جبرا ابراهيم جبرا... التجربة النادرة واللغة الفريدة

بقلم: صقر أبو فخر

لم يعرف الأدب الفلسطيني المعاصر أديباً أو كاتباً أو شاعراً أو فناناً استطاع أن يجمع إلى مائدته تلك الباقة المدهشة من الإبداع الجميل، ولم تجتمع ضروب شتى من الفن والكتابة الراقية لكاتب واحد كما اجتمعت لجبرا إبراهيم جبرا. وكان كثيرون يظنون، إلى عهد قريب، أن جبرا إبراهيم جبرا عراقي لا فلسطيني. ولعل إقامته في بغداد وانصرافه إلى الإبداع، فضلاً عن عدم انخراطه في العمل السياسي المباشر، أثرت، كلها، في هويته المتخيَّلة التي كثيراً ما أثارت الدهشة لدى كل من اكتشف انه فلسطيني.

كانت حياته كلها قصيدة حب طويلة لوطنه الذي تناءى عنه، وللأماكن التي غادرها، وللمدن التي استقر فيها، وللنساء اللواتي أحبهن، ولبلاده التي عذبته كثيراً. انها رحلة مضنية اجتازها جبرا إبراهيم جبرا كشمس الهاجرة أو كضياء خاطف أو كزمن الحكايات، وكان لا ينفك مردداً:

«أيامنا كالشتاء القطبي.

ساعات الفرح فيها كالضياء خاطفة،

والفواجع كالليل لا تنتهي.

للاشراقات أوقات ما أسرع ركضها

وللظلمات المواسم المقيمة».

أمضى طفولته في منزل أشبه بكوخ، وعاش معظم أيامه الأولى في بيت من غرفة واحدة. كان عالمه، إذا، ضيقاً جداً، لكنه تغلب على ذلك بالخيال. وهذا الفتى الذي توفي والده في سنة 1946 وتركه لأقداره، تمكن من أن يدرس في أفضل جامعات انكلترا والولايات المتحدة، وأن يصبح واحداً من كبار المبدعين العرب في القرن العشرين، واستطاع ان يحوِّل بؤس الطفولة إلى عالم مكتظ بالفتنة.

******

اختار لسيرته عنوان «البئر الأولى». والبئر جزء من التراث الأسطوري والديني للعرب. فهُبل (البعل) هو إله الآبار في الجزيرة العربية، وزمزم هي البئر المقدسة التي روت عطش إسماعيل وحالت دونه والموت. و«البئر المهجورة» ليوسف الخال هي قصيدة تأسيسية في حركة الحداثة في الشعر العربي الحديث. ولجبرا نفسه قصيدة عنوانها «خرزة البئر» عن إلقاء الصهيونيين جثث أهالي دير ياسين في بئر القرية. ومعظم كتبه فيها ما يشير إلى البئر أو إلى الماء، مثل «يوميات سراب عفان» التي تتضمن تلك العلاقة الإيهامية بين السراب والماء. وكتبه الأخرى مثل «الحرية والطوفان» و«السفينة» و«ينابيع الرؤيا» و«أيلول بلا مطر»، جميعها لها علاقة بالماء حيث كانت في دارهم بئر مثل معظم بيوت الناس في فلسطين في مطالع القرن العشرين.

عاش جبرا بين أشجار «وادي الجمل» الذي ينحدر شرقاً نحو «حقل الرعاة» في بيت لحم، وكانت طفولته لا تمتد أبعد من شارع راس إفطيس حتى حارة العناترة وساحة المهد وجبل خريطون ودير أبونا أنطون ومقهى أبو شمعون والبازيليكا ومزبلة الفرير. وتأثر بالحكايات الشعبية التي كان والده الأمي يرويها له ويغني بعض أشعارها. ولم يتسع عالمه البصري إلا حين انتقلت عائلته إلى القدس في سنة 1932 وأقامت في «جورة العناب». ومع ذلك، لم ينقطع عن بيت لحم إلا جراء هزيمة 1967 ووقوع مدينته تحت الاحتلال الإسرائيلي.

من بيت لحم إلى بغداد

- ولد في بيت لحم سنة 1920.

- زوجته: لميعة برقي العسكري، ولهما: سدير (1955) وياسر (1957).

- تخرج في الكلية العربية في القدس سنة 1938، ونال منحة دراسية إلى بريطانيا، فدرس في إكستر وكيمبردج من 1939 حتى 1943.

- عاد إلى فلسطين وعمل في حقل التدريس، إلى أن سافر إلى العراق في سنة 1948 ليعمل مدرساً في الكلية التوجيهية في الأعظمية، وساهم في تأسيس القسم الانكليزي في كلية الآداب والعلوم التي كانت النواة الأولى لجامعة بغداد.

- ربطته علاقات وثيقة ببلند الحيدري وحسين مردان وجواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وبدر شاكر السياب ورفعة الجادرجي ونجيب المانع وعبد الملك نوري وآخرين.

- تابع دراسته في جامعة هارفارد بين سنتي 1952 و1954، ثم عاد إلى بغداد التي اختارها موطناً دائماً له.

- عضو في جماعة بغداد للفن الحديث.

- نشر أكثر من ستين كتاباً أشهرها: صراخ في ليل طويل (رواية ـ 1955)، صيادون في شارع ضيِّق (رواية ـ 1960)، السفينة (رواية ـ 1973)، البحث عن وليد مسعود (رواية ـ 1978)، عالم بلا خرائط (رواية مشتركة مع عبد الرحمن منيف ـ 1983) الغرف الأخرى (رواية ـ 1988)، يوميات سراب عفان (رواية ـ 1993). ترجم تراجيديات شكسبير (هاملت، الملك لير، عطيل، مكبث، العاصفة، كريولانس، الليلة الثانية عشرة)، وترجم أيضاً «الصخب والعنف» لوليم فوكنر، و«في انتظار غودو» لصموئيل بيكيت، و«برج بابل» لأندريه مالرو، و«الأمير السعيد» لأوسكار وايلد، وفصل «أدونيس» من كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر.

- توفي في 12/12/1994 ودفن في مقبرة السكران في بغداد.

درس على إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) ومحمد العدناني واسحق موسى الحسيني (صاحب «مذكرات دجاجة»)، وتأثر بالفنان التشكيلي جمال بدران فرسم أولى لوحاته في سنة 1941، وكف عن الرسم في سنة 1967، وبقيت معظم رسومه في بيت لحم ومنها لوحة «التحية» (زيت ـ 1946) ولوحة «القطاف» (زيت ـ 1948). وكانت بداياته في المسرح حيث كتب مسرحية في سنة 1931، وفي سنة 1934 كتب رواية قصيرة، لكنه عاد وكتب مسرحية جديدة في سنة 1937، ونشر في سنة 1939 قصة عنوانها «ابنة السماء» في مجلة «الأماني» التي كان يصدرها عمر فروخ. وهذه القصة، مع أنه كتبها يافعاً، تشير بوضوح إلى أن الإثم والفضيلة حاضران بقوة في خياله وفي أحلامه. وتدور وقائع القصة على حسناء تقيم في دير عتيق استعداداً للرهبنة. أما هو فاندفع إلى انتشالها من مصيرها الذي ينتظرها، ثم انغمسا معاً في نشوة جبارة، وأذاقها حلاوة لم تعهدها من قبل، و أعاد تكوينها امرأة كاملة الغريزة.

******

أبطال رواياته فلسطينيون مثله: وديع عساف في «السفينة»، ووليد مسعود في «البحث عن وليد مسعود»، وجميل فران في «صيادون في شارع ضيِّق». وهؤلاء جميعهم ناجحون ومثقفون ومتحضرون ويعيشون في بلاد الخليج العربي، ويشتركون في تجربة المنفى وفي تجارب العشق المختلفة. ورواية «السفينة» تبدأ أحداثها في القدس، وتتناول المنفى والذكريات والحنين، وتمتد تفصيلاتها إلى السفينة هركيوليز لتعبر عن مأساة المصائر المتشابكة والمتعارضة والمتناثرة، أي مأساة التذرر الفلسطيني. وأسلوب جبرا الروائي فريد ونادر وقوي، وقلما نجد له جذور قربى في الأدب الفلسطيني. فجبرا يكتب بأسلوب شاعري كثيف، مع تخيُر مدهش ومبتكر للألفاظ. ومع ذلك لا تغرق رواياته في الشعر أو في البلاغة على الإطلاق، وأثر طه حسين وأحمد أمين وأحمد حسن الزيات واضح في أسلوبه اللغوي: الرشاقة لا الفخامة، والإيجاز لا الإطناب، والمعنى الثاقب اللماح لا الجمل الطويلة. وبهذه العُدة تمكن من أن يجعل لغته الأدبية فريدة حقاً في الأدب الفلسطيني، ولم يطاولها كثيرون من مجايليه البتة.

******

انصرفت حواسه مبكراً إلى الجمال تنشده أينما وُجد، فتعلم الموسيقى، وكان يمتلك صوتاً جميلاً ويرتل في الكنائس. وغرس حب الفن في نفسه الفنان جمال بدران في أثناء دراسته في المدرسة الرشيدية بالقدس، فأغرم بالزخرفة الإسلامية والخط العربي، وتعلم قواعد المنظور واكتشاف نقطة التلاشي. وهذا الفتى الذي لم يكن يملك حذاء في طفولته، ويذهب إلى المدرسة حافياً أحياناً فتغوص رجلاه في الطين، صار مناضلاً يشارك في تظاهرات سنة 1936. ويروي جبرا في سيرته أنه تلقى حذاء هدية لتفوقه في المدرسة، فأطار هذا الحذاء الجديد هناءه، فخبأه إلى يوم العيد. لكن والدته الحريصة والمدبرة باعت الحذاء بعشرين قرشاً واشترت بدلاً منه حذاء مستعملاً بقرشين من حارة اليهود في القدس. غير أن الخيبة واللوعة لم تجعلاه مستكيناً لأقداره، فقد عاش الحرب العالمية الثانية في أوروبا بجنونها، وانخرط في الأجواء الثقافية، ونهل من ينابيع المسرح الانكليزي، وكتب الشعر والقصة والرواية بالانكليزية (صراخ في ليل طويل ـ 1946، وصيادون في شارع ضيق ـ 1953)، لكنه لم يلبث ان انصرف إلى الكتابة بالعربية.

******

ابتنى جبرا إبراهيم جبرا منزلاً في حي المنصور ببغداد، وأودع فيه عصارة تجربته ورحيق عمره من اللوحات والكتب والتحف، وكان لديه آلاف الرسائل التي تلقاها من مبدعين ومشاهير وأَعلام، ووضعها في خزائن وأكياس. وعندما توفي في سنة 1994 بقي هذا الميراث في مكانه، إلى أن دُمِّر منزله واحترقت مكتبته ومعها هذه الرسائل والوثائق النادرة. وهذا المبدع الذي عاش شقياً كطفل جميل، مات حزيناً قبل أوان الموت، وظل حتى آخر شهقة له يصارع شقاءه في بلد مسيج بالحصار والموت والشقاء.لغزة غير صحيح، ونرجو أن يتم الكف عنه، لأن فيه تجنياً على دماء الشهداء المصريين الذين سقطوا على أرض فلسطين وقبورهم في غزة وفلسطين، وفيه إساءة لعلاقات الدم والمصير المشترك وحرص مصر على القضية الفلسطينية".

وتشهد علاقة "حماس" ومصر توترا شديداً اثر مواقف الحركة المؤيدة لجماعة "الاخوان المسلمين" في مصر.

 

 

حرره: 
ع.ن