صباح الخير يا ناجي العلي

لندن: تجول غسان كنفاني في الأزقة، وتفرج على الجدران المرسومة بالفحم، خفق قلبه وعرف أنه هنا في أحد هذه البيوت الفقيرة، توجد يد صغيرة لها قلب كبير وعين تنعكس فيها صور الحياة.

قرع الباب المصبوغ بالنيلي الذي يقطن وراءه طفل له فم لا يعرف إلا الطعم المر، وأخذ اللوحة ونشرها في جريدة "الحرية".

حمل ناجي العلي معه الى المنفى ذاكرة الطفل الذي احتضنه الوطن ولم يكبر أكثر، عشر سنوات بقي عمره حتى قتلوه، قتلوا طفلا.. ترك لنا ظله المر، يتجول على نحور نسائنا وفي أحلام رجالنا.

هو طفل لم يقم بفعل، سوى احتضانه للوطن وهدهدة الأرض بين ذراعيه وقسوته على من يخرج من الحضن، مثل بائع متجول، يحاول المساومة على جزء من همه.

قاتله.. كان العدو الذي بامكانه احتضانه مثلما يحتضن الصديق.. تماما هكذا، هذه هي طبيعة الفنان الذي لا يعيش إلا من أجل فنه.

أبدا لم يجرؤ ناجي على قتل عدوه وإسالة دمه على رصيف، كيف لطفل مثله أن يفعل؟ وهو الذي جعل الحمامة التي رسمها لغسان تذرف الدمع!.

ناجي هو عين الحمامة الباكية، لا يقتل العدو... ولهذا قتله العدو، لأنه لا يرفع في وجه عدوه إلا ريشة، يَصِر عليها بين أصابعه التي لبست شوك طفله حنظلة.

أوحى ناجي لحنظلة، أن يقدم زهرة لبنت ويقول لها صباح الخير يا بيروت، بعد أن تجول في المدينة التي شاخت من حريق التهم الجميل فيها، زهرة يحمل، في شوارعها التي حولها ذات العدو الى دخان.. يحمل زهرة ويقدمها للمدينة.

في ذلك اليوم الذي اخترقت فيه الرصاصة أرواح الجميع.. في ذات اللحظة، خرج الطفل من صورته وقال:"فشروا"، ثم قرر البقاء بشوكه وطعمه المر. ومن لم يلتق بالطفل هذا، فهو أبدا لا يتذكر للوطن أي معنى أو حضن.

لم أكن أعرف عن ناجي كل هذه الأشياء، قبل أن ألتقيه في مدخل مكتب جريدة "القبس" في لندن. همس بأذني محمد داهود صديقي وزميلي وهو يحرك عينيه لينبهني الى رجل مقرفص وهو حافي القدمين: "ناجي العلي هون".

عندما عرف بأننا من داخل الـ 48 ارتمى في أحضاننا وقال لمحمد: "إياك أن تهجر فلسطين، ابق هناك، حتى لو لم تملك ثمن الأكل، عد الى دبورية يا دبوري". ثم نادى على المحرر المسؤول وقال له:" بدك تشتري منهم المقالات، هذول الشباب مشوارهم بعيد.. جايين من فلسطين وبعدين لأنها بتدخن كمان".

سألت ناجي: " كم هو حبك لبلدك الشجرة"؟. فقال لي: "بحجم حبي لأمي". وطار فرحا عندما وعدته بتصوير الشجرة، محمد هو الذي أخذ له الصورة التي التقطتها لقريته الأم، سأله ناجي عني: "وينها الطمراوية؟ بدي أعمل معها مشروع، بس ربحي أكثر"، إشارة منه لمشروعي الذي لا يطمح أكثر من بيع تحقيقات مصورة، تنقل أحوال فلسطين.

كان من المفروض ان ألتقيه في أواخر تموز، لكن الرصاصة اختطفت ريشته التي خطت على الرسم الأخير..(فشروا). وعلى رسم آخر بقي ملفوفا حول نفسه، رسم سهما يخترق كعب (آخيل).

أهديتك يا ناجي صورة لحضنك الشجرة وأنت أهديتني وأولادي حنظلة الذي حمل الزهرة في مدينة مدمرة، وقال لها: " صباح الخير". مدن كثيرة تسير على الأشواك التي غرزتها بريشتك في خاصرتها، تتوق الى زهرة. سأقول لكل مدينة لهن باسمك، صباح الخير.. كل يوم، وسأقدم لهن زهرة.. زهرة الحب، زهرة الحب التي لم يعد يذكرها أحد.

سأستدعي طفولتي وأمنعها من بلوغ الرشد وأغذيها باللهو وأسليها بدمية وأنا آكل التفاح وأهز كتفي وأقول:"فشروا".

حرره: 
ع.ن