في مهرجان شاشات التاسع - الوطن الذي تحول مكبا لنفاياتنا

"ريف بالأسود" و"شكلو حلو...بس"

يبدو الفيلمان الوثائقيان القصيران "ريف بالأسود" للمخرجة فداء نصر، و"شكلو حلو بس.." للمخرجة رنا مطر الأكثر مباشرة إلى ثيمة "شاشات" في مهرجاناها التاسع هذا العام عن غيرهما من الأفلام الخاصة بالمهرجان؛ وهي "المُخَلَّفات" بمعناها المادي/ البيئي. هذا لا ينتقص من بقية الأفلام المشاركة بالمهرجان بل يخدم فكرة تنوعها واختلاف رؤى المخرجات اللواتي يقفن خلفها.

فـ"ريف بالأسود"، الذي لا يتجاوز الدقائق السبعة، والقادم من مدينة الخليل يرصد الدمار البيئي الذي يلحق بالريف الفلسطيني من خلال ظاهرة حرق الخردة من أجل بضعة شواقل، فيما "شكلو حلو بس.." القادم من قطاع غزة فينتقد الدمار والتخريب الذي يلحق بالبحر بفعل سلوك الأهالي وقلة وعيهم.

والفيلمان هما اقترب جريء من "المُخَلَّفات" البيئية التي لا تقل خطورة عن المخلفات الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية.

الريف الذي غطاه السواد

في الفيلم الأول نحن إزاء حكاية الطفلين عبد الله وجلال، من بلدة دورا جنوب الخليل، وهما نموذجين لبعض العاملين الذين يعتاشون من حرق الخردة (أسلاك، إطارات..) في مناطق متفرقة من ريف الخليل وتحديدا في مناطق "ج"، من أجل استخلاص المعادن منها مسببين تلوثا بيئيا هائلا يهدد الريف الأخضر العامر بالزراعة والرعي، وصحة أهالي المنطقة.

يقدم الفيلم صورة صادمة للريف الفلسطيني، عبر رسم مفارقة موجعة بتقديم المخرجة مجموعة لقطات في بداية الفيلم تجعلنا نشعر بالمجد والراحة والحب لوطننا الجميل، فالريف كما تربينا عليه وكما هو في أذهاننا وذاكرتنا، للريف الذي نحن إليه ونشتاق مهما ابتعدنا عنه، لكن ذلك الجمال والإبداع في التكوين الالهي والبشري يتحول إلى صدمة كبيرة بعد توالي المشاهد حيث الريف الموشح بالسواد.

يوثق الفيلم بهدوء وعبر كاميرا مراقبة وعبر لقطات بعيدة ومن ثم قريبة ومن ثم بعيدة ما يقوم به الطفلان "عبدالله" و"جلال" وتنقل لنا هول الجريمة، حيث تقتحم الأدخنة الهائلة والمنبعثة من أكوام المحروقات الصغيرة السماء والسهول والوديان فاعلة بها الكثير من الدمار والتشويه وزراعة الهلاك. 

يشعل الطفلان ما جمعوه من بقايا خردة على شكل أكوام صغيرة، فتهب النيران وتتصاعد الأدخنة تسد المدى البعيد، لتكون النتيجة بعد ساعات أسلاك وقطع حديد ونحاس وألمنيوم يجمعها الطفلين عائدين إلى قريتهم أملا في حفنة شواقل.

تفتتح المخرجة نصر فيلمها بتعليق صوتي، هو في الحقيقة صوتها، تستهله بكلمة "ريفي" لتذوت المسألة وتلغي أي مسافة بينها وبين موضوع فيلمها وهو ما يجعل من المتلقي أكثر قربا من موضوعها، وهو ما يكتمل باللهجة العامية الأقرب للفصحى التي استخدمت في التعليق الصوتي المكثف والمنتقى بعناية.

ذلك الصوت الحزين يخبرنا عن كرهها لمن يدمرون ريفها الجميل لكن الكاميرا المراقبة عندما تطالعنا بعبد الله وجلال، فنجدهما طفلان خجولان لا ينظران للكاميرا ويعترفان بجريمتهم ويؤكدان أنهم في مقابل الشواقل القليلة يدفعون أضعافها للأطباء ، غير أنهم لا يجدان غير هذه الفعل لكسب قوت يومهم، ليعترف الصوت النسوي أنه لا يمكنه الاستمرار في كره الطفلان، فهما ضحيتان للواقع السياسي والاقتصادي الصعب.

تلك مفارقة تطرح أسئلة على المسؤولين الذين تقاعسوا عن القيام بدورهم تجاه البيئة الفلسطينية وأبنائها، فخلف مناطق "ج" يتشكل العجز الفلسطيني عن حماية البيئة على اختلاف مكوناتها أرضا وهواء وماء، ويظهر الفشل الرسمي والأهلى في محاربة ظاهرة تتزايد في مناطق الخليل وجنين ومدن أخرى كثيرة، لتتحول أريافنا إلى مقابر ومصادر موت بعد أن كانت مصادر حياة.

والمؤكد هنا أنه خلف سحب الدخان المنبعث من حقول الأرياف مستفيدون كثر، تجار لا يهمهم سوى الكسب، وواقع سياسي صعب، وشلل قانوني لا يوفر رادعا لأحد، والمؤكد أن المستفيدون الكثر ليس منهم الطفلين عبد الله وجلال، فهؤلاء ضحايا مرحلة هم غير مسؤولين عن تداعياتها. أما حفنة الشواقل التي يتلقفونها فتصنع ابتسامة رضا وتوفر قوت يوم، وما عدا ذلك فهي تجلب الأمراض والدمار لبيئة فلسطينية ظلت لسنوت طويلة عنونا للجمال والصحة والخير، ليكون الفيلم صفعة بصرية للجميع وبتوقيع المخرجة فداء نصر التي تطرحها سؤالها البسيط والمستحق: هل يخلع الريف الفلسطيني ثوب الحداد ويعود إلى سابق عهده مكسوا بالألوان الطبيعية؟

البحر الذي مكبا

أما الفيلم الوثائقي القصير "شكلو حلو بس.." (6 دقائق) فيرصد بحر غزة المحاصر، نسمع عبر التعليق الصوتي عبارة: "زادت حمولة البحر.. فوق همنا صار مكبنا" لتلخص حكاية البحر الموجعة، فالبحر الذي يعكس مجموعة كبيرة من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية أصبح الضحية الأولى لواقع القطاع وسلوك أبناءه غير المسؤول.

توثق كاميرا المخرجة رنا مطر الشواطيء المزدحمة بالأجساد المتعبة "عندما نختنق يأخذنا الطريق للبحر"، وهو عمليا يأخذ سكان القطاع جميعهم بصفته الأقرب إلى قلوبهم والمكان الوحيد المتاح لهم، لكن المخرجة تزيد على ذلك طرحها للسؤال المركزي: "لكن ماذا نفعل بالبحر؟" فمصدر البهجة والأمل والتحرر والتخلص من الهموم ومكان التقاء العائلات والأحبة أصبح مشوها بنفاياتنا اليومية وقلة وعينا.

تلك مفارقة عجيبة وغريبة فعلا، ويصعب الوصول إلى إجابة شافية حولها، لماذا ندمر مصدر بهجتنا الوحيد، وفي سبيل اثبات ذلك يفجعنا الفيلم بمشاهد متنوعة تدلل على إساءة الاستعمال مثل: مشاهد غسل الحمير في البحر، وإلقاء مياة الصرف الصحي حيث تقدر الإحصائيات 80 مليون لتر من النفايات تلقى في بحر غزة، وهو ما يجعل من أماكن السباحة غير صالحة، كما تختلط المياة العادمة مع الأصداف الجميلة، فيما أكوام القمامة يمتليء بها الشاطي.

الفيلم الذي يبدو حكاية يوم في رحاب البحر، منذ طلوع الشمس وحتى مغيبها، هو محاولة لقراءة ما بين تلك الساعات، الكامير ترصد ذلك فيما التعليق الصوتي (صفاء الهبيل) يتمم الحكاية بطرح الأسئلة، حيث لا يتوقف عند حدود متعة الناس وارتمائهم في المياة المالحة فيما يشبه أكبر عملية اغتسال بشرية، وهي العلاقة الأكثر وضوحا بين البشر ومختلف البحار، لكن الكاميرا تستمر في البحث بعد مغاردة المواطنين هذا المكان الخالد، فترصد ما يخلفه الناس خلفهم، ومياه الصرف الصحي التي تعيد تلوين البحر بالسواد.

ويرصد الفيلم علاقة البحر بالصيادين بعد أن أغلق في وجههم بعد الحرب الأخيرة على القطاع بحسب ما يخبرنا به الصياد على العامودي، فقبل الحرب كان للصيادين حرية الوصول إلى عمق يصل حتى 20 كيلوا متر، لكن تلك الحرية التي كانت مصدرا وفيرا للرزق أصبحت غير موجودة في ظل المنع الإسرائيلي وملاحقة الصيادين المتكررة، فتحول الميناء البحري من مكانا غاصا بالحياة إلى لوحة فنية صامته، حيث القوارب تتراقص على المياة وتنعكس صورتها في المياة المجاورة.

البحر بصفته المكان الأكثر صدقا في علاقة الإنسان بالطبيعة يبدو في حالة القطاع مفارقة تطرح سؤال القيم على الجميع، يخبرنا أحد الصيادين أن البحر بالنسبة له "غسالة كبيرة لهمومنا ومشاكلنا.. يمسك المواطن بهمومه ويقذفها للبحر" ليكون السؤال الذي يخبئه الفيلم هو سؤال القيم، فهناك كما يبدو تراجع مخيف في قيمة الانتماء، وما يترتب عليها من علاقة مع المناطق العامة، إضافة إلى نقص كبير في القيم البيئية والذي يعتبر أحد أهم الأمثلة عليها انحسار قيمة الجمال والحفاظ عليه، وهو ما يفسر سلوك المواطن تجاه الأماكن العامة من حدائق وشوارع وبحر.

تختتم المخرجة مطر فيلمها مع مشهد الغروب، حيث تختفي الشمس بالأفق وتستمر عملية تخريب البحر لتطرح المخرجة نصيحتها بما يشبه الرجاء والأمل، "خلينا نحافظ عليه (البحر) لانه الهواء الذي نتنفسه"، فهل من مجيب؟

يذكر أن أنتاج الفيلمان جاء ضمن مجموعة أفلام تعرض ضمن مهرجان شاشات التاسع لسينما المرأة في فلسطين، حيث يتم  هذا العام ضمن إطار مشروع "مُخَلَّفات" الذي تنفذه مؤسسة شاشات، وحصل على تمويل رئيسي من الإتحاد الأوروبي وتمويل إضافي من مؤسسة هنريش بول، ومؤسسة تفي-بيت النرويجية، والقنصلية الفرنسية العامة في القدس.

و"مُخَلَّفات" هو مشروع سينمائي مؤلف من عشر أفلام ومائة عرض ونقاش في الضفة والقطاع، وثلاث حلقات تلفزيونية، ويشمل إنتاج "شاشات" لسبع أفلام جديدة، ثلاثة من الضفة وأربع من غزة، وجميعها تسلط الضوء على مجموعة من القضايا التي نرفضها في محيطنا ونعتبرها جزءا من تلوث حياتنا على الصعيد الثقافي والاجتماعي والبيئي.