم قادرٌ على منح الشرعية للشيء وضده، منح شرعية الحكم، ومنح شرعية المعارضة. ومن نموذج «السيد والعبد» يمكن لنا أن نفهم المواقف السياسية العبثية وغير العقلانية التي يقوم بتكريسها عرب العم توم، سواءٌ في الحكم أو المعارضة، والتي ترد على الحروب التي تشنها الولايات المتحدة وإسرائيل على البلدان العربية واحدةً تلو الأخرى بتكريس محاور نبذ «الصراع» وتكريس «السلام»، نبذ «المقاومة» وتكريس «الإستسلام»، فليست هناك أي بدائل أمام العبد إلا إرضاء سيده، وعندما يغضب السيد فليس هناك أمام العبد إلا العمل على ابتكار وسائل جديدة لإرضاء السيد. وتجدر الإشارة في نفس السياق للمصطلح الذي استخدمه القائد الأميركي الافريقي مالكوم اكس الذي صنف الرقيق بـ«عبيد المنزل» و«عبيد المزرعة» للتمييز بين الفئة التي تخدم السيد وعائلته مباشرة وتلك التي لا يسمح باقترابها من الأسياد ويقوم «عبد المنزل» بأمرها بالإنابة عن الأسياد وقمعها عند اللزوم.

ولقد تعاظم نشاط القائمين على نشر ثقافة العم توم في البلدان العربية منذ مطلع القرن الجديد، وذلك رداً على الانتصارات التاريخية التي أنجزتها المقاومة في لبنان والعراق وغزة، فتزايد عدد وسائل الاعلام، وعدد مراكز الأبحاث، وعدد المؤتمرات التي تعمل على نشر محاور تلك الثقافة. ومع ذلك، فإن من الواضح أن هذه الجهود كلها لم تستطع أبداً ً أن تجعل من طروحات العم توم جزءاً من عالم الثقافة العربي الحقيقي، وكل ما حققته بعد أربعين سنه هو تحقيق تواجد في عالم ثقافة السياسة الملتبس، تواجد في جرائد ومجلات وفضائيات، في مراكز أبحاث وفي مؤتمرات وندوات، كلها تعمل من أجل تحقيق هدفٍ واحد هو محاربة عاطفة المقاومة عبر تقليص كمية المعرفة الانسانية في العالم العربي. أما عالم الثقافة الحقيقي فما زال ملكاً لعاطفة المقاومة، عاطفة غسان كنفاني، وعاطفة ناجي العلي، وعاطفة إدوارد سعيد.

(2)

تُحرك عاطفة المقاومة كل ما كتبه غسان كنفاني. وإذا كان أكثر قراء غسان قد تعرفوا على تلك العاطفة عبر رواياته وقصصه القصيره، فإن في قراءة دراساته الفكرية والسياسية، التي يضمها هذا المجلد، تكثيفاً وشحذاً لتلك العاطفة التي عرفوها في عالمه الإبداعي. والأهم من ذلك، إن في قراءة هذه الدراسات اليوم كشفاً وإضاءةً على الوضع الذي تعيشه عاطفة المقاومة في وقتنا الراهن بعد مضي أربعين عاماً على استشهاد غسان.

أول ما نلاحظه في هذه الدراسات هو أن مقولة إدوارد سعيد عن الكتابة العربية بعد 1948 تبرز بشكلٍ مباشر في دراسات غسان الفكرية والسياسية، على عكس وجودها غير المباشر في كتابته الابداعية، وذلك يعود، بالطبع، إلى الاختلاف النوعي بين جنسي الكتابة.

لقد رأى إدوارد سعيد أن الكتابة العربية بعد العام 1948 تكون «عملاً تاريخياً» و«عملاً مقاوماً» عندما تتصدى للانقطاع والتمزيق الذي أحدثته النكبة في الزمن العربي، فتعمل على اكتشاف محاولات الربط الثورية بين الماضي والحاضر والمستقبل في الحياة العربية وتأكيد هذه المحاولات وتكريسها. وإذا كان قارئ «رجال في الشمس» و«أم سعد» يعيش في الأولى تمزق «الحاضر» الفلسطيني بسبب ما حدث في العام 1948 من بتر وتقطيع للصلة بين «الماضي» و«المستقبل»، ويعيش في الثانية إرهاصات المحاولة المعمدة بالدم لاستعادة تلك الصلة في حركة المقاومة التي انفجرت بعد حرب 1967، فإن القارئ يستطيع أن يعيش التجربة ذاتها من قراءة دراستين في هذا المجلد: الأولى دراسة «ثورة 1936- 1939 في فلسطين: خلفيات، وتحاليل، وتفاصيل»؛ والثانية دراسة «المقاومة ومعضلاتها كما تراها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».

اتبع غسان منهجاً صارماً في دراسة ثورة 1936. فلقد حدد منذ البداية الاطراف الثلاثة التي شكل وجودها وتشابك مصالحها بيئة معادية لنمو الحركة الوطنية الفلسطينية وتطورها. وهذه الأطراف هي: (1) القيادات الفلسطينية الرجعية - الدينية، (2) الانظمة العربية المحيطة بفلسطين و (3) الحلف الامبريالي الصهيوني. وفي نطاق هذه البيئة، قام غسان بعملية مسحٍ ٍ شامل للوضع السياسي -الاقتصادي - الاجتماعي الفلسطيني عشية الثورة في منتصف الثلاثينيات، مركزاً على أوضاع ثلاث فئاتٍ فلسطينية هي (1) العمال و(2) الفلاحين و(3) المثقفين. ويخرج القارئ من هذا المسح وقد اكتملت عنده الصورة الحقيقية لوضع الحركة الوطنية الفلسطينية، نقاط قوتها ونقاط ضعفها. والمهم أن غسان لا يحدد هذه النقاط بإسلوب تقريري، ولكنه يستنتجها من قراءته الوضع المعيشي للفلاحين الفلسطينيين وعلاقتهم بالإقطاعيين أصحاب الارض، الفلسطينيين والعرب، من ناحية، ومقاومتهم الاستعمار البريطاني والاستيطان اليهودي من ناحية أخرى. يستنتج غسان نقاطه من تحليله الوضعَ المعيشي للعمال الفلسطينيين وعلاقاتهم بالقيادات الرجعية الفلسطينية والجمعيات العمالية الفلسطينية والحزب الشيوعي الفلسطيني، وقوى اليسار اليهودي، ومقاومتهم التمييز العنصري الذي يمارسه الاتحاد العام للعمال اليهود «الهستدروت» المدعوم بقوة الحركة الصهيونية وحراب المستعمر البريطاني؛ يستنتجها من تقييمه وضعَ المثقفين الفلسطينين ودورَهم في المدينة والريف في تحرير العقل الفلسطيني من تراث التأخر والدجل والجهل والاوهام. وفي الوقت ذاته دورهم في مقاومة ثقافة الاستسلام ومهادنة المستعمر وحليفه الصهيوني. ولقد تمكن غسان بهذا المسح الشامل لكل مقومات المجتمع الفلسطيني، من أن يعرض لكامل عناصر المشهد الانساني الذي انفجرت فيه ثورة 1936 بمقوماته وتفاصيله. وبعد ذلك، راح غسان يعرض بدقةٍ وأمانة أحداث الثورة، حتى أن القارئ يشعر وكأنه يعيش أحداث تلك الدراما الانسانية الكبيرة يوماً بيوم.

ومن أهم النتائج التي يخرج بها القارئ من دراسة غسان عن ثورة 1936 التي تلقي ضوءاً ساطعاً على طبيعة الحركة الفلسطينية في الماضي والحاضر والمستقبل المنظور نتيجتان بالغتا الأهمية. الأولى تتعلق بطبيعة النخب والقيادات الفلسطينية؛ فغسان يحدد بشكلٍ واضح وجلي أن هناك ثلاثة أنواع من النخب والقيادات التيقادت الحركة الوطنية الفلسطينية في النصف الأول من القرن العشرين. النوع الأول يتمثل في القيادة المقاومة التي أدركت بشكلٍ كامل طبيعة المشروع الصهيوني وارتباطه العضوي المباشر بقوى الإمبريالية والاستعمار وتحالفه غير المباشر بقوى الرجعية العربية. وهي قيادات تنطلق من موقفٍ أخلاقي ومن التزامٍ طبقي ومن رؤية قومية وتمارس النضال في مناخٍ ديموقراطي وعصري وتقدمي. والنوع الثاني هو القيادات التي تجيد المقاومة والمساومة في الوقت ذاته وتعبر عن مصالح يمتزج فيها الوطني مع الشخصي، وتنطلق من عاطفة دينية ووطنية وعائلية، وتمارس النضال في أجواء فردية وعشائرية، تقدمية ومتخلفة، جميلة وبشعة. أما النوع الثالث فهو القيادات التي ترى أن ضمان مصالحها لا يتحقق إلا في عدم مقاومة الاستعمار وإبداء الاستعداد للتعاون (أو التواطؤ) معه. ومشكلة هذه القيادات أن الاستعمار لا يقبل باعتمادها عميلة له بشكلٍ كامل، لأن في ذلك تعارضاً مع المصالح الصهيونية، على الرغم من أن ذلك التعارض ضئيل وجزئي وثانوي. وهي تقبل بأي دور يمنحها إياه الاستعمار، مهما كان خسيساً ومذلاً لأن مرجعيتها الوحيدة هي مصالحها الشخصية. ومما لا شك فيه أن فهم طبيعة هذه الانواع الثلاثة من النخب التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ بدء نضال الشعب الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني في مطلع القرن العشرين حتى حدوث النكبة في منتصف القرن، يلقي ضوءاً كاشفاً على الامتداد التاريخي لهذه النخب التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية بعد النكبة وبعد اندلاع حركة المقاومة بعد حرب 1967 حتى يومنا الحاضر. كما أن فهم تصرفات القيادات الرجعية - الدينية التي كانت متنفذه قبل العام 1948 وأقدمت على اغتيال القائد العمالي قي منطقة يافا ميشيل متري (1938) والقائد العمالي في منطقة حيفا سامي طه في 1947، يساعد على فهم امتدادها التاريخي وتورطها في عملية اغتيال ناجي العلي (1987).

أما النتيجة الثانية الهامة فهي ما شرحه غسان من أن خسارة العرب معركة فلسطين لم تحدث في العام 1948 ولكن في العام 1939، حين انتهت ثورة 1936 بدون أن تحقق أي هدف من الأهداف التي اندلعت من أجلها، مع خسائر بشرية ومادية هائلة ومع إنهاك وتشرذم للحركة الوطنية، مما جعل ما حصل في العام 1948 مجرد تحصيل حاصل. ونحن ندرك الآن أن ما رآه غسان بالنسبة لثورة 1936قد تكرر بعد ذلك مرتين في تاريخ النضال الفلسطيني؛ فنحن ندرك اليوم أن كارثة أوسلو، بما اشتملت عليه من اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بشرعية دولة إسرائيل من دون أن تعترف إسرائيل بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، لم تقع في العام 1993 عند توقيع الاتفاق المشؤوم ولكن في العام 1989 عندما انكسرت وتلاشت الانتفاضة الفلسطينية لعام 1987 بسبب عجز منظمة التحرير عن الارتفاع لمستوى ذلك الحدث البطولي العظيم وإمعانها في تقبّل الهبوط به إلى مستوى أدى إلى تفتيت زخمه وتقليص فرص تطويره وتثويره، فساهم بالتالي، إلى القضاء النهائي على إمكانية انتصاره. كذلك فإننا ندرك اليوم أن الأنقسام القاتل الذي أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية وكرس وجود سلطة فلسطينية في جزء من الضفة الغربية تقف ضد خيار المقاومة وتنسق أمنياً مع إسرائيل، وترهن ذاتها للإملاءات الأميركية، وسلطة أخرى في غزة تحت السيطرة الكاملة لحركة الإخوان المسلمين المتحالفة مع قوى الرجعية العربية تاريخياً، والتي تحاول، بعد ثورات الربيع العربي، أن تعرض ذاتها قوةً قادرة على أن تحكم بدون أن تصطدم مع الهيمنة الاميركية على المنطقة، ندرك اليوم أن هذا الانقسام لم يحصل في تموز/يوليو 2006، حين تم الإعلان عنه رسمياً، ولكنه حصل منذ العام 2002، حين تخلت قيادة السلطة الوطنية عن انتفاضة الأقصى وقبلت الإملاءات الاميركية - الاسرائيلية التي فرضت أولاً سلام فياض وزيراً للمالية ليعمل على وقف تسريب أموال السلطة للمقاومة، ثم فرضت محمود عباس رئيساً لمجلس الوزراء، وهو صاحب الدعوة الصريحة ضد المقاومة المسلحة.

قراءة دراسة غسان عن ثورة 1936 تساعد، بشكل مهم، على فهم دور قيادة منظمة التحرير والحكومات العربية الرجعية في تقويض المكاسب الهائلة التي حققتها انتفاضة 1987 وكذلك المكاسب التي ربما كانت انتفاضة الأقصى استطاعت تحقيقها لو انها ما وُجهت بشكل مختلف.

[ من مقدمة المجلد الخامس من «أعمال غسان كنفاني الكاملة»]

(كندا)

حرره: 
م . ع