الحلم الأميركي

بقلم: عمير ربابورات

في طابق شعبة التخطيط في مقر هيئة الأركان العامة في قلب «هكرياه»، أضيئت المصابيح هذا الأسبوع بشكل متواصل: في حمى العمل اللانهائي لبلورة خطة متعددة السنوات جديدة للجيش الإسرائيلي (تستجيب لقسم من التقليصات في ميزانية الدفاع) جاء نبأ استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين. وبالنسبة للمؤسسة الأمنية، فإن مغزى إعلان جون يري هو أنه ينبغي على الجيش الإسرائيلي أن يعد للمستوى السياسي قائمة المطالب الأمنية، التي ينبغي لإسرائيل أن تصر عليها في أي مفاوضات. كما أن شعبة الشؤون الاستراتيجية والاستخبارات في هيئة الأمن القومي ستكون ضالعة في بلورة الوثيقة.

وهاكم ما ينشر لأول مرة: حتى قبل بدء المفاوضات، تملك شعبة التخطيط كتابا سميكا خاصاً، تبلور في عهد حكومة نتنياهو السابقة، يحوي تفصيل الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية في يهودا والسامرة، وخصوصا في غور الأردن. وكل ما يحتاجه هذا الكتاب هو التحديث.

ولكن هذا ليس كل شيء: فالرأي يقول إن الولايات المتحدة ردت على هذا الكتاب بكتاب خاص منها، لا يقل عنه وزنا، وهو يحوي ردا على كل الاحتياجات الأمنية التي تثيرها إسرائيل. ومن الجائز أن لدى الأميركيين مجموعة حلول تكنولوجية للقضايا التي تقلق إسرائيل، وصولا إلى المستوى التكتيكي فعلا. وقد عرضت الولايات المتحدة أفضل تكنولوجيا الامبراطورية لمصلحة الموضوع، بل انها مستعدة لاقتراح دمج قوات أميركية، وربما قوات دولية أخرى، لحراسة المصالح الإسرائيلية.

ولفهم الخطة الأميركية، من الواجب العودة الى ما لا يقل عن عشرين عاما إلى الوراء، إلى أيام اتفاق أوسلو. فقد تبلور الاتفاق في حينه بين اسحق رابين وياسر عرفات بعيدا عن الجيش الإسرائيلي. وفقط بعد تبلور الاتفاق بدأت المحادثات الأمنية، التي في نطاقها أبرمت اتفاقيات مرحلية حددت في مناطق يهودا والسامرة وقطاع غزة ثلاث مناطق سيادة فلسطينية مختلفة: «أ» «ب» و«ج». وتقرر الاتفاقيات المرحلية أن كل الوارد فيها يغدو عديم الشأن حال سريان الاتفاق النهائي. ولكن قسما من هذه الترتيبات لا يزال ساريا حتى اليوم. وقد تلاشى معظمها مع مرور الوقت.

وكانت المحاولة الفعلية الأولى لبلورة اتفاق نهائي قد منيت بفشل مدو: بعد شهرين من تفجير محادثات كامب ديفيد في أيام إيهود باراك كرئيس للحكومة (تموز العام 2000)، نشبت الانتفاضة الثانية. وفي حينه عرض باراك أن تحدد في إطار الاتفاق النهائي ترتيبات أمنية تلبي احتياجات إسرائيل على مدى 20 عاما على الأقل.

وبعد ثماني سنوات، في نهاية ولايته كرئيس للحكومة، حاول إيهود أولمرت التوصل لاتفاق مع أبو مازن في مؤتمر أنابوليس. وتركزت المحادثات على قضايا مثل مكانة القدس، تبادل الأراضي لأغراض تعديلات حدودية ومشكلة اللاجئين. ولم تقف القضايا الأمنية على رأس سلّم أولويات المفاوضات.

وعندما تولى بنيامين نتنياهو منصبه كرئيس للحكومة، زعم في مداولات مغلقة أن إيهود أولمرت باع في أنابوليس المصالح الأمنية الحيوية لإسرائيل. وبناء على طلبه، بدأ الجيش الإسرائيلي عملا شاملا وضع على الورق كتابيا احتياجات إسرائيل الأمنية في سياق مفاوضات مستقبلية مع الفلسطينيين. وأدير هذا العمل الشامل في أغلبه في عهد الجنرال أمير إيشل (قائد سلاح الجو الحالي)، عندما كان رئيسا لشعبة التخطيط، وتم تفصيل الاحتياجات الأمنية لإسرائيل.

حدود وقضايا

ولكن حتى بعد العمل الشامل هذا، ليس هناك موقف موحد للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية إزاء أي قضية، وقد اعتاد الجيش على أن يعرض على المستوى السياسي تشكيلة من الحلول المهنية في كل شأن وقضية، ولكن بالإجمال، ظل موقف المؤسسة الأمنية واضحا بالعموم.

وبشكل طبيعي، فإن القضية المركزية التي تثيرها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ترتبط بالحدود والأراضي السيادية للدولة الفلسطينية. وحدود الخط الأخضر هي شأن طقسي تافه: الجدار الأمني الذي يحيط بيهودا والسامرة يمر حاليا بشكل أو بآخر وفق الخط الأخضر، وإن لم يكن بالضبط عليه. والتعديلات في مسار الجدار هنا وهناك لن تغير من واقع أن جبال السامرة العالية تسيطر من ناحية طوبوغرافية على الشريط الساحلي الضيق، الذي يعيش فيه 70 في المئة من سكان إسرائيل وفيه 80 في المئة من اقتصادها.

أما قضية الكتل الاستيطانية في يهودا والسامرة، فهي في جوهرها قضية سياسية. والحاجة الأمنية المركزية من وجهة نظر المؤسسة الأمنية هي ضمان السيطرة في غور الأردن وفي الحدود على نهر الأردن. ويعود هذا لسبب مزدوج، وفق الموقف الأمني: من جهة محاولة لمنع تسرب أسلحة، خصوصا صواريخ، إلى أراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية (كما حدث في قطاع غزة)، والأهم من ذلك أن الجيش الإسرائيلي قلق من احتمال انهيار النظام الهاشمي في الأردن ومن تشكل جبهة شرقية من العراق وربما من إيران (في كل مواجهات حتى حرب يوم الغفران كانت هذه الجبهة موجودة). لذلك فإن الجيش الإسرائيلي معني بوجود فرق في غور الأردن، تكون جاهزة لمواجهة أي تطور كهذا.

وهناك قضية جوهرية أخرى تشير إليها المؤسسة الأمنية وهي بالضرورة السيطرة على كل المجال الجوي بين البحر ونهر الأردن. والاتفاق مع الفلسطينيين لا يشبه أي ترتيب مع أي دولة أخرى في العالم وفق رؤية الجيش. إذ لا يمكن إدارة نظامي مجال جوي في المنطقة الضيقة التي تتقاسمها إسرائيل والفلسطينيون (فالطائرة الحربية تقطع المسافة بين البحر والنهر في عشرات الثواني).

والأمر نفسه يسري أيضا على فضاء الموجات التي تخدم المؤسسة الأمنية والاتصالات المدنية: فالموجات الكهرومغناطيسية لا تتأثر بالخط الأخضر ولا بأي حدود مصطنعة أخرى، والجيش الإسرائيلي معني بالسيطرة التامة أيضا على هذا الفضاء.

وعند النزول للتفاصيل، تجد عددا لا ينتهي من المسائل: كيف ستسيطر إسرائيل على ما يجري في المعابر الحدودية على نهر الأردن؟ وأي وسائل رصد استخبارية ستتوافر لها مقابل الجبهة الشرقية؟ ماذا سيحدث إذا قامت بمطاردة ساخنة لخلية نفذت عملية في إسرائيل وهربت نحو الدولة الفلسطينية؟ وهل ستتوقف المطاردة عند الحدود؟ وهل يمكن للرئيس الفلسطيني الاحتفاظ بطائرة خاصة به؟ وهل سيسمح لقوات الأمن الفلسطينية بتسمية نفسها جيشا أم شرطة فقط؟ وهل ستكون لها ناقلات جند مدرعة ووسائل أخرى مطلوبة لمواجهة الإخلالات بالنظام، وكيف يمكن أن تهدد بدرجة ما إسرائيل أيضا؟ وما هو الوقت الذي سيستمر فيه نظام تجريد الدولة الفلسطينية من السلاح في حال إقرار هذا التجريد؟ والأهم من كل هذا: أية وسائل أمنية يمكن لإسرائيل اتخاذها، إذا حدثت انتهاكات للاتفاق من الجانب الفلسطيني؟

يعلون شكاك

ويبدو أن التوقعات من المفاوضات ليست ضعيفة داخل أوساط المستوى السياسي وإنما أيضا داخل المؤسسة الأمنية. فأول المتشككين الأمنيين هو وزير الدفاع موشي يعلون. وعندما كان رئيسا لأركان في مطلع العقد الفائت زعم يعلون (في مقابلة مع «معاريف») أن اتفاق أوسلو كان في أساسه «حصان طروادة» الذي أدخله ياسر عرفات إلى المناطق لمحاربة إسرائيل.

وبعد أن خلع بزته العسكرية وقبل أن يدخل إلى الحلبة السياسية، ركز يعلون عملا شاملا لمصلحة مركز «شاليم» في القدس، صيغت فيه بشكل غير رسمي احتياجات إسرائيل الأمنية على يد أشخاص مثل الجنرال احتياط عوزي أراد ورئيس شعبة التخطيط الذي أدار المفاوضات الأمنية مع الفلسطينيين أيام اتفاق أوسلو الجنرال غيورا آيلاند والعميد أودي ديكل. وفي المقدمة كتب يعلون: «على طول مسيرة حياتي العسكرية، بما في ذلك أثناء عملية السلام في أوسلو، عالجت كضابط تولى مناصب مختلفة في الجيش الإسرائيلي أمر الإرهاب الفلسطيني والإسلامي المتطرف. والواقع القاسي المستخلص من خبرتي مع هذه التحديات أقنعني بأن من الحيوي التصدي للمخاطر الأمنية وضمان منظومات دفاعية مناسبة، وليس الخنوع للأحلام والأوهام».

ولم تتقلص شكوك يعلون مع مرور الأيام، بالعكس: فكوزير للدفاع أبدى تقديرات في المداولات الداخلية بأنه إذا كان أبو مازن قد رفض رفضا قاطعا العروض التي قدمها له إيهود أولمرت في أنابوليس، فليس هناك أي احتمال فعلي بالتوصل معه في أيام نتنياهو إلى اتفاق يكون مقبولا أيضا على إسرائيل، رغم أن الرجل يعتبر براغماتيا.

ومن ناحية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، فإن الاحتياجات الأمنية إزاء الفلسطينيين تترجم في قائمة لا تنتهي من الوسائل القتالية والمعدات الاستخبارية (وطبعا بالكثير جدا من الأموال). ولكن المخاوف حقيقية. فقط هذا الأسبوع قال رئيس شعبة الاستخبارات، الجنرال أفيف كوخافي، في مراسم انتهاء دورة ضباط استخبارات، أن إسرائيل تخشى من وضع يسيطر فيه الإسلام المتطرف على سوريا في عهد ما بعد بشار الأسد.

وكما سلف، فإن الكابوس الحقيقي للجيش الإسرائيلي هو انهيار النظام الهاشمي في الأردن، الذي سيجعل الجبهة الشرقية ذات شأن أكثر من أي وقت مضى. ومن ناحية المؤسسة الأمنية، فإن ما يجري في سوريا، في غزة وفي مصر (وقد يحدث في الأردن) يثبت أنه محظور التنازل عن المصالح الأمنية.

فانتشار «حماستان» من قطاع غزة إلى أراضي يهودا والسامرة، مثلا، يمكنه أن يقود إلى الإغلاق الفوري لمطار اللد (وحتى في الوضع الراهن فإن خطر صواريخ أرض جو على طائرات الركاب الإسرائيلية في منطقة إيلات وأيضا فوق مطار اللد ليس ضئيلا).

ويقول الجنرال احتياط عوزي ديان: «أنا أعرف المسألة بعمق واشتغلت بها سنوات طويلة. وأنا لا أرى أي سبيل تضمن إسرائيل به مصالحها الأمنية الأساسية من دون سيادة تامة في غور الأردن، ومن دون سيطرة مطلقة على نهر الأردن».

رد تكنولوجي

وقد ولدت الخطة الأميركية الشاملة لضمان احتياجات إسرائيل الأمنية في التسوية مع الفلسطينيين بعد زيارة نائب رئيس الأركان الأميركي السابق، حيث عرض عليه كتاب احتياجات إسرائيل الأمنية وفق شعبة التخطيط. ويميل الأميركيون لعدم قبول الموقف غير الرسمي (حتى الآن) لنتنياهو، القائل بأن الترتيبات التي ستضمن المتطلبات الأمنية لإسرائيل ستكون سارية لمدة أربعين عاما على الأقل، وتلغى فقط إذا أثبت الواقع أن بالوسع «الاعتماد على الدولة الفلسطينية».

ويمكن الافتراض أن الكثير من الحلول التكنولوجية التي يعرضها الأميركيون تستند إلى أقمار صناعية متطورة جدا، لا تخدم الآن سواهم، ويمكنها أن توفر إنذارا مباشرا عن كل تحريك لأقل قدر من القوات من الشرق باتجاه إسرائيل. كما أن الأميركيين على استعداد لمنح وسائل استخبارية برية على أمل أن ترضي إسرائيل.

ولكن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لم تتأثر بالعروض لنشر قوات دولية (حتى لو كانت جميعها من الجيش الأميركي) في المعابر الحدودية على نهر الأردن والأغوار. وتثبت تجربة الماضي، حسب زعم إسرائيل، أنه لا يمكن الركون إلى مثل هذه القوات. فالقوات الدولية في سوريا ولبنان هي في الأساس بؤرة إزعاج. والقوة المتعددة الجنسيات التي أنشئت العام 2005 لمراقبة محور فيلادلفي في جنوب قطاع غزة تبخرت بالسرعة نفسها التي سيطرت فيها حماس على القطاع.

حرب وسلام

وهذا بالتأكيد يمكن أن يحدث: إذ ليس مستبعدا أن محادثات السلام التي ستبدأ مع الفلسطينيين ستقرب تحديدا المواجهة المقبلة التي ستشارك فيها إسرائيل. ومن الجائز أن قسما من الاستعداد الذي أبداه بنيامين نتنياهو للدخول في مفاوضات مع الفلسطينيين يرتبط برغبته في حل المشكلة الأكبر المدرجة حاليا على جدول الأعمال: مهمة منع إيران من التحول إلى دولة تمتلك سلاحا نوويا، وهو يرى في هذه المهمة مسألة شخصية.

وعادت القضية الإيرانية في الشهور الأخيرة لتقف أمام لحظات حسمها. فالضغط الأميركي لاستئناف العملية السياسية إزاء الفلسطينيين يعتبر من ناحية نتنياهو تبديداً للطاقة. ووجود محادثات في الأصل لن تقود أبدا إلى أي مكان يمكنها أن تزيل هذا الضغط.

وفضلا عن ذلك، ليس من المستبعد أن نتنياهو تلقى من الأميركيين وعودا ما تتعلق بالمسألة الإيرانية، مقابل موافقته على استئناف المفاوضات مع أبو مازن. وكان عميد كلية الإدارة ورئيس معهد السياسات والاستراتيجيا في مركز هرتسيليا، أليكس منتس، قد أبدى تقديره بأن الأميركيين اتخذوا القرار مؤخرا «بإطلاق الحبل» في الطريق إلى حل المسألة الإيرانية، وذلك بالسماح لإسرائيل بأن تعالج المسألة بنفسها من دون أن يكون لهم ضلع في القتال.

وحسب منتس، فإن الأميركيين اقتنعوا بأنهم ملزمون بالعمل ضد المشروع النووي الإيراني، لكنهم يفضلون أن تقوم إسرائيل بالهجوم. وقال: «إسرائيل أملت أن تقنع الأميركيين بمعالجة المشكلة، لكن يبدو أنهم ببساطة سيسمحون لنا بالقيام بالعمل في توقيت مناسب من وجهة نظرهم».

وهذا أيضا سيناريو مأخوذ بالحسبان في الجيش الإسرائيلي: في حال فشل المحادثات مع الفلسطينيين، يتوقع أن يزداد الإحباط في الشارع الفلسطيني، لدرجة وقوع اضطرابات خطيرة وانتفاضة ثالثة. في هذه الأثناء يواصلون الاستعداد في الجيش الإسرائيلي للجانب الأمني من محادثات السلام.

حرره: 
م . ع