في مهرجان "شاشات" التاسع – الشابات بين كابوسي "الإخراس" والتحرش "هش" ل زينة رمضان و"منشر غسيلو" ل آلاء الدسوقي وأريج أبو عيد

"هش" – كابوس الإخراس

في مشهد أخير من فيلم "هش" للمخرجة الشابة زينة رمضان نرى على طاولة الفتاة الجامعية "لمياء" مجموعة كتب، إحداها رواية "باب الساحة" للكاتبة سحر خلفية، وفيها تتحدث عن مجموعة من نساء المدينة الضعيفات وعن دور المرأة في الانتفاضة الأولى، فيما الفيلم الروائي القصير "هش" منجز رمضان الفني يحيلنا إلى واقع الفتيات في لحظتنا الراهنة، أي بعد أكثر من 20 عاما على الانتفاضة الأولى، وذلك عبر معالجة ذكية تطرح من خلالها رمضان موضوعها الخاص ورؤيتها لواقع الفتاة الفلسطينية.

الفيلم القصير لا يضعنا في مقاربة تاريخية أبدا، فهو لا يتصدى لذلك لكنه يطرح أسئلة صعبة حول مخلفاتنا/ أو مصادر تخلفنا الثقافية/ الاجتماعية، مثل: إلى أي مدى يمكن تقدير سطوة المجتمع على فتاة حالمة.. فتاة جامعية مثلا، وتحديدا في مرحلة تفتح أحلامها وانطلاقها باتجاه ما تريد؟ وما هي الطلبات والمقررات التي يفرضها المجتمع على الفتاة في لحظات نضوجها وانطلاقها للحياة؟ وكيف تلعب المرأة دورا مركزيا في إبقاء الفتيات سائرات على نفس الطريق الذي اختاره المجتمع لهن وفي جعلهن فتيات مثاليات من وجهة نظر المجتمع الذكوري؟

الفيلم الذي استعاظ بـ"هش" (Hush) عن كلمات من قبيل اخرس/ أسكت يحمل دعوته من عنوانه، دعوة لكي يكف المجتمع عن التدخل في أحلام فتياته، تلك التدخلات التي تتشكل وفق مقاييس ذكورية تقليدية حتى لو كانت من خلال النساء اللواتي حضرهن المجتمع لممارسة أدوارهن وأحلامهن بالحياة والتي تنحصر في صيد العريس، وأحاديث النميمة، وإنجاب الأطفال..الخ .

 ويبدو الفيلم الروائي القصير 7:40 دقيقة مليء بالتفاصيل الصغيرة التي تشكل قصته وقضيته الشائكة وذلك على شكل جمل في حوارات قصيرة ورشيقة، ومواقف وصور تغص بها حياتنا، وعبر البطلة الصامتة "لمياء" نرى الصراع الذي تعيشه الفتاة الجامعية مع المجتمع وأفكاره وتصوراته عنها.

3 نساء وجيل  واحد

من أحد الأحواش التراثية في مدينة نابلس (منزل بسيط ونافورة ماء تتوسطه) يدور الحديث الصباحي بين عروس وكنتها فيما يبدو، أو بين اثنتين من النسوة، وعلى ايقاع إعداد قهوة الصباح ونار الأرجيلة يغصن في أحاديثهن الصباحية التقليدية، تلك الأحاديث التي تستنزف وقت النساء وطاقاتهن، وعبر ذلك تنقلنا المخرجة إلى حكايتها البسيطة عن "لمياء" الفتاة الجامعية.

وعبر المشهد الأول نلحظ التباس علاقة "لمياء"، مع المجتمع، فمن خلف ستارة تنظر إلى الشارع نظرة تبدو مليئة بالخوف والقلق، تغادر باب منزلها على مسمع من أحاديث النساء الصباحي التقليدي الذي يحاصرها فيما يجب أن تفعل، عليها أن تكون مثلهن تماما، مشبعة بأحاديث القيل والقال، وحكايات النميمة. وحتى بعد مغادر منزلها نجد "امرأتي الحوش" في مطاردة يومية للمياء، فالمشهد الثالث يكون في السوق حيث يسرن خلفها ولا يوقفهن عن ملاحقتها إلا محل لبيع أدوات العرايس، وفي مشهد رابع تجمعهما سيارة العمومي لتكون "لمياء" صيدا ثمينا لذات المرأتين. ليتحولن بعدها إلى شبح/ كابوس يرصد لمياء ويلاحقها على درج الجامعة، وفي الصف الدراسي، وفي غرفة النوم، وفي الأحلام.

معالجة ذكية

مطاردة "امرأتا الحوش" أو حضورهما الكابوسي في حياة لمياء بدا شديد الذكاء، فمطالب أؤلئك المرأتين اللتين يمثلن المجتمع تتمثل بضرورة أن تجلب "لمياء" العريس أثناء فترة الدراسة الجامعية طالما الفتاة التي تعجز عن ذلك تعتبر فاشلة اجتماعيا "اللي بتطلع من الجامعة بدون جوز حمارة"، أما في السيارة فلغة الغمز واللمز ضد الفتاة هي السائدة لكونها تفعل أشياء لا تناسب ذوق المجتمع، الأمر يتجاوز ذلك فتميلان عليها بقسوة لدرجة يدفعانها لمغادر السيارة.

تستمر الامرأتين في مطاردة "لمياء"، يفرضن عليها حديث تتنوع موضوعاته: طلب الطلاق، النساء اللواتي يخربن البيوت، والفضائح الاجتماعية، والعروس في يوم عرسها، الذهب و"الحبل" ومشاكل الانجاب، واكمال التعليم والعريس المناسب...الخ، فيما تلعب الأغاني الشعبية دورا مكملا: "بدي عروس كمل عمري معها". وكلها تعمل ضمن منظومة اجتماعية وثقافية على تنميط أحلام الفتاة وتقزيم دورها.

شبح الامرأتين يصل غرفة نوم لمياء، يلبسنها ثوب العرس الأبيض ويخبرنها كم هي جميلة، وعندما تقرر الهرب تجد نفسها أمام مجموعة أبواب تفتحها تباعا فتجد عرسانها الكثر في الانتظار تارة، والامرأتين تارة أخرى، تفيق على نفسها أمام مرأة غرفتها الصغيرة، وتبدأ باستعادة وعيها وتماسكها، تحمل قناعا مزدوجا لوجهي امرأة ورجل.. تتحسسة بحنية وترتسم على وجهها ابتسامة رضا.

الإقرب لقضايا الفتيات

فيلم "هش" يبدو الأقرب إلى قضايا الشباب وتحديدا الفتيات المقبلات على الحياة، فهو يطرح موضوعا مهما في لحظتنا الراهنة، ويبدو الفيلم مبشرا بمخرجة واعدة تمتلك مجموعة من الأدوات الفنية والأساليب التي قدمت من خلالها أفكارها. 

فمثلا مشهد النساء الثلاث في سيارة العمومي يعتبر الأكثر دلالة ورمزية، فالسيارة التي تتمايل على الشارع تمثل المجتمع المتحرك والذي يمور بمجموعة من التحولات والتغيرات، فيما النساء اللواتي يضايقن لمياء فهن كناية على الواقع الذي تعيشه المرأة التي تعمل على تذويت القهر بحسب تعبير التربوي لبرازيلي باولو فيريري (تقمص المقهور صفة القاهر وهنا الذكر)، فالمرأة تقوم بدور كبير في قهر الأنثى لأسباب تستحق نقاشا مستفيضا سيخرج به مشاهدو الفيلم بالضرورة بعيدا عن تحميل مسؤولية ذلك للمرأة وحدها، فالنساء هن نتاج مجتمع وبيئة يعشن فيهما.

في السيارة العمومية (كان يمكن أن يكون الفيلم كله داخل السيارة، ولنا في كثير من لوحات الدراما السورية أسوة حسنة) نرى الرمزية الكبرى في الفيلم حيث مجتمع النساء يضغط بقوة على نساء أخريات ويدفع بهن للسير على نفس الطريق، والويل لمن تسلك طريقا مختلفا حيث تنهشها عبارات اللوم والاتهام وقلة الحياء في أقل الحدود.

كما عبرت المخرجة بإبداع عن ثقل حديث "امرأتا الحوش" الذي ينتقل من الواقع إلى الخيال، فتتحولان إلى شبحين يطاردن لمياء، وفي ذلك عمق مضاعف، فالأمر يتجاوز مسألة الحديث المباشر إلى مساحات عميقة من اللاوعي، واللاشعور، وهو ما يقودنا إلى فهم أعمق لطبيعة الضغوط المجتمعية والمخلفات الثقافية التي تسكننا حتى من دون الاعتراف بوجودها المادي.

أمور كثيرة أخرى تحسب للمخرجة من ضمنها الاتكاء على اللهجة النابلسية كلغة حوار في الفيلم، صحيح أن مشكلة الفيلم لا تقتصر على سكان المدينة لكنه توظيف قدم مسحة من الخصوصية ستؤثر على المتلقي وتقرب القضية إلى نفسه. كما أن الفيلم تضمن مجموعة من المفردات الفنية إضافة إلى اللغة مثل: الارجيلة، النارة (البصة) فناجين القهوة، مانيكات العروس، القناع الأسود..الخ وكلها مفردات/ معادلات بصرية تخدم الفيلم ورسالته.

لا تبدو المخرجة معنية بالتصارع مع المجتمع في فيلمها، لكنها تنحاز إلى الأمل ومساحة الحلم والتفكر، ففي مشهد ختامي تنهي فيلمها بلمياء تتحسس قناعها الأسود الذي يحمل شكل المرأة والرجل، في إشارة إلى تصالحها مع مكونات الحياة (الذكر/ الأنثى)، لكنه تصالح مشروط بتوقف الكابوس اليومي الذي يلاحق الفتيات مهما كانت أحلامهن.

أخيرا كلنا أمل أن تتحدث "لمياء" (بصفتها رمزا لفتيات كثر) بعد عرض الفيلم في مواقع وجامعات كثيرة، طالما لم تتحدث طوال دقائق الفيلم السبعة، فقد بقيت صامته تلسعها الأحاديث والاتهامات. أما "عين تطرقها" وهي الجملة التي تكررت كثيرا في الفيلم فهي مستحقة للمجتمع بمكوناته السالبة للحقوق والحريات، على أمل أن يصبح أكثر رحمة في تعامله مع بناته وأحلامهن الصغيرة.

"منشر غسيلو" – كابوس التحرش

يفترض فيمن يؤمنون بمقولة أن "من الأفضل إنك تحتشمي" (أغنية زياد الرحباني التي تبدأ الفيلم)، وهي التي يسردها كثر رداً على تعرض فتاة للتحرش الجنسي اللفظي والمعاكسات التي تتعرض لها المرأة في مجتمعاتنا العربية، يفترض بهم أن يغيروا من قناعاتهم بعد مشاهدتهم فيلم "منشر غسيلو" للمخرجتين من قطاع غزة آلاء الدسوقي وأريج أبو عيد.

الفيلم، إن لم نقل ينسف، فهو يشكك بقوة في تلك المقولة التي نسمعها كثيراً على شكل نصيحة توجه للنساء اللواتي يتعرضن للتحرش اللفظي في الأماكن العامة، وهن كثر، وهن بالمناسبة أيضا مختلفات في مظاهر اللباس وأشكاله.

الظاهرة التي تتفاقم مجتمعياً لا تقتصر على ممن يوصفن بأنهن من غير المحجبات أو "المحتشمات"، أو من اللواتي لا يلتزمن باللباس الشرعي، أو ذلك اللباس الذي يوصف من البعض بأنه لا يراعي المعايير الاجتماعية، تلك المعايير ذاتها لا تراعي من الأساس حق النساء في التواجد في المجال العام/ أو ما يعرف بالحيز العام، الذي هو ملك لجميع المواطنين، وليس للذكور من المواطنين فقط، كما أسست العقلية الذكورية والمعايير الاجتماعية التي ترسخت مع الزمن.

هذا التشكيك في السائد من الأفكار المقولبة والجاهزة هو جوهر عمل السينما ودور الأفلام في حياتنا، أي أن تقوم بإتلاف التالف من أفكارنا وتصوراتنا، وتدمير وفضح الأفكار الخاطئة، والفيلم الجريء فنيا وموضوعا يتصدى لذلك بهدوء ومن دون ادعاء.

تصوير حي وجرافيك

هنا لا بد من التنويه أن "منشر غسيلو" (روائي قصير) يذكرنا بفيلم المخرجة غادة الطيراوي المعنون بـ "فرط رمان الذهب" الذي انتجته "شاشات" قبل أعوام وحاز اهتماما نقدياً لموضوعه الذي عالج ظاهرة الأعتداء الجنسي على النساء ولأسلوبة الفني من حيث المزاوجة بين التصوير الحي والجرافيك، وفيلم الدسوقي وأبو عيد يفعل ذلك، فهو يتصدي لظاهرة التحرش اللفظي، فيتناول بأسلوب ساخر جزءاً من قاموس التحرش الجنسي اللفظي الذي تتعرض له المرأة، مهما ارتدت من ملابس، بالإضافة إلى الاغتصاب البصري الذي يعرّيها مهما غطت نفسها.

الجرافيك أو رسوم الكرتون بصفته بديلا فنيا يستوقفنا في هذا الفيلم بعد موضوعه وطروحاته، فإن الخيار الفني الذي لجأ إليه لتقديم رسالة الفيلم كانت مميزة وخدمت فكرته، فالأفكار كثيرة لكن المهم هنا هو كيف نقولها ونقدمها بطريقة تخدمها أي الأسلوب.

يقدم لنا الفيلم حكاية فتاة في حالات خمس من اللباس مع التحرش اللفظي، بدءا من اللباس الذي يوصف بالضيق ووصلا إلى ارتداء العباءة والنقاب، وفي كل الحالات كانت سهام التحرش لها بالمرصاد، طالما قاموس الذكورة يتسع ويسعف المتحرشين.

يضعنا الفيلم مع حمولة كبيرة من الفاظ التحرش على اختلاف المواقف التي تتعرض لها الفتاة الحائرة في هذا المجتمع، بدءا من "يقبرني الأزرق يا ملاكي.. إذا انت جاجة أنا كاكي"، ومرورا بـ " ربنا أعطاك كل حاجة إلا رقم جوالي"، و"تقبرني وتطلع على قبري بالكعب العالي"، و"بيتك نيال حيطانو.. كل يوم بشوفوك"، و"اللون الأسود أنا مش من أنصاره..المهم الحشوة.. الحشوة هي الأساس" ووصولا إلى "أبوك إرهابي لإنه جاب صاروخ زيك".

يتأسس ذلك كله على فهم راسخ لدى كثيرين ينتج عنه إحالة لتفسير مرضي وغريب عند نقاش قضية التحرش الجنسي، فالنساء بصفتهن (جسدهن/ طريقة لبسهن) هن المسؤولات عن فعل التحرش!، وهذه فكرة قاصرة تماما عن فهم هذه المسألة وبالطبع ستكون عاجز عن معالجتها.

قد لا يستسيغ البعض التسليم بنقض تلك الفكرة، لكن الواقع يقول أنه تفسير خاطيء ولا يجوز أن تبنى المجتمعات على تلك الأفكار، ومن يريد معرفة المزيد عن ذلك عليه أن يدقق في مدننا وقرانا ويراقب السلوك العام بحق النساء ليجد بأم عينه الحقيقة.

نحن بحاجة لفهم سلوك التحرش بحق النساء على اختلافهن، وهذا لا يجود به الفيلم لكنه يطرح مساحة لمناقشته ذلك في عروض كثيرة وتحديدا بين فئة الشباب، فسلوك المتحرش قائم على أنه الشخص الذي يحق أن يحتل الحيز العام وهو المسيطر عليه، وهو ربما ما دفع بالمخرجتين لتكون الفتاة/ بطلة العمل صامته طوال دقائق الفيلم، فعملياً هناك مساحة كبيرة من الصمت تجاه هذه القضية الخطيرة، صمت مجتمعي، يترتب عليه صمت الفتاة المتحرش بها.

الفيلم فنياً ناضج كما موضوعاً، فقد كان الانتقال من التصوير الحي إلى الجرافيك سلسا ومتقنا، بحيث لم نشعر بقطع حقيقي في الفيلم وساعد المونتاج ودعم ذلك.

وتنتهي مشاهد الفيلم بمشهد الشال الأسود متطايرا بالهواء، فيما قطع الملابس الملونة مترامية على أرضية غرفة نوم الفتاة على اختلاف أنواعها، في إشارة إلى أن المشكلة ليست بالملابس فهي قطع قماش تستر الجسد أولا وأخيرا، إنما هي في عقلية من يقولون: "دخيلواااا"، ويصفرون، ومن ثم يكررون "دخيلوا ودخيل منشر غسيلو". فهؤلاء لا يرون المرأة إلا من باب جسد/ عنوان غواية وعليه قطعة قماش!، وهنا تكمن المصيبة الكبرى.

هؤلاء من مخلفات ثقافتنا الاجتماعية الراسخة، من مخلفات العقلية الذكورية التي تستحق الرمي مثلما نرمي قطع الملابس البالية، وإلإ فإن الأسوأ ينتظرنا في علاقة المرأة بالمجال العام، وما جرى في دول عربية قريبة من موجات تحرش جماعي ليس ببعيد عنا.

بقي أن نقدم شكراً خاصاً إلى وحدة الرسوم المتحركة "زيتون" في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية في قطاع غزة لمشاهد الرسوم المتحركة المتقنة.

 

يذكر أن الفيلمين يأت ضمن مجموعة أفلام تعرض ضمن مهرجان شاشات التاسع لسينما المرأة في فلسطين، يتم ضمن إطار مشروع "مُخَلَّفات" الذي تنفذه مؤسسة شاشات، وحصل على تمويل رئيسي من الإتحاد الأوروبي وتمويل إضافي من مؤسسة هنريش بول، ومؤسسة تفي-بيت النرويجية، والقنصلية الفرنسية العامة في القدس.

و"مُخَلَّفات" هو مشروع سينمائي مؤلف من عشر أفلام ومائة عرض ونقاش في الضفة والقطاع، وثلاث حلقات تلفزيونية، ويشمل إنتاج "شاشات" لسبع أفلام جديدة، ثلاثة من الضفة وأربع من غزة، وجميعها تسلط الضوء على مجموعة من القضايا التي نرفضها في محيطنا ونعتبرها جزءا من تلوث حياتنا على الصعيد الثقافي والاجتماعي والبيئي.

 

 

 

 

 

حرره: 
ع.ن